ملخص
من الواضح أن قوة نووية كروسيا لا يمكن أن تخسر حرباً بشكل فاضح فهي تمتلك قدرة التدمير الشامل، وقد أظهر بوتين قدرته على اتخاذ قرارات غير متوقعة، فما الذي يمكن أن يقنعه بوقف الحرب؟
منذ اليوم الأول للهجوم الروسي على أوكرانيا، مثلت هذه الاندفاعة الجنونية مرام شخص واحد فيها هو سيد الكرملين. إن استمرار المعارك وسقوط الضحايا هو أيضاً وبشكل حصري مرتبط برغبة الرئيس الروسي الاستمرار فيها لغاية تحقيق أهدافه التي كانت ولا تزال غير واضحة.
مراقبون كثر يعتقدون أن الأهداف ستعلن بحسب سير "العملية العسكرية الخاصة" وستكون انعكاساً لما قد يحققه الجيش الروسي على أرض الواقع، بل وهي تتغير تباعاً لتطورات ساحة المعركة. واليوم تفيد رسالة الكرملين بأن "روسيا تحارب حلف الناتو بأكمله الذي يريد تدميرها"، بعد أن كان الهدف المعلن "اجتثاث النازية في أوكرانيا".
وفيما الأمور واضحة جداً في الساحة الأوكرانية، فهؤلاء يقاتلون دفاعاً عن أرضهم وسيستمرون بذلك ما دامت لديهم القوة والدعم من الحلفاء. فغياب اليقين عند الطرف الآخر، وبما يريده بوتين من الحرب ومن سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي الأوكرانية وإعلانه ضمنها للبلاد، يترك تساؤلاً مهماً: أين أو متى تعتزم الآلة العسكرية الروسية التوقف؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمن وقف الأعمال الحربية
من الواضح أن قوة نووية كروسيا لا يمكن أن تخسر حرباً بشكل فاضح فهي تمتلك قدرة التدمير الشامل، وقد أظهر بوتين قدرته على اتخاذ قرارات غير متوقعة من زعيم دولة كبرى فما بالك بالنووية، وأن رؤيته الخاصة للنظام الدولي والدور الروسي وقناعته الشخصية بأنه يقوم بإحقاق العدالة لبلاده تحتم عليه قتل وتدمير من يعتبرون أعداءه وأعداء "روسيا الاستثنائية".
ومن المفهوم أن تسعى القيادة الأوكرانية إلى تحرير الأراضي المحتلة بما فيها شبه جزيرة القرم، ولكن من الضرورة أيضاً التفكير بالخطوة التي تلي النتائج المترتبة عن محاولة تحرير كل الأراضي. ولو افترضنا أن الجيش الأوكراني قادر على تحرير كل شبر من أراضيه، فإن الدخول إلى القرم وربما بعض مناطق دونباس قد يسبب إثارة غضب الدب الروسي بدلاً من مجرد كسره.
لكن استمرار الطرف الأوكراني بالقتال هو أمر أساسي "حتى تقبل موسكو حقيقة أنها لا تستطيع تحقيق مكاسب إقليمية بالقوة العسكرية"، كما يكتب الباحث في العلاقات الدولية جدعون روز في "فورين أفيرز"، مضيفاً أنه للوصول إلى نقطة التحول هذه، "لن يكون أمام أوكرانيا وداعميها خيار سوى الاستمرار في إنهاك روسيا عسكرياً".
وهو إنهاك برأيي يجب ألا يتخطى حده ليصل نحو دفع الكرملين إلى اللجوء لأسلحة الدمار الشامل. إن هذا التوازن الشديد بين كسر الآلة العسكرية الروسية وعدم ترك لها خياراً أوحداً باللجوء إلى النووي هو ما تصفه باحثة العلوم السياسية نينا تانينوالد، "بالنهج المناسب لمقاربة المخاطر، أي الاعتراف أن طيف الأسلحة النووية يقيد خيارات أوكرانيا بالتالي تحقيق نتيجة جيدة لكييف سيكون أكثر تعقيداً، وسيكون دائماً أقل إرضاء".
بحر آزوف روسي؟
قام الرئيس الروسي قبل أيام بإلغاء اتفاقية تعاون مع أوكرانيا في شأن استخدام بحر آزوف ومضيق كيرتش (من المستغرب أنه لم يفعل هذا قبل عام في الأقل). وجرى هذا بعد أن أصبح البحر بحكم الواقع بحراً داخلياً روسياً، إذ إن ضفته الغربية أي القرم واقعة تحت الاحتلال الروسي منذ عام 2014 فيما تمكن الجيش الروسي احتلال جنوب أوكرانيا المطل على الضفة الشمالية للبحر في الأشهر الأولى من الحرب العام الماضي.
لدى بعض أوساط المعارضة الروسية رغبة مكتومة بأن يحسم موضوع القرم قبل سقوط نظام بوتين لكي يقع على الأخير كاهل خسارته أم تثبيته ضمن الأراضي الروسية
ولكن حتى خلال السنوات القليلة الماضية حين كانت كييف لا تزال تسيطر على ماريوبول وبرديانسك المطلتين على آزوف، فإن روسيا وبحكم تحكمها بمضيق كيرتش وتشييد الجسر الذي ربط جسر القرم بالأراضي الروسية كانت الملاحة في البحر تحت رحمة روسيا التي كانت تتصرف بشكل اعتباطي مع السفن الأوكرانية التي كانت تعبر المضيق، مع ما عناه ذلك من خسائر للتجارة الأوكرانية.
إن نجاح الهجوم الأوكراني المضاد قد يهيئ الظروف المناسبة للمساومة وإنهاء أعمال القتال، لكن مهما كانت نتائج الهجوم فإن بوتين لن يقبل الخروج من مأزقه خالي الوفاض، ومنحه هذا الشيء في مفاوضات لن يكون مكافأة لشخص متهم بجرائم حرب، بل ربما قرار براغماتي وسلوك طريق وعر يؤدي في آخر المطاف للنصر حتى لو بدا أننا نمنحه فوزاً ما.
بحكم الواقع العسكري الحالي، وعلى رغم ما يثير هذا من غضب شعبي أوكراني، لكن في سياق المفاوضات والتسويات بين روسيا وأوكرانيا، قد يكون إبقاء البحر هذا روسياً ورقة حاسمة لإقناع الزعيم الروسي بوقف الحرب والقبول بالشروط الأخرى مثل الاعتراف بأوكرانيا وانضمام الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي والناتو.
هذه المقاربة تتبنى مقولة الأفضل خسارة بعض الأراضي والدخول بباقي البلاد في حلف دفاعي بدلاً من الاستمرار في حرب إلى ما لا نهاية (يشبه الأمر، مع فارق الزمن وتبدلات نظام العلاقات الدولية، تخلي البلاشفة عن مساحات شاسعة للألمان في اتفاقية بريست-ليتوفسك من الأجل التركيز على تثبيت سلطتهم في أماكن سيطرتهم).
إن دخول أوكرانيا الناتو هي الضمانة الأساسية لها ضد الاعتداءات الروسية المستقبلية وهي اعتداءات شبه مؤكدة إذا لم تتغير عقلية الحكم في موسكو، بالتالي فإن من الأفضل للبلاد، وهي اليوم شعبياً جاهزة بأضعاف (بعد الهجوم الروسي، حتى أشد الموالين لروسيا فيها أصبحوا ينظرون لأوكرانيا كوطنهم)، أن تكون ضمن حلف أو أحلاف تضمن لها التقدم الاقتصادي والسياسي والعسكري وإن كان هذا على حساب خسارة في الأراضي.
في النهاية، فإن هذه الاتفاقات مهما كان مضمونها ستكون مرحلية، حتى سقوط حكم بوتين في روسيا. وسيكون أمام الحكم الجديد فرصة إما لإعادة ما هو لأوكرانيا أو –وهذا أهم– العمل على تغيير العقلية الإمبريالية للحكم في روسيا ومنع إمكانية تكرر حروب من هذا النوع في المستقبل.
سيبقى القرم نقطة نزاع مزمنة، وحتى في الأوساط المعارضة الروسية هناك رغبة مكتومة بأن يحسم موضوع القرم قبل سقوط نظام بوتين لكي يقع على الأخير كاهل خسارته أم تثبيته ضمن الأراضي الروسية.