Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا صوروا "أوبنهايمر" عبقريا معذبا بانتصار مأسوي؟

الفيلم حوله إلى أسطورة بمشاعره المتناقضة حول القنبلة الذرية وعكس افتتان الثقافة الأميركية بالرجل وإحساسها بالرعب

صورة تعود إلى عام 1949 للعالم الأميركي روبرت أوبنهايمر (على اليمين) مع العالم النووي إنريكو فيرمي (أ ف ب)

ملخص

الفيلم الذي يحمل اسم أبوالقنبلة الذرية يعكس افتتان الثقافة الأميركية بالرجل وكأنها تحجب الحقيقة المروعة للأسلحة النووية نفسها، كما لو كان هو الزجاج الذي يسمح للمشاهدين برؤية الانفجار النووي بأمان

كان انتصار روبرت أوبنهايمر هو مأساته، فعلى رغم أنه حقق عديداً من الإنجازات في الفيزياء النظرية، فإنه يذكر دائماً بأنه أبوالقنبلة الذرية بعد تصميمها تحت إدارته في مختبر لوس ألاموس، فأضافت إحساساً جديداً بالخطر لا يزال يلازم البشرية حتى الآن، ومع ذلك فإن الثقافة الأميركية ظلت مفتونة بالرجل وتفاصيل حياته المتناقضة إلى حد إنتاج فيلم لقي نصيبه من الانتشار الواسع يقدمه بصفته "عبقرياً معذباً" من دون أن يكون رعب القنبلة محلاً للتناول، فما السبب وراء ذلك؟

ثقافة مفتونة

لا عجب في أن فيلم المخرج كريستوفر نولان الجديد "أوبنهايمر" يروي قصة مختبر لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو الذي صممت وصنعت فيه أول قنبلة ذرية في التاريخ من خلال حياة أوبنهايمر الفردية، مثلما كان هذا العالم نفسه هو محور كثير من الكتابات عن القنبلة، ما جعل الثقافة الأميركية مفتونة غالباً بالرجل الذي كان وراء صنعها، وكأنها تحجب الحقيقة المروعة للأسلحة النووية نفسها، كما لو كان هو الزجاج الذي يسمح للمشاهدين برؤية الانفجار النووي بأمان.

تحول أوبنهايمر إلى أسطورة بفضل الاهتمام الشديد بحياته ومشاعره المتناقضة حول القنبلة، والسبب وراء ذلك يعود، بحسب أستاذ علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، تشارلز ثورب، إلى أن الناس في سعيهم لفهم العقل المأسوي لأوبنهايمر كانوا في الواقع مرعوبين ومنزعجين للغاية من القنبلة نفسها.

وعلى رغم أن أوبنهايمر قدم خلال سنوات عمره التي تلت أول تفجير نووي، تبريراً لاستخدام الحكومة الأميركية للقنابل الذرية بأنها أنقذت الأرواح من خلال منع الحاجة إلى غزو القوات الأميركية للجزر اليابانية الرئيسة في الحرب العالمية الثانية، فإنه نقل إحساساً بالكرب من خلال كتابة نصوص دوره المأسوي، وبخاصة حينما قال بعد عامين من إلقاء قنبلتي هيروشيما ونغازاكي عام 1945، "لقد عرف الفيزيائيون الخطيئة، وهذه معرفة لا يمكنهم أن يتجاهلوها".

إنجازات أوبنهايمر المنسية

وبينما يعرف عالم الفيزياء أوبنهايمر دائماً بأنه أبوالقنبلة الذرية، فإن مساهماته المبكرة في ميكانيكا الكم هي التي شكلت حجر الأساس لكيمياء الكم الحديثة، ولا تزال نظريته مستخدمة حتى اليوم في بنية الجزيئات من دون أن يسلط الإعلام أو الثقافة الأميركية الضوء عليها، على رغم أن طريقة تفكير العلماء في التفاعلات الكيماوية اعتمدت على ورقة بحثية لأوبنهايمر ساعدتهم على تحسين قدرتهم بشكل كبير في حساب التركيب الكيماوي وتفاعل الجزيئات، وفقاً لآرون هاريسون، أستاذ الكيمياء المساعد بكلية أوستن.

وأثناء السنوات الماضية، نما هذا المجال المعروف باسم كيمياء الكم الحاسوبية، بشكل كبير مع توافر موارد حسابية أسرع وأكثر قوة وجودة، أسهمت في خروج تطبيقات مختلفة تتراوح بين اكتشاف المستحضرات الصيدلانية الجديدة إلى تصميم الخلايا الكهروضوئية الأفضل قبل محاولة إنتاجها في المختبر، وفي المستقبل، يمكن لعصر جديد من أجهزة الكمبيوتر أن يجعل كيمياء الكم الحاسوبية أكثر قوة من طريق إجراء عمليات حسابية أسرع على الأنظمة الجزيئية الكبيرة.

لغة دينية

ومع ذلك، التصق اسم أوبنهايمر بالقنبلة الذرية التي غيرت معنى نهاية العالم لدى البشر، ودفعت مجموعة من علماء الذرة منذ عام 1947 إلى التحذير من نهاية العالم عبر مؤشر سموه "ساعة يوم القيامة" كرمز يمثل احتمال وقوع كارثة عالمية من صنع الإنسان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد أن كان تصور الناس في السابق ليوم القيامة على أنه فعل من أعمال الله أو حكمه النهائي، الذي ليس للبشر تدخل فيه، اكتشف الناس أنه يمكن الآن أن يختفي العالم في لحظة بقرار بشري، وكما قال الفيزيائي إيسيدور إسحاق رابي لاحقاً، فإن مشروع القنبلة الذرية "تعامل مع البشر كمادة، لا شيء أكثر من ذلك".

لكن أوبنهايمر استخدم لغة دينية بشكل واضح عند الحديث عن المشروع، كما لو كان راغباً في تأكيد ثقل ومغزى أهميته، حيث أطلق على اختبار القنبلة الذرية لأول مرة في الصباح الباكر من يوم 16 يوليو (تموز) 1945 بجنوب نيو مكسيكو، اسم "ترينتي" أو "الثالوث"، مقتبساً المعنى من قصيدة شعرية لكاتب عصر النهضة الإنجليزي في القرن الـ17 جون دون، والذي اشتهرت أشعاره بمزج المقدس والدنس، وفي هذه القصيدة المقدسة يطلب الشاعر من الثالوث الإلهي أن يجعله جديداً.

مدمر العوالم

وفي وقت لاحق من حياته، قال أوبنهايمر إنه حينما شاهد سحابة الفطر الناتجة من القنبلة وسمع صوت التفجير استدعى كلمات نص هندوسي كلاسيكي يدعى (بهاجافاد جيتا)، قائلاً "لقد أصبحت الموت، مدمر العوالم"، وهي الأسطر التي كانت في الأصل وصف "كريشنا" الإله الرئيس في الهندوسية، حين يكشف عن قوته الكاملة.

غير أن فرانك شقيق أوبنهايمر، أوضح أن كل ما قاله شقيقه وفيزيائي آخر كان معه بصوت عالٍ في ذلك الوقت، كان ببساطة "لقد نجح"، في إشارة إلى مشروع القنبلة الذرية.

ويشير هذا التناقض بين الروايات إلى ازدواجية الصورة العامة لأوبنهايمر ما بين خبير تقني يصنع سلاحاً، ورجل شاعري إنساني مثقل بالأهمية الأخلاقية للقنبلة، لكن بصفته متحدثاً رسمياً ورمزاً لمشروع مانهاتن، بدا أن أوبنهايمر يشجع أحياناً فكرة أن ذلك كان من صنعه الشخصي ومسؤوليته على رغم أن الواقع يشير إلى أن القنبلة الذرية كانت نتاج عملية علمية وهندسية وصناعية وعسكرية عملاقة، شعر فيها العلماء أحياناً وكأنهم تروس في آلة، وأنه لم يكن هناك "أب" فردي للقنبلة الذرية، وهو ما لاحظه عالم الرياضيات جون فون نيومان بشكل واضح، حين يقول "بعض الناس يقرون بالذنب لادعاء الفضل بالمساهمة في خطيئة".

وصف ما لا يوصف

بعد أسابيع فقط من اختبار أول قنبلة في صحراء جرداء بولاية نيو ميكسيكو الأميركية، سوت القنابل الذرية مدينتي هيروشيما وناغازاكي الصاخبتين بالأرض يومي 6 و9 أغسطس (آب) على التوالي، وتوقف الوجود فيهما في لحظة وصف تجربة الناجين منها روبرت ليفتون، الخبير في سيكولوجية الحرب والعنف والصدمات، بأنها "الموت في الحياة، لقاء مع ما لا يوصف".

وعلى النقيض من ذلك، يعيد المخرج كريستوفر نولان في الفيلم إنتاج شدة اختبار ترينيتي في صحراء نيومكسيكو بالألوان والصوت، متتبعاً الوميض الساطع مع توقف، ثم قعقعة وهدير الانفجار العميق وموجة الصدمة، لكن عندما يتعلق الأمر بهيروشيما وناغازاكي، فإنه يختار تمثيل الهجوم دون تصويره.

وإذا كان "بروميثيوس" شخصية اشتهرت في الأساطير اليونانية بتحديه الآلهة عبر سرقة النار منهم وإعطائها للإنسانية في شكل معرفة وحضارة، فقد كانت "أميركان بروميثيوس" هي السيرة الذاتية الشهيرة لأوبنهايمر التي استند إليها الفيلم، وعرض من خلالها كريستوفر نولان خطاب أوبنهايمر المنتصر أمام جمهور وسط هتاف في قاعة لوس ألاموس، معلناً تدمير هيروشيما بالسلاح الذي صنعوه، قبل أن يخلق نولان إحساساً بالانفصال، مع دخول رعب القنبلة إلى المشهد من خلال ذكريات الماضي لاختبار ترينيتي وصور الجثث المحترقة من هيروشيما، ليتغير هتاف العلماء بشكل مرعب إلى النحيب والبكاء.

قنبلة نهاية الحروب

بعد نهاية الحرب، سعى عديد من العلماء الذين عملوا في مشروع مانهاتن لتأكيد أن القنبلة الذرية لم تكن مجرد سلاح آخر، حيث جادلوا بأن خطرها الهائل يجب أن يجعلها حداً فاصلاً ينهي جميع الحروب، ومن بين هؤلاء العلماء، حصل أوبنهايمر على أكبر قدر من السلطة نتيجة لقيادته لوس ألاموس ومواهبه الخطابية، إذ دفع جهوده من أجل الحد من التسلح، ولعب الدور الرئيس في صياغة تقرير أتشيسون - ليلينثال عام 1946، والذي دعا بشكل جذري إلى وضع الطاقة الذرية تحت سيطرة الأمم المتحدة.

لكن الشكل الذي انتهى إليه هذا المقترح، والمعروف باسم خطة باروخ، رفضه الاتحاد السوفياتي آنذاك وشعر معه أوبنهايمر بخيبة أمل مريرة، لكن الدبلوماسيين الذريين الأميركيين ربما استهدفوا رفض الاتحاد السوفياتي، إذ كانت البحرية الأميركية في هذا التوقيت تختبر قنابل ذرية فوق جزيرة بيكيني المرجانية في المحيط الهادئ.

وبدلاً من رؤية القنبلة كسلاح لإنهاء جميع الحروب، بدا أن الجيش الأميركي يتعامل معها على أنها الورقة الرابحة، وهو ما يشير إليه فيلم كريستوفر نولان حين تضمن تصريحاً من الفيزيائي البريطاني باتريك بلاكت بأن تدمير هيروشيما وناغازاكي لم يكن آخر عمل عسكري في الحرب العالمية الثانية، ولكن العملية الرئيسة الأولى للحرب الدبلوماسية الباردة مع روسيا.

عندما تمكن السوفيات من إنتاج القنبلة الذرية الخاصة بهم عام 1949، عارض أوبنهايمر ومجموعته الاستشارية العلمية اقتراحاً بأن ترد الولايات المتحدة بمتابعة تطوير القنبلة الهيدروجينية، التي تعد أقوى ألف مرة من القنابل الذرية التي ألقيت على اليابان، غير أن معارضته هذه مهدت الطريق لسقوط أوبنهايمر من الحظوة السياسية.

وفي غضون بضع سنوات، اختبرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي القنابل الهيدروجينية، ليبدأ عصر التدمير المتبادل المؤكد، حيث يكون مما لا شك فيه أن أي هجوم نووي من أي طرف سيقضي على كلتا القوتين العظميين.

وفي حين تمتلك تسع دول حول العالم أسلحة نووية، إلا أن 90 في المئة من هذه الأسلحة لا تزال تمتلكها الولايات المتحدة وروسيا التي ورثت ترسانة الاتحاد السوفياتي من الأسلحة النووية.

وإذا كان أوبنهايمر أجاب حين سئل في وقت متأخر من حياته، عن احتمالية إجراء محادثات للحد من انتشار الأسلحة النووية بأن الأوان قد فات، وأنه كان يجب أن يتم ذلك في اليوم التالي لاختبار ترينتي، يظل السؤال هو لماذا تفشل البشرية في التحكم برغبة التدمير وتسير على طريق لا عودة منه على رغم كل الخوف والهلع الذي يصيب الجميع عندما يشاهدون الدمار الهائل للمرة الأولى؟

المزيد من تقارير