Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نموذج تداعيات غياب العقلانية في الحرب الأوكرانية

كلما أضيف تصعيد عسكري جديد ينزلق الصراع بأبعاده النفسية والسياسية إلى مستويات يصعب السيطرة على تداعياتها

المدفعية الأوكرانية على خط المواجهة بالقرب من بلدة باخموت (أ ف ب)

ملخص

الحرب تتجه إلى منزلق لن يمكن منعه إلا في حالة معجزة، والمراهنات تضيق، فالولايات المتحدة لم تكن الدولة الوحيدة التي لم تشارك في التوقيع على معاهدة حظر القنابل العنقودية، إنما أيضاً روسيا وأوكرانيا.

بموافقة الرئيس الأميركي على تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية تكتمل خطوات أخرى في مسيرة حماقة هذه الحرب وما تنتهي إليه المباراة الصفرية في الصراعات السياسية والمسلحة من نتائج وتداعيات، والمؤسف أنها تبدو شبه حتمية.

وكما يتردد، وهي نتيجة منطقية، لفشل ما سمي هجوم الربيع الأوكراني، مما دفع الرئيس بايدن إلى هذه الخطوة على رغم معارضة حلفاء مهمين له، وليس مهماً قوله إن هذا "قرار صعب"، فقد اتخذ القرار بالفعل، بخاصة أن معظم هؤلاء الحلفاء من الدول أطراف معاهدة حظر هذا السلاح المدمر، فالبيانات البريطانية والألمانية والكندية واضحة في هذا الصدد، وبالطبع ربما تكون تصريحات رئيس الوزراء البريطاني التي تلعب بلاده الدور الرئيس، بل والأنشط في تعظيم الدعم الغربي لأوكرانيا بأنها لا تشجع على استخدام هذه القنابل، إذ كانت واحدة من الدول الـ123 التي وقعت على حظر هذا السلاح، الذي يترك آثاراً مدمرة للمدنيين بعد انتهاء الحروب، حيث تنفجر هذه القنابل في مراحل لاحقة.

سببت هذه الخطوة سببت صدور تحذيرات من رئيس كمبوديا ومناشدته الرئيسين الأميركي والأوكراني عدم اللجوء إلى هذا السلاح، الذي اعتبره الأخطر على الشعب الأوكراني، ومذكراً بجريمة واشنطن في بلاده خلال السبعينيات بهذا الصدد، وكيف دفع الشعب الكمبودي الثمن.

كما انتقدت الأمم المتحدة هذا القرار، وكذلك دول أوروبية أخرى، وإزاء الصمت الفرنسي النسبي هاجمت قوى المعارضة اليمينية صمت حكومة الرئيس ماكرون عما وصفته بالذخائر القبيحة وغير القانونية.

تكريس المباراة الصفرية

ذكرنا هنا منذ الأسابيع الأولى لهذه الحرب أنها تسير في اتجاه حرب استنزاف ومباراة صفرية، كل طرف فيها سيسعى إلى تدمير الطرف الثاني، وحرمانه من النصر بأي ثمن، وأنه عندما تترسخ هذه الطبيعة للصراع تضيق مساحة القرار الرشيد للطرفين، وتترسخ أيضاً تأثيرات نفسية معقدة على أطراف الصراع وقيادتهم، وكل طرف سيقرأ كل خطوة يقدم عليها الطرف الآخر بوصفها مؤامرة أو عملاً عدائياً. وفي التقدير إن هذه الحرب ستصبح النموذج الدراسي لكل جوانب المعركة الصفرية، وكيف تؤثر في صناع القرار، وكيف تتعقد الأمور، وتتجه إلى مسارات ضيقة لا تتيح حرية الحركة، ليس فقط لأطراف الصراع، لكن أحياناً أيضاً للأطراف غير المباشرة المعنية أو المتداخلة في هذا الصراع.

والمعنى المهم الذي تعنيه هذه الخطوة أن طرف المباراة الصفرية من المعسكر الغربي، وهما إدارة بايدن وحكومة زيلينسكي، وليس الولايات المتحدة ودولة أوكرانيا. فبايدن بعد أن استثمر كثيراً، ورمى بكل ثقل بلاده في هذه المعركة وضع مستقبله ومستقبل حزبه السياسي الديمقراطي في هذا الجانب الذي سيعني هزيمته خسارة الانتخابات الرئاسية، سواء كان المرشح، وهذا حتى الآن الأرجح، أو مرشح الحزب الذي أبدى بعض أعضائه تحفظهم ضد القرار.

وعلى صعيد آخر، فإن زيلينسكي لا يأبه من أجل تحقيق النصر، وليس هذا جديداً بسياسة الأرض المحروقة التي ستسببها هذه القنابل في بلاده لو حدثت هزيمة لروسيا، وأنها ستعني انتقال الدمار من البنية الأساسية إلى مرحلة تدمير سكانية كذلك، أو ستخلف عنها مناطق شاسعة مهجورة، أو ستتكلف كثيراً لتطهيرها. واللافت أن هذه الأخطار سيعانيها الجيش الأوكراني لو استعاد الأراضي التي تحتلها روسيا حالياً. ولنتذكر أن فلسفة الأرض المحروقة في الحروب هي تراث روسي، ومن ثم فهو أيضاً أوكراني شهير في تجاربها العسكرية التاريخية، ولها تجارب في الولايات المتحدة خلال حرب الاستقلال، لكن الولايات المتحدة تمارس هذا النهج الآن خارج أراضيها، وبعيداً من شعبها الذي لا يقوى في العالم المعاصر على مثل هذا النهج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ماذا سيحدث لاحقاً؟

يمكن القول إن سيناريوهات المستقبل أصبحت أكثر وضوحاً وبساطة، وإن الحرب تتجه إلى منزلق لن يمكن منعه إلا في حالة معجزة، والمراهنات تضيق، فالولايات المتحدة لم تكن الدولة الوحيدة التي لم تشارك في التوقيع على معاهدة حظر القنابل العنقودية، إنما أيضاً روسيا وأوكرانيا، ومن ثم سيكون هذا السلاح أحد الأسلحة الرئيسة التي سيتم التصعيد بها من الجانبين في الفترة القصيرة المقبلة، وأن مستويات التدمير الفائقة للأراضي الأوكرانية ستتواصل بمعدلات كبيرة مصاحب لها فقد كبير للأرواح من عسكريين ومدنيين من الجانبين، وأن معظم أراضي أوكرانيا ومحتمل جزء من المناطق الروسية المتاخمة لأوكرانيا ستصبح مناطق صعبة العيش بالنسبة إلى البلدين.

وعلى رغم أن المراقبين سيحاولون الحذر في توقع النتائج فإنه بهذه الخطوة الأخيرة فالأرجح أننا أمام احتمالين أكثر وضوحاً من ذي قبل، الاحتمال الأول أن هذا التطور لن يحول دون هزيمة أوكرانيا، وتأكد فشل هجومها العسكري المضاد، وغالباً ستصعد روسيا من ردها العسكري التدميري، وسيؤدي هذا إلى دمار واسع النطاق سيدفع ثمنه الشعب الأوكراني بشدة، وستزداد نقمة وغضب الشعوب الغربية ضد كل هدر الموارد الذي جرى مما سيترتب على ذلك أزمة واسعة النطاق في المعسكر الغربي، وحسم خروج بايدن من السباق الرئاسي واحتمال تحرك أطراف مثل فرنسا وألمانيا بخطوات استدعاء للطرف الصيني للخروج من هذه الورطة.

أما الاحتمال الثاني الكارثي فهو أن يؤدي التصعيد الأميركي إلى تراجع روسي عسكري، مما يتسبب في ظل المباراة الصفرية وغياب التفكير الرشيد عن أطراف الصراع إلى لجوء الرئيس بوتين الذي لن يفقد مستقبله فقط، بل الأرجح حياته كذلك إلى ما يسمى الخيار النووي التكتيكي محدود الأثر، أو أية أسلحة أخرى شديدة الدمار، لكن أحداً لا يعرف سلسلة النتائج التي قد تترتب على ذلك في العالم والغرب، وحتى في الداخل الروسي.

المشكلة إذاً أنه كلما أضيف تصعيد عسكري جديد فإن الصراع ينزلق بأبعاده النفسية والسياسية إلى مستويات يصعب السيطرة عليها وعلى سلسلة تداعياتها، كما أن المشكلة التي ستتركها هذه الحرب أنها ستذكرنا بأن أوهام البشر حول التقدم والرشادة ما زالت بعيدة، وأن كل خطوة وإنجاز قد يحققه التقدم العلمي مثلما تخلق فرصاً إيجابية للبشرية فإنها قد تسبب تداعيات وحالة من عدم اليقين غير معروفة، ولعل هذا يكون مقدمة لمخاوف جديدة مما يمكن أن يسببه الذكاء الاصطناعي في عالم الحرب.

المزيد من تحلیل