Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأزياء تشكل هوية الفرد انطلاقا من الجسد والذات

 "الموضة" في قراءة فلسفية تكشف علاقتها بالسوق الاستهلاكية وعالم الفن

مشهد من متحف إيف سان لوران (متحف لوران)

لارس سفندسن هو فيلسوف - أو مشتغل بالفلسفة - في جامعة برجن في النرويج وهو كاتب غزير، صدر له على سبيل المثال: "فلسفة الملل" (2006) و"فلسفة الخوف" (2008) و"فلسفة الشر" (2010) و"فلسفة الحرية" (2014) و"فلسفة الوحدة" (2017) و"الموضة: فلسفة" (2006). وهذا الكتاب الأخير هو الذي صدر أخيراً عن بيت الفلسفة في الفجيرة وترجمه إلى اللغة العربية بمهارة وسلاسة بليغة عبدالله إسماعيل، وقد اختار المترجم أن يكون العنوان "الموضة: دراسة فلسفية". وهي صياغة لا تغير من الهدف الأصلي للمؤلف الذي ينفي أن يكون كتابه دراسة عن تاريخ الموضة أو جمالياتها، ويعلن أن ما يشغله هو "مسألة علاقة الموضة بتشكيل هوية الفرد" (17). ولأن مصطلح موضة يطلق على عديد من التوجهات، كالأفكار والكلام واللغة، فإن المؤلف يحدد أن الأزياء هي محور البحث والمقصود مصطلح الموضة.

إذا كان الكتاب يعمل على قراءة العلاقة بين تشكل الهوية والموضة فمن المتوقع أن يخوض في كثير من المجالات، فهو يشتبك مع الجسد واللغة والفن -أكثر الفصول إمتاعاً- والاستهلاك، وفي كل مجال يقدم قراءة ثرية كاشفة تؤكد أن الموضة بالفعل مرتبطة بالهوية والأحداث التاريخية والبنى الاجتماعية ورأس المال الرمزي والثقافي ويليه الاقتصادي، بالمعنى الذي طرحه بيير بورديو. وفي تناوله موضوع الموضة، يعي سفندسن أنه موضوع لم تتناوله الفلسفة، ويرجع ذلك إلى "تصور مفاده أن ظاهرة الموضة سطحية للغاية ولا ترقى إلى مستوى تحقيق علمي" (27).

ويرصد أسماء من كرسوا بعض الاهتمام بمسألة الموضة، ومنهم آدم سميث وكانط وهيجل وفالتر بنيامين وأدورنو، أما من تعمقوا في الأمر فهما جيل ليبوفيتسكي وجورج سيمل، وهذا الأخير هو الذي طرح في كتابه "فلسفة الموضة" علاقة بين الهوية والموضة. وعلى نهج سيمل يسير سفندسن، إذ إنه على قناعة أن الملابس لها أهمية محورية في بنية الذات وفاعليتها، فالأمر ليس مجرد مؤشر إلى التمايز الطبقي بل أصبحت الملابس وسيلة للتعبير عن فردية المرء.

أصول الموضة

يسعى الكاتب في فصل ذي أهمية إلى تتبع أصول الموضة ويدحض الفكرة السائدة أنها ظهرت تزامناً مع ظهور الرأسمالية التجارية عام 1350 أي بذور الحداثة، ويغفل أنها بداية الاستعمار. بتتبع أشكال الملابس يصل الكاتب إلى فكرة مفادها أن ظهور الموضة بمعناها الحديث الذي نفهمه اليوم، برز في القرن الثامن عشر حين كانت الطبقة البورجوازية تسعى إلى التمايز عن الطبقة الأرستقراطية. حتى إن مجلات الموضة النسائية ظهرت في ذاك الوقت في إنجلترا (1770) وألمانيا (1786)، في حين ظهرت مجلات الموضة "الرجالية" في أوائل القرن العشرين. وكأن ظهور الموضة هو إحدى سمات الحداثة والعكس صحيح، فالموضة الجديدة تستدعي إطاحة القديم وهو ما يعني التحرر من أشكال السلطة بما في ذلك سلطة التقاليد كما أشار نيتشه. كل موضة جديدة هي ثورة على ما سبقها لإرساء قواعد جديدة، وهوما يعني التحرر من سلطة القديم، لكنه تحرر لحظي موقت. فالجديد يرسي سلطته مرة أخرى: "لقد حررتنا الحداثة من التقاليد، ولكنها جعلتنا عبيداً لأمر جديد" (39).

كان الأمر سهلاً للفنان ما قبل الحداثي، فقد كان عليه التزام التقاليد، أما الفنان الحداثي فهو مطالب دائماً بالابتكار وتقديم الجديد مع إثبات القطيعة مع الماضي. فلا تحتاج قطعة الموضة أي سمة سوى أنها جديدة، وبذلك يتحول الجديد إلى الغاية والرسالة. فالملابس لا تعد "تعليقاً على المجتمع"، ولا تحاول إيصال رسالة بل تتحول الصرعات السريعة المتواترة إلى الرسالة ذاتها. ومن هنا يبدو الصراع بين محاولة الموضة لتحقيق الربح في السوق الاستهلاكية، ومحاولتها بشكل متساو أن تنتمي إلى عالم الفن وتقدم نفسها كقطع فنية، لكن منذ أن تم فصل الحرف عن الفنون في القرن الثامن عشر أصبحت مهنة خياطة الملابس في الفئة الدنيا، ومن هنا ظهر ما يسمى الهوت كوتور في 1850. سعى مصممو الموضة إلى توظيف استراتيجيات فنية تلائم المعارض لكنهم كانوا تحت ضغط آخر، فلا بد أن تكون التصميمات قابلة للاستعمال وإلا فقدت أهميتها. ويشرح سفندسن أن سبب عدم الاحتفاء بالموضة مثلما يحتفى بالفنون الأخرى، هو عدم خضوعها لتقاليد صارمة، فهي مجرد صرعات جديدة تود أن تزيح القديم، حتى إن بعض المصممين دوروا تصميمات قديمة بما في ذلك تصميمات خاصة بهم.

لم يبق لمصمم الموضة سوى العمل على بناء رأسمال رمزي، وهو ما يوضحه الكاتب عبر مثال كوكو شانيل التي سعت بكل قوتها إلى تنمية علاقات مع فنانين مرموقين ودعم عروض راقصة وإقامة حفلات عشاء باذخة. إلا أن الحداثة التي ساعدت الموضة على أن تكون جزءاً رئيساً في الحياة اليومية هي أيضاً ما سببت لها كثيراً من الضرر. فمع دخولنا في عصر إعادة الإنتاج بالمعنى الذي تناوله فالتر بنيامين، أصبح من السهل ظهور مسألة التقليد. وهو أمر يؤثر بالطبع في الأرباح، لكن الأهم أن التقليد المتقن المحترف يقوض هالة القطعة الأصلية، فيدرك المشتري أنه يمكنه أن يدفع أقل بكثير في سبيل الحصول على قطعة مماثلة، ولكن ما علاقة كل ذلك بالهوية التي وعدنا الكاتب في البداية أن يفصل العلاقة بينها وبين الموضة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبدو أن الموضة لم تكن ذات أثر في تشكيل نمط الحياة سوى لفترة محدودة فقد بدأ الأمر مع صعود الهونت كوتور وانتهي في ستينيات القرن العشرين، فقد كان لا بد من تقديم الجديد الذي يحل محل القديم، لكن منذ أن بدأت مسألة إعادة التدوير ما بعد الحداثية، أصبحت كل الأنماط موجودة جنباً إلى جنب "وقابلة لإعادة التدوير إلى الما لانهاية" (258).

الكتاب ممتع لأن سفندسن حقق ما وعد به من تقديم دراسة فلسفية عن الموضة، وهي دراسة لم تتردد في أن تستعين بالتاريخ وعلم الاجتماع، إضافة إلى الفلسفة بالطبع. وهي دراسة مدعمة بأمثلة كثيرة من عالم مصممي الأزياء، وهو ما يزيدها إمتاعاً. وإذا كانت صرعات الموضة لم تعد مؤثرة في الغرب سوى في نخبة مهووسة بها، فإن تصدير تلك الصرعات الجديدة إلى العالم الثالث أصبح من أكبر مصادر الدخل للمصممين وينافسهم في ذلك المقلدون. لا بد من إعادة التأكيد أن ما يزيد الكتاب متعة هو الترجمة التي لا يشعر معها القارئ أن اللغة تصارع لتصل إليه كما هو الحال مع عديد من الترجمات في الزمن الحالي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة