ملخص
لم تتمكن لجان النزاهة الحكومية والبرلمانية من حسم الملفات العالقة أو حتى عرضها للمناقشة حيث تمس قوى مسلحة.
يجمع العراقيون على فساد نظامهم السياسي لسببين، الأول تراكمي بسبب حروب النظام السابق والحصار الذي استمر من 1990 إلى 2003، بكل ما خلفه من عوز وحرمان وضحايا بالآلاف، ووقتها لم تكن تعلن موازنات الدولة الحقيقية على الرأي العام بشفافية لمناقشتها والموافقة عليها من قبل البرلمان، فهذا "اختصاص القيادة" كما كان يقال للجمهور.
السبب الثاني هو السرقات والمشاريع الزائفة خلال الحقبة الحالية (2003-2023)، فعلى رغم مناقشة الميزانيات علناً فإنها تسرق سراً، كما تؤشر لجان النزاهة في الحكومة والبرلمان وتنفق أموال الموازنات السنوية على أبواب صرف واضحة ومسببة، لكنها غير فعالة في تلبية حاجات المجتمع كالصحة والتعليم والكهرباء وبناء السدود التي باتت مطلباً شعبياً بعد أزمة شح المياه.
في الغالب تؤول تلك الأموال الحكومية (المعلنة) إلى سياسيي المحاصصة المخولين بصرفها على منافذ شتى غير التي خصصت من أجلها في المناقشات، وتتجلى مظاهر ذلك في تخمة مالية لدى نافذين في الدولة ممن يديرون مراكز أحزاب أو ميليشيات أو واجهات سياسية تفرض صوتها ظاهراً أو باطناً على المجتمع.
ويعاني العراق تزايد معدلات البطالة، وهبوط قيمة الدينار باستمرار، وديون الدولة الآخذة دائماً بالارتفاع في بلد ينتج أربعة ملايين برميل نفط يومياً.
عقارات الدولة منهوبة
ظواهر كثيرة ترافق حمى الفساد وتتعدى البعدين الاقتصادي والسياسي إلى مستويات أخرى تصب في العمق الاجتماعي والصحي والبيئي، فإضافة إلى الاعترافات الدولية بمدى تجذر الفساد في المجتمع العراقي، فإن تصنيفات منظمات الشفافية الدولية حيال هذه الظاهرة تضع البلاد في المراتب الأولى، كما لم تتمكن لجان النزاهة الحكومية والبرلمانية من حسم آلاف الملفات العالقة أو حتى عرضها للمناقشة لأنها تمس قوى مسلحة.
هناك أيضاً مظاهر جديدة لافتة أبرزها ظهور أسماء أشخاص، لم يكن المجتمع العراقي يعرفهم قبل عام 2003، لكنهم أضحوا من أصحاب المليارات والقصور التي يشغلها الساسة ورجال الميليشيات بمسوغات غير قانونية، فهناك أكثر من 400 عقار تابع للدولة في العاصمة بغداد وحدها يسيطر عليها بطرق غير مشروعة عديد من القوى المسلحة في مجتمع يئن من الجوع ويصرخ من غلاء المعيشة ونقص الأدوية وانتشار المخدرات التي تفتك بالجيل الشاب، بعد أن تحول العراق إلى دولة مصدرة للمخدرات وليس فقط دولة عبور باعتراف الأجهزة المتخصصة.
المهرب من الخراب
مظاهر الخراب المجتمعي لا تعد أو تحصى، ومسبباته أضحت أمراً متداولاً في الحياة العامة، وهو ما يدعو إلى التساؤل: هل من مخرج لهذه المشكلات والأزمات التي يعانيها العراق؟
يقول عميد كلية العلوم السياسية السابق بجامعة بغداد نديم الجابري لـ"اندبندنت عربية"، "هناك تباينات واسعة لدى العراقيين في شأن الحل الجذري لمشكلاتهم، فجمهور السلطة والمنتفعون منها أو المقتنعون بها يعتقدون أن الحل مرهون بالتمسك بالوضع الراهن والتصدي لأعداء العملية السياسية، مع إجراء تعديلات طفيفة على الدستور وآليات الحكم. أما الاتجاهات المناوئة لنظام الحكم القائم فإنهم يعتقدون بضرورة الإجهاز على الوضع الراهن كلياً واستبداله بوضع جديد من حيث الطبقة السياسية الحاكمة والدستور وآليات الحكم".
ويضيف الجابري أن "قطاعات شعبية واسعة تراقب الأمور بعناية من دون أن يكون لها موقف محدد، إذ لا هي مع المحافظة على الوضع الراهن ولا مع تغييره جذرياً، وهذا الاتجاه لا يسهم بحل مشكلات البلاد، مع الإشارة إلى أن هناك قطاعات خارج دائرة الوعي، لذلك لا نلمس لها رأياً في هذه المشكلات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يؤيد رئيس مركز التفكير السياسي العراقي إحسان الشمري، هذه الرؤية مؤكداً لـ"اندبندنت عربية" أن "العراقيين منقسمون حيال النظر إلى مشكلاتهم، فلابد أن نميز بين من حكم العراق وكيف كان ينظر إلى مشكلاته كدولة وشعب، والنخبة السياسية ونظرتها إلى هذه المشكلات نفسها. هذا من جانب، ومن ناحية أخرى وجهة نظر الشعب تجاه أزماته المستدامة. لكن بالمجمل هي مشكلات بنيوية منذ التأسيس في عشرينيات القرن الماضي، فطبيعة بناء الدولة ومؤسساتها وطبيعة الانقلابات وتغير الأنظمة السياسية كلها أسباب أثرت بشكل كبير جداً في تفاقم الأزمات العراقية، فضلاً عن غياب الحلول لأن النظم والحكام كل له نظرته في ما يرتبط بطبيعة المعالجة، لذلك تفاقمت الأزمات على مدى عقود طويلة من الزمن قاربت 100 عام".
ويضيف الشمري "لم تكن هناك نظرة استراتيجية، ولم يكن هناك رجال دولة يتفهمون البناء التراكمي للدولة ومؤسساتها، مع بروز ظواهر خطرة خلال الحقبة التي نعيشها مثل سيطرة السلاح والحزب الواحد والانقلابات العسكرية، وهذه جميعاً أنتجت قناعة مفادها أنه لا يمكن إيجاد حلول لهذه الأزمات المتراكمة، خصوصاً في ظل غياب طبقة سياسية واعية ومتنورة، وحتى الآن تترسخ قناعة بأن هذه المشكلات قد لا تندفع باتجاه الحل لأن الطبقة السياسية الحالية لا تملك حلولاً".
الولادة الملتبسة
لكن الباحث مؤيد الونداوي وهو متخصص بتاريخ العراق السياسي، يرى الحل من بعد آخر تماماً، بمعنى تفكيك بنية الدولة، متهماً نخبها بالتقصير.
يذهب الونداوي إلى تأصيل تاريخي لهذه الظاهرة بالقول "لابد أن نؤكد أننا دولة حديثة التكوين خرجت من قرون الظلام والجهل والأمية والتخلف في مختلف الميادين، لكن شاء الله أن يمنحها كثيراً من إمكانات الغنى والتطور والتحضر، لهذا كانت المهمة كبيرة أمام الآباء المؤسسين مطلع القرن الـ20 في بناء الدولة الحديثة ونزعها من واقعها القديم وفرض معطيات حضارية جديدة، وذلك في ظل تحديات داخلية وخارجية ومساع للهيمنة الاستعمارية والتدخل الخارجي الدولي والإقليمي، وهذه المساعي انطلقت مع دخول العراق إلى عصبة الأمم المتحدة عام 1932، وقتها كتب الملك فيصل الأول رسالته الشهيرة التي مع الأسف لا ينظر إليها من بعدها الإيجابي بقدر ما يحاول بعضهم استخدامها بشكل سيئ لأسباب سياسية وأخرى طائفية على رغم أنه أرسلها إلى نخبة محددة ممن عملوا معه من وزراء ومسؤولين، وكان يشرح فيها حال بلاده على المستوى الإثني والعرقي والقومي والديني، لقد كان يريد أن يبني دولة الأمة التي يعيش فيها الجميع متساويين، ووثق رؤيته هذه في دستور العراق الأول الذي أطلق عام 1926، وبعد هذا التاريخ، ولأجل إثبات حاجة الدولة للأمن والدفاع ومشاركة السكان في هذه المهة، كانت قضية فرض الخدمة العسكرية الإلزامية واحدة من الأمور المبكرة لحل بعض الإشكالات، فقد كانت العشائر حينها تخشى إرسال أولادها إلى الخدمة في الجيش العثماني لأن غالبيتهم كان يذهب ولا يعود، لكن الوضع تغير إبان الحكم الملكي (1921-1958)، إذ صدرت عشرات القوانين التي كانت تسعى لحل مزيد من المعضلات التي واجهت المجتمع خلال مرحلة بناء الدولة الحديثة".
يتابع الونداوي "لعل واحدة من الأمور التي صعب أمرها هي العلاقة بين المكونات العراقية نفسها، إذ كان بعضها يصر على إبقاء الفجوات مع أبناء الطوائف الأخرى، أو الحيلولة دون التوصل إلى حلول عقلانية لحاجة البلاد إلى الوحدة الوطنية، وكانت القضية الكردية دوماً محل تفكير وقلق العراقيين".
دوامة الفوضى
لكن البلاد دخلت في دوامة جديدة من الفوضى بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وتغير واقعها نحو مزيد من الإشكالات التي تمس وجود الدولة العراقية وتحدياتها الصعبة بعد أن ضعفت كثيراً، وتم حل جيشها الوطني وهو بعمر 82 عاماً، وضربت مؤسساته واستعيض عنها بمؤسسات جديدة تخلت عن محصلات القيم التي ترسخت طيلة 100 عام من عمر الدولة.
يقول الونداوي "بعد 2003 برزت لدينا معضلات جديدة لا يدرك صانعوها خطورتها على مستقبل البلاد ووحدتها وسيادتها، لقد استعجلوا كل شيء ودمروا 100 سنة من البناء، وباشروا بمهمة الفساد في معظم حلقات مؤسسات الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، لهذا فإن الجميع يفكر الآن في كيفية الخروج من هذا المستنقع الذي أسهم في فرضه مع الأسف أبناء الوطن أنفسهم".
ويتساءل الباحث "كيف نجعل الجميع يفهم أن مصلحة المجتمع هي في التقدم للأمام بطريقة سليمة وعدم البقاء في النقطة نفسها والبناء عليها بشكل خاطئ؟ لا أتكلم عن الحاجة إلى التعليم العالي الجيد، أو الصحة بواقعها المتقدم، ولا عن قوانين تصاغ لمصلحة أفراد وشركات أو جهات معينة، بقدر ما أتحدث عن نظام قانوني وقضائي متطور يستجيب للحاجات الإنسانية والأخلاقية والمجتمعية، فنحن في القرن الـ21 وبعض السلوكيات لا تزال بدائية، وقد أحيط العراقيون بأسيجة من التخلف والتراجع في معظم الميادين، فعلى رغم أن لديهم وسائل اتصال جيدة مع العالم الخارجي، فإنهم انشغلوا بقضايا داخلية يعطونها وقتاً طويلاً مثل حاجتهم إلى الماء أو الطاقة الكهربائية والأمن والصحة والتعليم، لقد أجبروا على أن يبقوا في دوامة أزمات من هذا النوع، فكيف يفكرون في التقدم والارتقاء بمكانتهم بين المجتمعات الحديثة؟".