ملخص
قبل أزمة وباء كورونا بسنوات كانت الصين تحقق نمواً اقتصادياً يفوق نسبة 10 في المئة
تزامناً مع صورة ضبابية في شأن توقعات نمو الاقتصاد العالمي هذا العام واحتمال خفض المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين تقديرات النمو مجدداً، جاءت مؤشرات أداء الاقتصاد الصيني للربع الثاني مخيبة آمال السوق وتوقعات الاقتصاديين.
على رغم أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لثاني أكبر اقتصاد في العالم في الأشهر الثلاثة من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران) هذا العام تزيد على نسبة ستة في المئة، مقابل نمو بنسبة 4.5 في المئة في الربع الأول، إلا أن توقعات الأسواق كانت لنمو أعلى من نسبة سبعة في المئة.
ومنذ أعلنت البيانات الرسمية في بكين، مطلع الأسبوع، تتوالى التحليلات والتعليقات حول تباطؤ الاقتصاد الصيني ومشكلاته و"خيبة أمل" الأسواق من تلك النتائج.
ومن وكالة "بلومبيرغ" إلى شبكة "سي أن بي سي" وغيرهما انسابت التغطيات المتشائمة، التي لا تطال وضع الاقتصاد الصيني وحده، بل الاقتصاد العالمي وبخاصة شركاء الصين التقليديون والجدد.
أكد المسؤولون الصينيون أن الاقتصاد على طريق الانتعاش، ربما ليس بالنسب المتوقعة، بما يمكن أن يحقق المستهدف الرسمي بنمو نسبته خمسة في المئة في المتوسط لهذا العام.
وبحسب معدلات النمو في الربعين الأول والثاني للعام يصبح متوسط نمو نصف العام عند نسبة 5.5 في المئة، ومع أنها نسبة تقترب من نصف معدلات النمو العالية جداً قبل أزمة وباء كورونا بسنوات، حين كان النمو السنوي يفوق نسبة 10 في المئة، إلا أنها تظل أيضاً أعلى من متوسط النمو المتوقع للاقتصاد العالمي هذا العام (أقل من نسبة 2.8 في المئة) ومن متوسط نمو الاقتصاد الأميركي، أكبر اقتصاد في العالم، للربع الثاني والمقدرة بما بين 1.4 و1.9 في المئة.
تفاؤل مفرط وإحباط شديد
حين رفعت الصين نهاية العام الماضي فجأة كل القيود التي فرضتها بسبب وباء كورونا مستهدفة "صفر كوفيد"، توقعت الأسواق والمؤسسات المالية العالمية "قفزة" انتعاش هائلة في اقتصادها، لكن ما حدث هو انتعاش تدريجي بطيء، كما يظهر من أرقام الربعين الأول والثاني هذا الأسبوع، بالتالي جاء الإحباط الآن نتيجة التفاؤل المفرط، ويتسق ذلك مع عدم سير الواقع الفعلي للاقتصاد العالمي بحسب تقديرات وتوقعات السوق والمؤسسات المالية، بما في ذلك البنوك المركزية الرئيسة حول العالم التي أخطأت في تقدير مدى وعمق معدلات التضخم.
ومع مواجهة الاقتصاد العالمي احتمالات التباطؤ الشديد، وحتى إمكانية الركود في اقتصادات رئيسة، تزداد مخاوف الأسواق والمستثمرين ويتشاءم الاقتصاديون في حال عدم نمو الاقتصاد الصيني وغيره من الاقتصادات الصاعدة بقوة تقليدياً بالقدر الذي يمكن أن يرفع من معدلات نمو الاقتصاد العالمي.
تلك المخاوف والتشاؤم، وإن كان لها ما يبررها، تبدو مبالغاً فيها، فالصينيون يدركون أن اقتصادهم في حالة تراجع لمعدلات النمو السريع والقوي، وذلك نتيجة عدة أسباب بعضها داخلي يتعلق بسياسات السلطات الصينية في الآونة الأخيرة وبعضها خارجي يتعلق بمشكلات جيوسياسية أهمها الصراع مع الولايات المتحدة.
أسباب التباطؤ الصيني
من أسباب تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، القيود التي فرضت نتيجة أزمة وباء كورونا منذ بداية عام 2020، التي كانت أشد في الصين عن بقية دول العالم، وإجراءات السلطات الصينية في العام الأخير بهدف ضبط الاقتصاد بخاصة في القطاعات التي شهدت توسعاً يقترب من الغليان مثل القطاع العقاري وقطاع التكنولوجيا المالية وغيرها.
في فترة رئاسته الجديدة، يستهدف الرئيس الصيني شي جينبينغ زيادة دور الدولة في تلك القطاعات التي توسعت بشدة في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال إجراءات تنظيمية ورقابية أكثر تشدداً، كما أن القطاع المالي بالتحديد يشهد ما يشبه إعادة هيكلة في محاولة من السلطات الصينية لتحقيق هدفين، الأول، هو حماية نظامها لمالي الذي يشتبك حثيثاً مع النظام المالي العالمي، من الصدمات التقليدية التي تواجهها أسواق الاقتصادات الرأسمالية التقليدية في أميركا والغرب، وثانياً، التحسب لاحتمال تعرض البلاد لموجة عقوبات أميركية وغربية مثلما حدث مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
تلك الإجراءات كان لها بالتأكيد تأثير سلبي على معدلات النمو الاقتصادي، ومن المتوقع أن يستمر ذلك لفترة مع استيعاب القطاعات المعنية للإجراءات الجديدة وأيضاً مع احتمال تشديد مزيد من الإجراءات التنظيمية والقواعد المالية.
ينعكس ذلك أيضاً على انتعاش الاستهلاك الداخلي، إما نتيجة عدم اليقين لدى الأسر الصينية في شأن المستقبل أو نتيجة تباطؤ النشاط الصناعي وغيره مما يقلل من فرص العمل، وبما أن الإنفاق الاستهلاكي هو المكون الأكبر في نمو الناتج المحلي الإجمالي فإن ذلك أيضاً يضغط على معدلات النمو تباطؤاً.
أما العامل الخارجي، فيتمثل أساساً في زيادة العقوبات الأميركية على الصين والقيود على الاستثمار فيها، إلى جانب الإغراءات الحكومية للشركات كي تنقل أعمالها من الصين إلى الولايات المتحدة، ويبدو ذلك واضحاً في تراجع التجارة، التي تمثل أحد أعمدة الاقتصاد الصيني.
وتضغط الولايات المتحدة على شركائها كي يفعلوا بالمثل مع الصين، وبدأ البعض مثل هولندا واليابان بفرض قيود على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى بكين، وردت الصين بإجراءات مماثلة، منها تقييد وصول شركات غربية للمعادن النادرة التي تكاد تحتكرها بكين، والمستخدمة في صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية.
الشركاء الجدد
المثير في التغطية المكثفة للصين بعد صدور أرقام الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني، هو محاولة التقليل من أهمية الشراكات الجديدة التي تقيمها بكين مع قوى أو كتل اقتصادية مثل مجلس التعاون الخليجي وبعض الدول العربية التي شاركت في قمة حضرها الرئيس شي في السعودية أخيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن دول الخليج على سبيل المثال، التي زادت استثماراتها في الصين في العام الأخير بنسبة نحو ألف في المئة، تستفيد من تقييد الاستثمارات الأميركية وربما الغربية في اقتصاد ما زال واعداً بالنمو ربما بضعف معدلات النمو الاقتصاد العالمي ككل. وتستهدف دول الخليج تطوير علاقاتها مع الصين، وكذلك الهند وغيرها من القوى الصاعدة الأخرى، في مجالات وقطاعات متنوعة غير قطاع الطاقة، وهذا هو سبب الارتفاع الهائل في التبادل الاستثماري أخيراً، إذ لم تعد علاقات الصين مع المنطقة قاصرة فقط على استيراد النفط والغاز منها.
تريد الولايات المتحدة في صراعها مع الصين، أن تحاصرها من جانب حلفائها، لكن دولاً كثيرة، بخاصة بعد حرب أوكرانيا، أصبحت تقدم مصالحها الوطنية والإقليمية على الانصياع للخطط الاستراتيجية لأميركا أو غيرها من الحلفاء الرئيسين، وحتى أوروبا، لا يبدو موقفها في الاستجابة للضغوط الأميركية في شأن العلاقات مع الصين مثل موقفها من روسيا.
صحيح أن منطقة الخليج، والعالم العربي، ليست بالسوق التي تعوض الاقتصاد الصيني عن السوقين الأميركي والأوروبي لكن تلك الشراكات والتعاون التجاري والاستثماري تصب في مصلحة الطرفين، وإذا كانت تفيد الاقتصاد الصيني نسبياً في مواجهة التصعيد الأميركي والغربي، فإنها أيضاً تفيد الدول الخليجية والعربية التي تعمل على تنويع اقتصاداتها وتوفر فرصاً استثمارية للشركات والأعمال الصينية.