ملخص
ليست هذه المرة الأولى التي تثير فيها قضية العنصرية جدلاً واسع النطاق في فرنسا
بدأ الهدوء يعم أرجاء فرنسا بعد ليال عصيبة عاشتها العشرات من مدنها على وقع اشتباكات عنيفة بين الشرطة ومحتجين إثر وفاة الفتى نائل المرزوقي وهو من أصل جزائري في ضاحية نانتير (إحدى ضواحي باريس)، لكن البلاد وجدت نفسها تحت ضغط غير مسبوق تكرسه انتقادات لاذعة في شأن ما يقول البعض إنه "تجذر للعنصرية" فيها.
البداية كانت من منظمة الأمم المتحدة التي نبهت إلى أن على فرنسا معالجة مشكلات العنصرية وهو أمر سارعت باريس إلى رفضه، قبل أن تدخل منظمات دولية أخرى على خط الأزمة وصولاً إلى تعليق مثير للجدل للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيال ذلك.
وعلى رغم أن كلام أردوغان، الذي حمل ماضي فرنسا الاستعماري والعنصرية في مؤسساتها مسؤولية ما حصل، قد يكون فيه كثير من تصفية الحسابات مع فرنسا التي تزاحم بلاده على النفوذ على الساحة الدولية، فإن الحديث عن عنصرية الأجهزة الرسمية في فرنسا خرج إلى العلن بشكل غير مألوف وهو ما يشكل مدعاة للتساؤل عما إذا كان النظام الفرنسي عنصرياً فعلاً أو يتحاشى مواجهة العنصرية داخل مؤسساته الرسمية؟ خصوصاً أن هذه المؤسسات تحظى بدعم قوي من السلطات التي دافعت عن جهاز الشرطة نافية عنه تهمة العنصرية.
معضلة مؤسساتية
وتغذي مثل هذه التساؤلات تقارير حتى في الداخل الفرنسي تتحدث عن سوء معاملة مؤسسات مثل الشرطة للفرنسيين المتحدرين من أصول أفريقية أو مغاربية على غرار تقرير صحافي نشرته جريدة "لوبس" ذكر أن إمكان تعرض السود للتوقيف من قبل الشرطة، من 3.3 إلى 11.5 مرة أكثر من البيض. وأضاف التقرير أن العرب أيضاً يتعرضون إلى المخاطر أكثر بنحو 1.8 إلى 14.8 مرة ضعف ما يتعرض له المواطنون البيض خلال التوقيف من قبل الشرطة الفرنسية. وقال الناشط السياسي الفرنسي والمرشح السابق للبرلمان سيريل جيراردو، إن "المعضلة مؤسساتية بامتياز وتحديداً مع مؤسسة الشرطة في فرنسا، الإدانات التي صدرت عن الأمم المتحدة في عديد من المرات حول العنصرية في البلاد لا يمكن إخفاؤها كما تحاول الحكومة فعل ذلك".
وأردف جيراردو في تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية" أن "يكون النظام متواطئاً مع العنصرية هذا احتمال وارد، لأن مثلاً النظام الحالي لا يمكن أن يبقى متماسكاً إلا بوجود الشرطة والدفاع عنها. يكفي أن نتابع كل الاحتجاجات التي حدثت في السنوات الماضية لنتأكد من ذلك، من السترات الصفراء وصولاً إلى احتجاجات المتقاعدين كانت الدولة تلجأ إلى القوة الأمنية لمواجهة الناس".
وأوضح أن "بهذه المقاربة لا تريد الدولة والحكومة رؤية المشكلات الحقيقية، بل تعتمد على الشرطة للحفاظ على بقائهما".
وليست هذه المرة الأولى التي تثير فيها قضية العنصرية جدلاً واسع النطاق في فرنسا، فلطالما تحدث لاعبون في المنتخب الفرنسي لكرة القدم عن تعرضهم إلى العنصرية، فعلى سبيل المثال اتهم الحائز على الكرة الذهبية، كريم بنزيما، ديدييه ديشان مدرب المنتخب في عام 2016 بـ"الرضوخ للعنصريين" وإبعاده عن قائمة المنتخب ما أحدث سجالات عنيفة.
وفي كأس العالم الأخيرة التي أقيمت في قطر تعرض كثيرون من لاعبي المنتخب الفرنسي وهم يتحدرون من دول أفريقية للعنصرية بعد خسارة المباراة النهائية ما دفع السلطات إلى الإعلان عن فتح تحقيقات لم تعلن نتائجها بعد.
حملة تشويه
وفي عام 2005 وصف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي سكان الضواحي المهمشة وأغلبهم من جنسيات مختلطة، بأنهم "حثالة" ما أثار وقتذاك غضباً عارماً، لا سيما أنه لم يتوان في الدعوة إلى "تنظيف صحي" لهذه المناطق.
في المقابل، فإن كثيرين لا سيما من الغالبية الرئاسية في فرنسا يرون أن الانتقادات التي تواجهها البلاد اليوم بعد مقتل الفتى نائل لا تعدو كونها حملة تستهدف البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال بيرتران سوري النائب عن حزب "الجمهورية إلى الأمام"، حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، "بالنسبة لي، البيانات والتصريحات من هناك وهناك في شأن العنصرية المزعومة تشكل حملة واضحة لتشويه فرنسا، حتى تلك الصادرة عن الأمم المتحدة".
وتابع سوري في تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية" أن "الاتهامات للشرطة أو غيرها من المؤسسات بالعنصرية في فرنسا لا أساس لها، وحكومتنا ملتزمة مكافحة أي تمييز مهما كانت خلفياته".
وكانت الأمم المتحدة قد شجبت ما سمته العنصرية المتجذرة في صفوف قوات الأمن الفرنسية قائلة على لسان الناطقة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان رافينا شامداساني، إنه "حان الوقت ليعالج هذا البلد بجدية مشكلات العنصرية والتمييز العنصري في صفوف قوات الأمن".
بعد اجتماعي للظاهرة
وتسببت الاتهامات بالعنصرية في انقسام سياسي واسع في فرنسا، حيث وجد كل طيف سياسي حجة لسرديته في شأن المهاجرين والمغاربة الذين يعيشون هناك، فسارع أقصى اليمن إلى الدعوة لطرد هؤلاء "لإبعاد شبح الحرب الذي يخيم على البلاد"، بينما ذهب أصحاب الغالبية الرئاسية إلى التحرك من أجل إقرار إجراءات جديدة في شأن الظاهرة.
واعتبرت الصحافية الفرنسية سيلين بوري، أن "القول إن النظام الفرنسي عنصري فحسب من شأنه أن يحجب البعد الاجتماعي لظاهرة العنصرية، ومع ذلك يتحدث نشطاء عن فصل عنصري وحضري في الضواحي".
وشددت بوري في تصريح خاص على أن "التمييز عموماً يمكن أن نراه بكثير من المجالات، في التعليم والحصول على عمل وفي تعامل الشرطة، في كل هذه المجالات هناك تعامل من نوع خاص مع الأفارقة أو القادمين من دول المغرب العربي".
ورأت أنه "حتى المعاملة القضائية تتسم بعدم المساواة بين هؤلاء، لكن القول إن النظام عنصري يمكن أن يدفعنا إلى تجاهل الأسباب والبعد الاجتماعي لهذه الظاهرة وحصرها في الشأن السياسي والمؤسساتي فقط".
وفي ظل حالة الإنكار التي واجهت بها الحكومة الفرنسية تهم العنصرية داخل أجهزتها الأمنية والشرطية فإنه من غير المؤكد ما إذا كانت ستتجه لإقرار حزمة إجراءات لوضع حد للعنصرية التي يتردد صداها حتى داخل ملاعب الكرة وغيرها.