Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متى تنكشف أسرار رحيل كبير المشاكسين الماركسيين؟

هل تواطأ قادة شيوعيون إيطاليون مع موسكو في اغتيال أنطونيو غرامشي؟

ثمة ضرورة لفتح جديد لملف أنطونيو غرامشي (غيتي)

في نهاية الأمر، يمكن القول إن "دفاتر السجن" التي خطّها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو يعاني ما يعاني في زنزانة سجنه، في ألوف الصفحات، ربما كان من شأنها أن تنقذ الفكر الماركسي الغربي لو أنها قُرئت في زمانها كما يجب أن تُقرأ، ولم يتأخر الاهتمام بها كل ذلك الزمن. فالحقيقة أن غرامشي يبدو في تلك الصفحات المدهشة وكأنه يعيش أحوال العالم وأحوال بلده الإيطالي، ثم حال التدهور التي راحت تطاول الفكر والممارسة الاشتراكيين في العالم على يد القيادات الستالينية، لحظة بلحظة. بل أكثر من هذا، كان يبدو في تلك الصفحات التي راحت تتناول الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية مروراً بالشؤون الثقافية والإبداعية وعلاقات المثثقفين بالجماهير العريضة، وغالباً من منظور يقف بالتعارض التام مع منظور الممارسة الرسمية الستالينية وغير الستالينية، كان يبدو وكأنه يعيد خلق النظرية الماركسية على الضد من الأساليب التي راحت تطبق بها في البلدان التي كانت قد باتت "اشتراكية" بل حتى لدى أحزاب شيوعية واسعة الجماهيرية كما الحال في إيطاليا وفرنسا.

نزيل المحبسين

لقد كتب غرامشي "دفاتر السجن" وهو رهين محبسين قابع في سجنه، أو بالأحرى في سجنَيه: سجن الدولة الفاشية الإيطالية من ناحية؛ وسجن آلامه الجسدية ومعاناته الصحية من جهة ثانية. ولنشِر هنا إلى أن رطوبة السجن وسوء التغذية وقلة اهتمام رفاق غرامشي في الخارج بأوضاعه، كل هذا فاقم من سوء وضعه الصحي والمعيشي، لكنه لم يفقده ذرة من روح كتابته المرحة، وقدرته الفائقة على الكتابة وإيمانه بالمستقبل وبالناس، ولكن إدراكه أن ما يكتبه يجب أن يتوجه أول الأمر إلى الإيطاليين أنفسهم مخلّصاً إياهم من شتى أنواع الديماغوجيات اليمينية الفاشية واليسارية الستالينية سواء بسواء. وفي هذا الإطار لا شك في أن غرامشي، ومن الداخل، كان البادئ في محاولة الإنقاذ التي راح المفكرون اليساريون والتقدميون يبذلونها لكي لا تؤدي الممارسات الستالينية في موسكو، وفي إيطاليا أيضاً، إلى تدمير الفكر الاشتراكي. ومن هنا، ما ينبغي علينا أن نلاحظه من أنه لاحقاً وخلال الأعوام التي انهار فيها الاتحاد السوفياتي وانهارت الأنظمة الحاكمة في بقية بلدان ما كان يُسمّى بـ"المنظومة الاشتراكية"... بدأت تنكشف الحقائق وتنطرح الإجابات عن كثير من ألغاز تاريخ القرن العشرين، فيما راحت تسقط أيديولوجيات وتنهار مسلّمات.

أجراس إنذار مبكرة

ولكن، في المقابل، بدلاً من أن ينهار ذلك الفكر كلياً كما كان كثيرون قد اعتقدوا عند نهاية سنوات الثمانين فأسرعوا ليدفنوا كارل ماركس وغيره من مفكري الاشتراكية بشكل متسرع، حدث ما هو معاكس لذلك، إذ شهد العالم على الأقل خلال الأعوام الأولى من الألفية الجديدة، نوعاً من العودة إلى الفكر الماركسي كفكر فلسفي ممنهج، لا كأيديولوجيا وبرنامج سلطة. وبدأ يُعاد الاعتبار لعدد من مفكرين كانوا قد دقوا أجراس الإنذار باكراً وربما منذ الأشهر الأولى لتحوّل الثورة إلى دولة وخروج أصحابها عن إيمانهم بالإنسان. في حينه، كان قد بدأ ينكشف أن التناقض بات كبيراً بين الطروحات الفكرية للماركسية وبين تطبيقاتها. وهو أمر نبّه إليه باكراً بعض كبار المفكرين الماركسيين المتحررين من عبء السلطات الحاكمة والأحزاب التابعة لها، وأدركوا قبل عقود بأنه سوف ينتهي به الأمر إلى القضاء على السلطات التي تحكم باسم الماركسية وبعد أن تكون تلك السلطات قد قضت على شعوبها. وفي الأحوال كلها، كان الحزب الشيوعي الإيطالي يُعطى كنموذج لنوع من "التلاؤم الخلاق" بين الفكر الماركسي وتطبيقه، على الصعيد الحزبي على الأقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحال أن مواصلة الحزب الإيطالي مساره وتصدره لأعوام لا بأس بها بعد ذلك، الساحة السياسية في إيطاليا، كان يعطي الحق لأولئك الذين كانوا يرونه في ذلك الحين متميزاً ومختلفاً، لكنه راح في الوقت ذاته يعيد إلى الأذهان تلك الشخصية الاستثنائية من شخصيات الفكر الماركسي الأوروبي، شخصية أنطونيو غرامشي، الذي كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، ولكنه كان في الوقت ذاته أحد الذين نادوا مبكراً بنوع من الاستقلال عن موسكو وبالربط بين الماركسية كفكر اقتصادي واجتماعي ومحاولة لتفسير التاريخ، وبين خصوصيات كل بلد من البلدان. باختصار، كان غرامشي صاحب ثورة تحذيرية حقيقية في تاريخ الفكر الاشتراكي في القرن العشرين، ثورة ربما كانت هي في خلفية التيار المتمرد الذي ساد في السبعينيات وحمل اسم "الشيوعية الأوروبية"، كما كانت بكل تأكيد في خلفية النجاح النسبي الذي حققه الشيوعيون الإيطاليون.

رغم الحصانة النيابية

غير أن "ثورة" غرامشي تلك على النهج الستاليني وعلى الجمود الماركسي العقائدي، ربما كانت هي التي أودت به، فجعلته واحداً من ضحايا ستالين من دون أن يدري هو نفسه بذلك. وفي جميع الأحوال، لئن كان غرامشي قد رحل منهكاً ومريضاً في عيادة السجن في روما، في ربيع عام 1937، حيث كان معتقلاً، بالطبع، من قبل الفاشيين، فإن ثمة دلائل كثيرة راحت تبرز منذ أعوام لتشير إلى أن غرامشي ربما وقع ضحية تواطؤ (موضوعي) بين ستالينيي الحزب الشيوعي الإيطالي من جهة، وبين الفاشيين من جهة ثانية. كيف؟ الجواب كان قد جاء منذ عام 1968 على أي حال، في مقال نشره مؤرخ للحزب الشيوعي الإيطالي يدعى باولو سبريانو، ذكر فيه أنه حين اعتقل الفاشيون غرامشي على الرغم من حصانته البرلمانية كنائب عن فينيسيا عام 1926، إثر عودته من موسكو عن طريق فيينا، رتّب غرامشي دفاعه على أساس أنه نائب وكاتب وليس عضواً في أي هيئة إدارية للحزب الشيوعي (على الرغم من أنه كان في الواقع الزعيم الفعلي للحزب)، ولكن في تلك الآونة بالذات وصلت إلى غرامشي رسالة من شيوعي إيطالي يعيش في موسكو، تخاطب الزعيم السجين بوصفه مسؤولاً عن الحزب.

الرسالة القاتلة

يومها، استغرب غرامشي وصول تلك الرسالة، لأنها تكشف طواعية عن دوره القيادي وتسهّل على المحكمة الحكم عليه. وبالفعل، حكمت المحكمة على غرامشي بالسجن أكثر من عشرين عاماً. صحيح أن مؤرخاً آخر من مؤرخي الحزب حاول أن يثبت عام 1989 أن تلك الرسالة كانت مزورة ومعدّة من قبل الفاشيين أنفسهم لإدانة غرامشي، ولكن في الوقت ذاته جاء باحث إيطالي ماركسي آخر هو كلوديو ناتولي ليروي واقعة أخرى يمكن ربطها بالأولى. ففي عام 1933، يقول ناتولي- بحسب ما تروي صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية في ملف كرسته لغرامشي قبل أعوام- أن الأخير حصل في 1933 على إذن خاص باستقبال طبيبه بعد أن ساءت صحته جدياً وراح كبار البرلمانيين يتدخلون لمصلحته. وكتب الطبيب تقريراً يهيّئ لحصول غرامشي على حريته المشروطة. ولكن، في تلك اللحظة بالذات، ظهر في صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي، "لومانيتيه"، مقال عن غرامشي كان من الوضوح والاستفزازية بحيث أثار السلطات الفاشية الإيطالية وجعلها تقرر إبقاء غرامشي في السجن، على الرغم من التقرير الصحي. ويقول ناتولي إن تنقيبه في وثائق الحزب الشيوعي السوفياتي دلّه على أن كاتب ذلك المقال كان جيوزيبي برتي، أحد المقربين من تولياتي، شريك غرامشي في زعامة الحزب الشيوعي الإيطالي وفي تأسيسه والذي كان- على عكس غرامشي- مقرباً من السوفيات في ذلك الحين.

فتح الملف من جديد؟

كل هذا قد لا يبدو اليوم سوى اجتهادات مؤرخين. ولكن، أليس معناه أن ثمة في الأفق ضرورة لفتح جديد لملف أنطونيو غرامشي، ذلك المفكر المتمرد والمستقل الذي كتب خلال أعوام سجنه "دفاتر السجن" في ألوف الصفحات، وفيها تأملات وملاحظات على التاريخ والسياسة والآداب والفنون والاقتصاد. وفيها كذلك تحذيرات جدية من انحرافات الممارسات الماركسية ومحاولة لإنقاذ ذلك الفكر من ورثته في ذلك الحين. وهي دفاتر تُتَرجم الآن وتُنشر على نطاق واسع، وكان بعضها نشر في العربية قبل أعوام.

المزيد من ثقافة