Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيكو يحلل الأدب الشعبي انطلاقا من غرامشي إلى "سوبرمان"

ربما كان كتابه "من سوبرمان إلى الإنسان الأعلى" الأقل شهرة لكنه واحد من أعمق ما كتب في مساره الفكري

أمبرتو إيكو (غيتي)

ذات يوم، وكما حال العدد الأكبر من الشبان الإيطاليين الذين يتطلعون إلى تعميق ثقافتهم الفكرية، حتى من دون أن تغريهم كتابات أنطونيو غرامشي السياسية، كان أمبرتو إيكو يقرأ بل يستعيد قراءة فصول عديدة من كتابات "دفاتر السجن" التي كتبها مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي وباعث نهضته على الضد من كل التحريفات التي طاولته، لفتت نظره فجأة فقرة تذكر أنه كان قد سبق له قراءتها مرات عديدة لكنه لم يتوقف عندها، أما هذه المرة ففعل مندهشاً، والسبب هو أن الفقرة تتحدث عن شخصية "الكونت دي مونت كريستو"، وكانت تلك الشخصية تشغل فكر إيكو خلال الأيام الأخيرة، إذ شاهد على التلفزة فيلماً مقتبساً عن رواية ألكسندر دوما التي تتحدث عن ذلك "البطل الشعبي" وبالعنوان نفسه. كانت الفقرة مقتبسة من نيتشه ويعبر فيها غرامشي عن مدى إعجابه ليس بالشخصية وحدها، بل بما قاله نيتشه عنها كاتباً "أعتقد أن في الإمكان التأكيد أن مفهوم (الإنسان الأعلى) الذي درسه نيتشه لا يعود بجذوره النظرية إلى زرادشت (كما يعتقد كثر) بل إلى شخصية الكونت دي مونت كريستو كما صورها دوما...". ومنذ تلك اللحظة لم تبارح هذه الفكرة ذهن إيكو، بل إنه وسع من دائرة مدلولها ليبدأ التفكير بأولئك البشر المميزين بحسب المفهوم النيتشوي والذين تمتلئ بهم روايات الأدب الشعبي من مونت كريستو إلى روكامبول، ومن أرسين لوبين إلى جيمس بوند ومن طرزان إلى سوبرمان، وصولاً مثلاً إلى الأمير رودولف بطل "أسرار باريس" لأوجين سو.

ملاحظات من دون هدف

غير أن تفكير إيكو حول تلك الشخصيات سرعان ما تضافر لديه مع واقع راهن سجله موجزاً في دفاتره يومها من دون أن يعرف تماماً ما الذي سيفعل به "... في أيامنا هذه وبسبب دينامية الإحصاءات المتعلقة بمتابعة الجمهور العريض لمحطات التلفزة، يمكن لأحمق الضيعة، ومن دون أن يكف عن أن يكون أحمق، يمكن له أن يصبح من أشهر الحمقى ويبدأ مجده بالتحول إلى مادة إعلانية ويدعى إلى ندوات ومؤتمرات واحتفالات (...). لقد كان مونت كريستو إنساناً أعلى يكتفي به عالم يريد كل واحد فيه أن يصبح نابليون جديداً. أما في مجتمع يصبح فيه أحمق الضيعة المثال الأعلى الجماعي، فيمكن لرجل عادي جداً من نمط التحري كولومبو أو المفتش ديريك أن يصبح ذا بعد كوني (...). ومع ذلك يمكنني أن أعتقد أن في عالم اليوم المليء بالبشر الأعلى من طريق الخطأ ثمة من الضجيج ما يغمر كل شيء إلى درجة أنه لا يعود في الإمكان سماع أصواتهم". والحال أن من هذه الملاحظات الصغيرة المنطلقة من توقف غرامشي عند نيتشه، سيولد لاحقاً وبالتدرج واحد من أطرف كتب أمبرتو إيكو حتى ولو إنه سيكون بالتأكيد أقل كتبه شهرة وأقلها مبيعاً. فهو لم يكن واحدة من رواياته التي حطمت الأرقام القياسية، ولا واحداً من دراساته الأكاديمية التي يقبل عليها الطلاب والمثقفون، كان كتاباً استثنائياً لقراء استثنائيين.

سهولة القراءة ومتعتها

ومع ذلك كان "من السوبرمان إلى الإنسان الأعلى" واحداً من كتب إيكو القليلة التي يمكن قراءتها بكل سهولة، وكتابه الأكثر ارتباطاً بثقافة الناس البسطاء. غير أننا لن نتوقف عند هذا الأمر طويلاً، لكننا سنعود إلى الكتاب نفسه والذي درس فيه إيكو مستخدماً ملاحظاته الأولية، ذلك الأدب الذي ميزه منذ المقدمة التمهيدية للكتاب عن الأدب النخبوي، معتبراً أن ثمة صنفين روائيين أساسيين في تاريخ هذا النوع الأدبي هما في رأيه: الرواية الشعبية والرواية الإشكالية، معلناً أنه في جميع الأحوال، هناك مسلمة ثابتة تسمح لنا بالتفريق بين الرواية الأولى والثانية، في الأولى ثمة دائماً صراع بين الخير والشر وهو صراع ينتهي دائماً تقريباً لصالح الخير علماً أن الشر سيبقى معرفاً هنا انطلاقاً من مصطلحات الأخلاق والقيم المرتبطة بالأيديولوجية السائدة. وعلى العكس من ذلك تقدم لنا الرواية الإشكالية نهايات أكثر التباساً بكثير وبالتحديد بالنظر إلى أن سعادة راستينياك كما تعاسة إيما بوفاري يضعاننا وبكل قوة في وضع يعيد النظر أصلاً بمفهومي "الخير" و"الشر". وباختصار، الرواية الإشكالية تضع القارئ "في حالة حرب مع ذاته...".

النخبة والعامة

والحقيقة أن إيكو يكرس نحو الـ250 صفحة التي يتألف منها كتابه لدراسة هذه النقطة بالذات، ولكن أيضاً للاستطراد في دنو موفق من الفوارق الكبيرة بين إقبال القارئ على الأدب الشعبي وهو إقبال يبدو دائماً مدهشاً، ونكوص هذا القارئ عن الأدب الإشكالي وهو أمر لا ينبغي عليه أن يدهشنا ويجد اليوم، وبعد نحو قرنين من الحس الشعبي العام الذي ولد الرواية الشعبية (رواية الخير والشر بالمعنى الأيديولوجي للكلمة)، يجد صداه وامتداداته في الفنون كافة كما على الشاشات بتنوعها الشديد بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك. أو باختصار في كل ما بات ينقسم اليوم إلى عالمين: عالم الجمهور وعالم النخبة. وما كتاب إيكو الذي نتناوله هنا سوى النمط الأطرف على نوع الدراسة العقلية المثلى للأدب - والفنون بشكل عام - الموجهة إلى عالم الجمهور... ومن هنا تأتي على أية حال متعة قراءة هذا الكتاب وفائدته في آن معاً. وكيف لا يجد القارئ ومهما كان تصنيفه بين العامة والنخبة، فائدة ومتعة في فصول يجد نفسه فيها على تماس مع شخصيات يعرفها جيداً ويكاد يصطدم بها في كل لحظة من يومه وفي كل ساعة من ساعات ترفيهه، وهي تسبر هذه المرة في العمق على ضوء مفاهيم قد تعري تلك الشخصيات لكنها بقلم إيكو تعريه نفسه كقارئ ومتفرج كثيراً ما يجد نفسه ومهما كان مستوى ثقافته كبيراً، مذعناً أمام إغراءات الحكايات التي يحيط بها الكتاب "الشعبيون" شخصياتهم، ويكاد إيكو يجملها في مفاهيم متجابهة يرى أنها تعبر عنها كإشكالية اللوعة مقابل العزاء، والنزعة الثورية مقابل النزعة الإصلاحية، والثقافة الحقة مقابل الثقافة الدنيا... إلخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النماذج الجاهزة

ولن يطيل إيكو التوقف عند علاقة هذه المفاهيم بالرواية الشعبية وأبطالها بل سينتقل من فوره إلى أوجين سو الذي من دون أن يزعم أنه كاتب أيديولوجي، يخبرنا كيف أنه في رواياته ولا سيما منها "أسرار باريس"، ينشر أمام قارئه أفكاراً اشتراكية تطمئن هذا الأخير وتعزيه مقابل أوضاعه البائسة. وهو إثر ذلك ينتقل إلى نموذجه البدئي رواية دوما "الكونت دي مونت كريستو" ليخبرنا أن الرواية قد تكون مكتوبة بشكل سيئ، لكنها تجمع في طياتها كل العواطف التي يتصور ألكسندر دوما أن عليه في روايته هذه أن يعبر عنها ويجد ترياقاً لها، من الظلم الذي يحيق بإدمون دانتيز إلى سجنه إلى الثروة الطائلة التي تهبط عليه محولة إياه إلى ذلك الكونت، الذي إذ ينتقم من ظالميه فإنما ينتقم لقارئه أيضاً من كل الظالمين في طريقه. ترى أفليست هذه بعد كل شيء وظيفة الإنسان الأعلى؟ وللإجابة هنا عن هذا السؤال الأساسي عينياً ولو بشيء من الاختصار، يستعرض إيكو عدداً من الشخصيات الروائية ولكن الحقيقية أيضاً (من فاتيك إلى طرزان، ومن مونت كريستو نفسه، مرة أخرى، إلى روكامبول وأرسين لوبين و... ريشيليو الوزير الذي ينتزعه من عمق التاريخ ليعالجه هذه المرة معالجة نيتشوية). فيرى أن عليه في المقابل وبعد ذلك، أن يتوقف عند شخصيتين روائيتين من القرن العشرين يجد أنهما تستجيبان وبشكل معاصر جداً لتحليله هذا: سوبرمان وأسطوريته (فيتوقف عند أفضل السبل لما يسميه "استهلاكه" مفرقاً بين إمكانية التعامل معه كضمير مدني أو ضمير سياسي)، ومنه ينتقل إلى "سوبرمان" من نوع آخر هو جيمس بوند حيث يتجلى التعارض بين المواصفات والقيم، وتظهر الحبكة بوصفها لعبة عقلية معروف ختامها سلفاً دائماً عبر التقنيات التي يتجابه فيها الخير والشر إنما مؤدلجان تماماً... وبهذه التقابلات يختم أمبرتو إيكو هذا الكتاب الطريف والعميق، مذكراً مرة أخرى بالعبارات النيتشوية وبضرورة إمساك الأمور، والتحليلات، بالتالي من أبسط النقاط للوصول إلى أعمق النتائج وليس العكس.

المزيد من ثقافة