Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أعجوبة" سينمائية صغيرة تتحقق ذات يوم على شاشة برلينية

حين يلتقي ميتران وهيروهيتو الغواص الفرنسي ومحلل الجنس الأميركي في مناسبة واحدة

مشهد من فيلم "الشمس" للروسي سوكوروف (موقع الفيلم)

ملخص

حين التقى ميتران وهيروهيتو الغواص الفرنسي ومحلل الجنس الأميركي في مهرجان برلين السينمائي

منذ سنوات طويلة، لا يكاد يمر عام سينمائي واحد من دون أن يشهد عروض أفلام من نوعية باتت تتكاثر بوفرة في العقود الأخيرة. أفلام تاريخية تتناول من موقع روائي بالتحديد، حيوات شخصيات حقيقية لعل الأكثر لفتاً للنظر بينها، تلك التي تتحدث عن شخصيات صنعت القرن الـ20 وليس فقط في المجالات السياسية بل في شتى المجالات وصولاً إلى الأفلام التي تتحدث حتى عن صانعي السينما الكبار. ولئن بات يبدو شيء من التباطؤ في تحقيق مثل هذه الأفلام خلال سنوات "كوفيد – 19"، وما بعدها بحيث يبدو وكأن الجعبة فرغت من شخصيات كبيرة يمكن التوقف عندها، فإن العقد الأول من القرن الجديد قد شهد ازدحاماً في تحقيق النوع وصل إلى ذروته، مثلاً، عام 2007 حيث تجمعت في دورة ذلك العام لمهرجان برلين السينمائي نحو دزينة من أفلام تنتمي إلى النوع من بينها أربعة اعتبرت نموذجية في تنوعها وجرأة السينما في تناولها: اثنان سياسيان أحدهما عن آخر أيام الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والثاني عن آخر أيام سعادة وقداسة الإمبراطور الياباني هيروهيتو. أما الباقيان فعن شخصيتين تبدوان بعيدتين كل البعد عن اهتمامات الجمهور العريض ما استكمل صورة تحمل في تناقضاتها دلالات في غاية الأهمية عن قدرة الفن السابع على تحقيق تلك "العجائب" على شاشاته جامعاً المتناقضات لمناسبة واحدة لم يكن واضحاً مقدار قدرتها على جمعها.

غوص وجنس ومفارقات

ولتوضيح الأمور هنا نقول منذ الآن، إن الشخصية الأولى التي وجدت نفسها فجأة في صحبة الرئيس الفرنسي والإمبراطور الياباني على غير توقع، هي شخصية عالم المحيطات الفرنسي الذي كان قد رحل قبل سنوات، جاك إيف كوستو الذي اشتهر بقلنسوته الحمراء وغوصه في كل يوم من حياته في أعماق البحار والمحيطات مستكشفاً مغامراً راصداً مصوراً ما تحمله تلك الأعماق، على متن سفينته الغواصة "كاليبسو". أما الشخصية الثانية، فهي شخصية ألفريد كينزي، الطبيب الأميركي الذي أدار في أربعينيات وخمسينيات القرن الـ20 دراسة فريدة من نوعها مع فريق عمل تابع له عن "السلوك الجنسي لدى الذكور والإناث الأميركيين". وحتى من قبل عرض هذا الفيلم حينها راح كثر يتساءلون عما في حياة هذا الطبيب، ما يثير اهتمام مخرج سينمائي فيحول حياته ومغامرته العلمية إلى فيلم سينمائي. والأدهى من هذا أن الفيلم هزلي. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن الدراسة التي قادها كينزي ويشكل العمل عليها وعلى استنتاجاتها وربطها بحياة مديرها، وإخفاقاته الجنسية الخاصة، محور الفيلم، هذه الدراسة أجريت يومها على آلاف العينات، ذكوراً وإناثاً من الأميركيين وخرجت بنتائج مدهشة قلبت كل المعايير، وكشفت كم أن المجتمع الأميركي الشهير بأخلاقياته وصراحته كان في ما يتعلق بالجنس مجتمعاً مغلقاً محافظاً يفضل أبناؤه بشتى انتماءاتهم وطبقاتهم تكتماً وتعتيماً كبيرين على حياتهم الجنسية. وسيقال لاحقاً، إن انكشاف كل هذا حين نشرت الدراسة وأثارت صخباً كبيراً، قد بدلا من السلوك الجنسي الأميركي إلى حد كبير. ومن الواضح أن الفيلم ومن خلال حكاية الدكتور كينزي قال كثيراً عن حجم ذلك التبديل.

حكاية غواص

إذا كان الدكتور كينزي غاص وفريق عمله في أغوار الحياة الجنسية لمواطنيه وكشف ما كشف، فإن القومندان جاك إيف كوستو غاص في أعماق البحار ليكتشف ويصور ما يدور حقاً في تلك الأغوار. وفيلم "الحياة المائية" الذي حققه الأميركي فيس أندرسون الذي يقول إنه كان معجباً بكوستو منذ طفولته، يقدم حياة كوستو ومغامراته، ولكن ليس بشكل مباشر. فكوستو الغواص يحمل لديه اسماً آخر والسفينة عمدت باسم مختلف. ولئن كانت حياة كوستو عادية فإن "الحياة المائية" جعلتها هزلية. وكيف لا يفعل ذلك والمخرج اختار بيل موراي للعب الدور. ومهما يكن من أمر فإن الجمهور تعرف من خلال شخصية غواص الفيلم على ذلك المغامر الفرنسي الذي كان أسطورياً في طبيعته ونشاطه، وكان الفرنسيون لفترة طويلة من الزمن يعتبرونه أحب الرجال الفرنسيين إلى قلوبهم، بل حيكت من حوله أساطير قالت إحداها يوماً، إن الوحي تجلى له في أعماق البحار ما جعله يعتنق الإسلام. وهو أمر نفاه كوستو يومها. والنتيجة فيلم جميل يختلط فيه الجد بالهزل والخيالي بالواقعي، تتوج ذلك كله قبعة حمراء يعتمرها بيل موراي لتذكر من ينسى أنه هنا حقاً في حضرة القومندان كوستو.

ميتران إنساناً

ولئن كان كوستو اعتبر يوماً أحب الرجال إلى قلوب الفرنسيين، فإن الرئيس الفرنسي السابق فرانسو ميتران كان بدوره أكثر رجال السياسة عندهم مدعاة لاحترامهم. حتى خصومه اليمينيون كانوا يكنون له كل الاحترام من دون أن يحبوه. أما بالنسبة إلى الاشتراكيين فإنه إذ وحد حزبهم ذات يوم وأوصلهم إلى السلطة وجعل لوطنه فرنسا مكانة كبيرة في العالم، صار بالنسبة إليهم أكبر رجل في القرن الـ20 وبوأوه مكانة تفوق مكانة الجنرال ديغول. ومن هنا بقدر ما كان ميتران كبيراً لديهم بقدر ما اشتد نقاشهم واعتراضهم على فيلم "متنزه شان دي مارس"، منذ أعلن عن تحقيقه وحتى بداية عرضه. فإذا عرفنا أن مخرج الفيلم اشتراكي من أنصار ميتران وأن كاتبه اشتراكي بدوره سينال منا العجب حقاً، ولكن لن يكون علينا أن نغوص بعيداً في التأويل، ذلك أن الفيلم الذي صنع صناعة جيدة، واختار لدور ميتران ممثلاً كبيراً هو ميشال بوكيه، لم يتوقف عند نشاط ميتران وجهاده السياسي طوال أكثر من نصف قرن، بل وصل مباشرة إلى أيامه الأخيرة. وكان هذا اختياراً منطقياً، إذ إن أي فيلم سينمائي لا تزيد مدة عرضه على ساعتين، سيكون عاجزاً عن إيفاء حياة رجل كميتران حقه. ومن هنا، ولأن أيام ميتران الأخيرة كانت أياماً درامية، بعد أن بات مرضه بالسرطان مؤكداً وآن له أن يتنحى عن السلطة، وسط تمزقات أجنحة حزبه ووارثيه، بدا واضحاً أن فيلماً جيداً عن ميتران يمكنه أن يكتفي بوصف تلك الأيام، خصوصاً أنها الأيام التي كشف فيها عن وجود ابنة غير شرعية له، سارع هو إلى الاعتراف بها واصطحبها في زيارته الأخيرة إلى مصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هيروهيتو على الطريقة الروسية

سينما السيرة ليست، في المقابل اختصاصاً يابانياً، لذلك إذا كان فيلم عن الإمبراطور هيروهيتو قد بدا واحداً من أبرز الأفلام المعروضة في تلك الدورة لمهرجان "برلين" لم يكن لأحد أن يتوقع أن يكون الفيلم يابانياً... بل هو فيلم روسي. وعلى أي حال، ما كان يمكن لياباني، مهما كان عداؤه للإمبراطور، أن يحقق فيلماً يصوره على الشاكلة التي صوره عليها فيلم "الشمس"، بل ربما كان من الصعب على أي مخرج غير الروسي ألكسندر سوكوروف أن يقدم على هذا، ولكن ما دخل سوكوروف بهيروهيتو؟

الجواب بسيط، منذ عرض سوكوروف الروسي الذي يعتبره البعض وريثاً شرعياً، من ناحية لغته السينمائية الشاعرية والعميقة لآندريه تاركوفسكي، فيلمه "مولوخ"، الذي روى فيه آخر أيام هتلر حين كان قابعاً في مخبئه ينتظر القوات السوفياتية كي تقضي عليه وعلى دولته النازية بشكل نهائي، منذ ذلك الحين أعلن سوكوروف أن "مولوخ" إنما هو الجزء الأول من ثلاثية يود من خلالها أن يروي حكاية الأيام الأخيرة لثلاثة من كبار الديكتاتوريين الذين عرفهم القرن الـ20، وفعلاً بعد ذلك بسنتين قدم سوكروف جزءاً ثانياً هو "طوروس" عن آخر أيام لينين. وها هو الآن يقدم الجزء الثالث، عن حياة هيروهيتو هذ المرة. وهذه المرة أيضاً يبدو سوكوروف غير معني كثيراً بالإطار السياسي لحكم "أبطاله"، بل بالإطار الإنساني لشخصياتهم: إنهم هنا أمامنا بشر ضعفاء مهزومون بالكاد يدرك الواحد منهم حجم هزيمته، بل بالكاد يمكنه أن يفهم حجم السوء الذي اقترفه خلال حكمه. وفي هذا الإطار يبدو "الشمس" مثل سابقيه، فيلماً شكسبيرياً بامتياز: فيلماً عن داخل الروح وسلوك المهزوم، وارتباكه أمام لحظات القرار الكبرى. وهنا لا بد أن نفتح هلالين لنذكر أن سوكوروف سيعود بعد سنوات من تحقيق "الشمس" ليحول الثلاثية إلى رباعية مضيفاً إلى المجموعة فيلماً عن شخصية "فاوست" يحمل نوعاً من الاستطراد التحليلي "الفاوستي" هنا لسلوك الديكتاتوريين الثلاثة في لحظة سقوط أحلامهم، لكن هذا موضوع آخر بالطبع.

المزيد من ثقافة