تعمل طهران جاهدة على تنفيذ برنامج الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المعروف بدبلوماسية الجوار التي تقوم على تحسين العلاقات مع جيرانها الإقليميين، سواء في وسط آسيا أو المنطقة العربية، وكان توقيع الاتفاق السعودي - الإيراني برعاية الصين بمثابة أساس لواقع جيوسياسي جديد في الشرق الأوسط دفع إيران إلى استثماره.
وانطلاقاً من هذا الواقع الجديد تتزايد الدعوات داخل إيران إلى الحوار وتحسين العلاقات مع مصر، لكن منذ عودة العلاقات بين إيران والإمارات والسعودية لا توجد حتى الآن أي دلائل نحو انفتاح العلاقات بين القاهرة وطهران، وازدادت التكهنات مع زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق إلى مصر، وكذلك رئيس الوزراء العراقي أخيراً، إذ جرى ربط الزيارتين بوساطة عُمان والعراق للحوار والتقارب بين مصر وإيران.
وفي ظل التطورات تلك تطرح التساؤلات حول ما إذا كانت القاهرة ترغب في تحسين العلاقات مع طهران؟ وإذا كانت تنوي فلماذا التريث؟ ولماذا تخرج التصريحات المرحبة باستئناف العلاقات من داخل إيران ولا تقابلها تصريحات مؤكدة لذات التوجه من مصر؟ وما شكل الحوار المفترض بين البلدين حال جرى أخذ القرار بتحسين العلاقات؟ وما الملفات المتوقع الحوار والتفاهم بشأنها؟
وجاءت تصريحات متحدث الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني داعية إلى التقارب واستئناف العلاقات مع مصر، مشيراً إلى أن "مصر دولة مهمة والمنطقة بحاجة إلى تآزر طهران والقاهرة، وأن السياسة المبدئية لإيران هي تقوية العلاقات مع جيرانها".
وحينما كان قائماً بالأعمال في مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، قال الكنعاني إن طهران تتطلع إلى رؤية الأمن والاستقرار في مصر، وإنه يعتقد أن البلدين سوف يطوران علاقاتهما عاجلاً أم آجلاً، مؤكداً استعداد بلاده لاتباع هذا المسار إذا كانت لدى الحكومة المصرية الإرادة السياسية لفعل الشيء نفسه.
وعلى هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2021، أكد متحدث الخارجية الإيرانية حينها سعيد خطيب زاده أن "تقدم العلاقات بين القاهرة وطهران إلى الأمام يصب في مصلحة المنطقة"، ثم جاءت تصريحات من الخارجية الإيرانية تقول إن الرئيس الإيراني طلب منهم الاستعداد لمرحلة استئناف العلاقات الطبيعية مع مصر. وأخيراً صرح المرشد الإيراني علي خامنئي بترحيبه باستئناف العلاقات مع مصر خلال لقائه سلطان عُمان هيثم بن طارق.
وازدادت التكهنات بقرب تحسن العلاقات بين البلدين خلال زيارة سلطان عُمان لمصر ثم توجهه إلى طهران بعدها، وخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للقاهرة، إذ مع الزيارتين ترددت التكهنات بوجود وساطة عُمانية وأخرى عراقية، وترددت أنباء عن أخرى صينية.
ومما زاد من تلك التكهنات أن سلطان عُمان قليل التحركات الخارجية على النحو الذي يشير إلى ما وراء تحركاته الخارجية، لكن نظراً إلى أن هناك قنوات للتواصل موجودة بين إيران ومصر عبر مكتب رعاية المصالح، لذا فإنه حال المضي نحو تحسين العلاقات قد تكون هناك حاجة إلى أرض دولة ثالثة لإعلان التوصل إلى قرار تحسين العلاقات.
ملفات الحوار بين مصر وإيران
وإذا رغبت مصر في استئناف العلاقات مع إيران فمن المحتمل أن يتخذ الحوار بينهما مسارات ثلاثة، أولاً المسار الأمني والخاص بعلاقة إيران بجماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية وأمن البحر الأحمر، وثانياً المسار الاقتصادي الخاص بفرص التعاون الاقتصادي بينهما، والمسار السياسي الخاص بدور إيران في دول الصراعات العربية والقضية الفلسطينية.
ولا يمكن اختصار القضايا الخلافية بين إيران ومصر في الشوارع الإيرانية التي ارتبطت بأسماء من اغتالوا الرئيس السادات، إذ يعد ذلك أمراً ثانوياً ورمزياً، كما أن قطع توتر العلاقات على خلفية توقيع "معاهدة كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل لم تعد عائقاً، لا سيما وتحسن علاقة إيران بالدول العربية الخليجية، لكن هناك قضايا تمس الأمن المصري بشكل رئيس ومنها الدور الإيراني في القضية الفلسطينية، رغم أن مصر ليست لديها حساسية مذهبية أو عرقية تجاه إيران، لكن هناك تحفظاً مصرياً يرتبط بدعم إيران الجماعات الإسلامية ومنها حركة حماس والجهاد الإسلامي في غزة ضد إسرائيل وتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، بما يعني إحداث توترات وقلاقل أمنية قرب الحدود المصرية، فضلاً عن دور مصر في مصالحة الفصائل الفلسطينية والسلطة في الضفة الغربية.
وتمثل العلاقات بين إيران والفصائل الفلسطينية أمراً حيوياً لدور مصر في القضية الفلسطينية، لا سيما أن إيران تشجع الفصائل على انتهاج إستراتيجية تقارب ساحات المواجهة التي تشتعل معها جبهات المواجهة مع إسرائيل في داخل إسرائيل وخارجها، وهنا تحتاج القاهرة إلى ضمانات من طهران بعدم عرقلة سياسة مصر تجاه القضية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى فهناك قضية أمن البحر الأحمر وباب المندب، إحدى القضايا المهمة للأمن القومي المصري، لا سيما مع ارتباط إيران ببعض الجماعات التي لها تأثير في الملاحة بتلك المنطقة، وبالتالي تحتاج مصر إلى ضمانات بعدم عرقلة الملاحة في تلك المنطقة وضبط سلوك تلك الجماعات.
أما في ما يخص علاقة إيران بجماعة "الإخوان المسلمين" التي كان لديها علاقات جيدة مع إيران خلال حكمها وكانت بصدد التعاون في تأسيس مؤسسات مسلحة موازية لمؤسسات الدولة المصرية من الجيش والشرطة، فلا تنسى مصر احتفاء المرشد الإيراني بعدم الاستقرار في القاهرة عام 2011، وربط ما جرى بالثورة الإيرانية عام 1979، ومحاولة تأسيس نظام حكم إسلامي داخل مصر لكنه سنّي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك تعد علاقة إيران بتنظيم "القاعدة" أحد الملفات الشائكة، لا سيما أن كثيرين من أعضاء التنظيم يقيمون على أراضي إيران منذ عام 2001 وتمتد علاقتهم بطهران منذ التسعينيات، ومن ثم فإن التعاون بين مصر وإيران في ما يخص تنظيم "القاعدة" والجماعات الإرهابية إحدى القضايا الشائكة بينهما والتي تتطلب من طهران إبراز حسن النيات والتعاون، بخاصة في ظل تقارير أفادت بأن زعيم تنظيم "القاعدة" وهو مصري يقيم في إيران.
بينما ارتبطت قضايا المستوى الإقليمي بسلوك إيران في منطقة الخليج، بخاصة مع استمرار التأكيد المصري على أولوية الأمن العربي والأمن الخليجي، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، فكثيراً ما صرح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن "أمن الخليج خط أحمر بالنسبة إلينا، ويجب على الآخرين ألا يتدخلوا في شؤوننا ولا يصلوا بالأمور إلى شكل من أشكال الصدام".
كذلك محاولة إيران تصدير ثورتها واستناد سياستها الخارجية إلى توظيف البعد المذهبي والطائفي، ولأن لمصر علاقات ثنائية قوية مع دول عربية تمثل ساحة مهمة للنفوذ الإيراني مثل سوريا والعراق ولبنان، فربما تحتاج القاهرة إلى ضمانات من إيران بدعم استقرار تلك البلدان بدلاً من خلق الفوضى فيها.
الباب المصري لكسر عزلة طهران
ومن جهة إيران فإن الانفتاح على مصر واستئناف العلاقات معها يعد مكسباً إقليمياً إذ يكسر العزلة الإقليمية، وإقامة علاقة معها يعد ضربة أخرى موجهة إلى جهود إسرائيل في المنطقة لبناء تحالف إقليمي ضد إيران بعد اتفاق المصالحة بين إيران والسعودية.
ومن المؤكد أن هناك مصالح اقتصادية قد تتحقق للطرفين، فكل منهما يعد سوقاً كبيرة لمنتجات الآخر، كما أن إيران يمكنها أن تمد مصر بالغاز والنفط، وبالتالي فما سبق من ملفات تتداخل ليس فقط مع الدائرة الخليجية وإنما العربية، وكذلك المصالح المصرية.
وربما تستمر العلاقة بين البلدين كما عملتا على إدارتها، ومن ثم فقد لا تجد مصر حاجة إلى الانفتاح والتقارب مع إيران، أو قد تشهد بعض التقارب التدريجي في الملفات التجارية والاقتصادية بينهما، لكن بشكل عام ستكون إعادة تعريف العلاقات المصرية - الإيرانية عبر تحديد مدى الحاجة إلى استئناف العلاقات مع طهران من عدمه عائدة لعوامل داخلية تقدرها القيادة المصرية.
وتأرجحت العلاقات المصرية - الإيرانية على مدى فترات طويلة بين توتر وتحسن، إذ استمر التباعد بينهما عقوداً طويلة لأسباب تعود لقضايا ثنائية وأخرى ترتبط بالإقليم، فعلى المستوى الثنائي اتسمت العلاقات بين البلدين بالعداء في فترات والتعاون في أخرى، فبينما شهدت سنوات حكم الرئيس جمال عبدالناصر توتراً بينهما تحسنت خلال عهد الرئيس أنور السادات، لا سيما أن الطرفين كانا حليفين للولايات المتحدة.
وقد اتخذت العلاقات بين القاهرة وطهران منعطفاً سياسياً جديداً بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 التي نتج منها اتفاق كامب ديفيد عام 1978، وتقارب مصر والولايات المتحدة، مما أدى إلى علاقات جيدة مع شاه إيران، ثم توترت العلاقات مرة أخرى عندما وقعت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979. وانتقدت إيران الاتفاق كما رحبت باغتيال الرئيس السادات، ثم ساءت العلاقات لدعم القاهرة العراق خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980- 1988).
أما بعد عام 2011 الذي شهد تغيير النظام المصري، فتحسنت العلاقات في عهد الرئيس محمد مرسي وشهدت زيارات متبادلة على المستوى الرئاسي.