مُتكئة على صخرة بالشاطئ، ملقية بنظرها للأفق البحري، قالت لي البنت الشابة: أعرف المرء من مشيته، وجهه يمكن أن يتخفى بالتبرم أو ابتسامة، كذلك تفعل عيناه، لكن مشيته الاعتيادية تنبئ به، كأن يكون جسوراً أو شخصية محبطة.
غبتُ عنها غاصاً في تأملاتي لملاحظاتها، تذكرت الفلاسفة المشائين، والفراسة العربية ما تنبش عن المرء، من خلال آثار ممشاه، قلت لنفسي: الجسد ليس وعاء الروح، بل الروح مجسدة.
جاءني هذا، وشغلني عن متابعة جنازة أول رئيس تونسي، يموت وهو في السلطة، (السبسي) من مشى في جنازته (مورو)، شيخ حزب (النهضة)، حليفه في صنع نهايته الميمونة.
وفي الأثناء جذبتني مشية (جونسون)، مَنْ حين مغادرة السبسي قصر قرطاج إلى المثوى الأخير، دخل (داوننغ ستريت) كرئيس وزراء، حيث جلس ونستون تشرشل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما من مرة شاهدتُ فيها، السبسي في التلفزيون، لم أتذكر بورقيبة، إيماءات جسده جملة ومفردة، تحيلني إلى ذلك التذكر، لما يرفع أصبعه، لما يمسُ رأس امرأة، فما بالك لما يتكلم، وقبل وهو يمشي، حاولت التأكد من هاجسي هذا، بأن أغلق الصوت في جهاز التلفزيون، فبان لي تفصيل إضافي، حركة الشفتين عند الحديث، ولما ينتهي منه، أما الغضب، فإن غضب السبسي الظاهر مختلف في الحدة عن بورقيبة، وفي هذا الاختلاف يتضح الفرق بين الأصل والصورة.
أما ألكسندر بوريس جونسون، فبدا كشخصية خارجة عن السياق الإنجليزي، مشيته أيضاً كسر للإيقاع، فسابقته (ماي) ترفع الرأس والوزراء يعلون الصدر، بينما (جونسون) تشرشل يمشي الآن وهنا، بمشية غريبة وثقيلة وقوية، طلعته متهكمة وجسورة، إن روح تشرشل (الباشا) تلبس جسد جونسون (حفيد الباشا).
أعيد فأؤكد، أن الجسد ليس وعاء الروح، بل الروح مجسدة، وأن الروح التي يشع بها الجسد تتلبس الصورة التي هي ليست الأصل، بطبيعة الحال.
ولذلك كنت كلما شاهدت السبسي، أتذكر الأصل (بورقيبة)، خصوصاً في مرحلة الصراع على السلطة، بينه والغنوشي، ثم فوزه بالسبق، وأظن أن الغلبة كانت للسبسي لأنه بورقيبي أصيل، بينما الغنوشي كان يريد التغلب على روح بورقيبة في جسد السبسي، ومن هذا لكليهما روح ماضوية لمواجهة الحاضر المتغير.
ولقد لاحظت أن جونسون، في وزارة (ماي) أكبر من (ماي)، لذلك رأيت في استقالته، الطريقة لتبوؤ المكان الشاغر بالنسبة إليه، وأما ما يومئ به جسده، أنه مترامي الأطراف، أنه الثور في حلبة من دون مبارز، ومن هذا، ثقة تشرشل في نفسه، لبسته روح ذلك الرجل، فكان يعتقد في دخيلته أن (ثاتشر) رجل. وهناك تفاصيل جمة، تبين التشابك بين الروحين، بين الأصل والصورة، خصوصاً ما تبان، لعين مهتم بالفن والآداب.
لقد استمد الرجلان، محمد الباجي قايد السبسي، مواليد 1926، وألكسندر بوريس جونسون، مواليد 1964، الطريقة من الماضي، في حاضر مضطرب، السفينة فيه، بين أيدي أمواج متلاطمة، وتفتقد البوصلة. ومن هذا كأنهما شبحان غرائبيان، يفعلان ما ليس متوقعاً منهما، ويفوزان بالمستحيل، بطرق تبدو بالية أو غير معقولة، وليس ثمة ما بينهما، غير أن كلاً منهما، تتلبسه روح زعيم كان.
ما أقدّره أن الأزمات والتحولات الجذرية، ما تقلب الموازين، ما تطيح بالبوصلة التي نعرف، تجعلنا نستعيد الدفة والمجدافين ما نعرف.
تأملت في هذا، غبّ مغادرة السبسي، وإقبال جونسون، ولما جاءني يسعى، خبر موت الفيلسوف الفرنسي المغمور ميشيل سير، مواليد 1931، وفي حوار معه نُشر في المناسبة مترجماً للعربية، وجدته يفسر لي ما غمض عني: "أننا نعيش تأرجحاً ثقافياً، يمر عبر ثلاثة أحداث كبرى، تتمثل الأولى في اختفاء طبقة الفلاحين. والثانية ديموغرافية إذ كان العالم فارغاً، واليوم هو ممتلئ بفضل الزيادة في معدل العمر. والثالثة مع بداية عام 1995 مع وصول التكنولوجيا الجديدة، والقطيعة في الوقت ذاته شاملة وفردية، ما دامت تقوم بأرجحة مهننا، وطريقتنا في إعلامنا، وعلاقتنا بالآخرين، فعمل المدرس، والعلاقة بالطبيب، وبالمسؤولين السياسيين، قد تشوشت".
لقد بدا لي أني، أمام شخصيتين فلتتا من رواية، فإن السبسي شخصية روائية تاريخية، ضائعة في شارع الحبيب بورقيبة الغاص بالشباب، وهذه الشخصية الروائية محملة بسرديات كبرى، تناساها الزمان ووضعت في المتحف على عجل، بينما جونسون شخصية روائية، هاربة من مستقبل مجهول، تتلبسها روح مكابدة، قديمة الأسلوب ومن طرز فيكتورية، وكل شخصية فلتت من رواية مختلفة، لكن تجمعهما لحظة استثنائية مشتركة.