Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيرسي كامب يروي فوضى العالم عند انقطاع الـ "ويب"

"الأخوات الخمس" رواية بوليسية تفضح ارتهاننا الكلي للتكنولوجيا الحديثة ونتائجه الخطيرة

التجسس الإلكتروني بريشة كانديس تران داي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"الأخوات الخمس" رواية بوليسية تفضح ارتهاننا الكلي للتكنولوجيا الحديثة ونتائجه الخطيرة

إن كان ثمة وريث للكاتب البريطاني الكبير جون لوكاريه، الذي رحل عن هذه الدنيا منذ عامين، فهو من دون شك بيرسي كامب. ولا نقول ذلك لأن روايات هذا الكاتب الذي ولد في بيروت عام 1952 من أم لبنانية وأب بريطاني، تنتمي بمعظمها إلى نوع الجاسوسية، ولأن بطلها، مثل جورج سمايلي في عدد من روايات لوكاريه، عميل سرّي، يستعين بعقله لحلّ المهمات التي توكل إليه، لا بعضلاته؛ بل أيضاً لأن صاحبها أثبت في كل رواية منها، ثقافة كبيرة وبصيرة نادرة في قراءة حال عالمنا.

كامب لا يتمتع بشهرة لوكاريه، لكن هذا لا يعود إلى كونه أقل ألمعية منه، بل الحقيقة هي أنه يتفوق عليه في نقطتين: ثقافته التي لا تقتصر على عالم التجسس ومختلف فصول الحرب الباردة التي تواجه فيها المعسكران الشرقي والغربي طوال القرن الماضي، كما هو الحال مع لوكاريه، بل تشمل مختلف ميادين المعرفة، لا سيما التاريخ والأدب والفكر والجغرافيا السياسية والإقتصاد الكلي والتكنولوجيات الحديثة. ثقافة لا يحضر فيضها أبداً من باب التبجح، بل يستثمره كامب بذكاء يمنح رواياته كل كثافتها وأهميتها. ولغته الفرنسية التي لا نبالغ إن قلنا إنها ترقص تحت أنظارنا برشاقتها، وتأسرنا بدقتها التعبيرية ومناوراتها وثراء مفرداتها، وبالتالي بأسلوبها الفريد والحيوي الذي يرتقي برواياته، فوق نوع روايات الجاسوسية، ويجعل منها أعمالاً أدبية بامتياز.

(ينشر ظهر غد الإثنين) جديد كامب رواية صدرت حديثاً عن دار "سوي" الباريسية بعنوان "الأخوات الخمس"، ويسرد فيها مغامرة جديدة لبطله، العميل السري الأقل مبالاة بضوضاء العالم، هاري بون. رواية لم يخطئ ناشرها، في معرض تقديمها، باستخدامه استعارة البصلة، لأن قراءتها تتطلب عبور طبقة من الخداع تلو الأخرى، تماماً مثل لعبة الدمى الروسية، "ماتريوشكا".

ولمن لم يقرأ بعد أياً من روايات سلسلة كامب التي يؤدي هاري بون دور البطولة فيها، نشير بدايةً إلى أن هذا الأخير كان مدرساً قبل أن ينخرط في سلك الجاسوسية لمصلحة أحد أجهزة الاستخبارات البريطانية، الـ "كلوب هاوس"، ويتمتع بشخصية فريدة لأنه لا يملك مواصفات العميل السري الذي لا يعرف الخوف ولا الذنب، بل يحاول عبثاً تشييد حياة هادئة بعيداً عن الاضطرابات الجيوسياسية التي من شأنها زعزعة مشروعه. بون رجل ذو طبيعة متعوية قبل أي شيء، لا تشوبه أيضاً العيوب الأيديولوجية والمهنية التي تميّز غالبية الناشطين في ميدانه، بل تمنحه المسافة التي يحافظ عليها مع القيم والرهانات الجيوستراتيجية الكبرى التي تتحكم بعالمه، قدرة كبيرة على التحليل تسمح له بتجنب الوقوع ضحية مختلف عمليات التلاعب والتضليل التي يجد نفسه متورطاً فيها.

أحداث رواية كامب الجديدة تُسقط بون في غرناطة، خلال فترة الاحتباس التي اختبرها العالم في العام 2020، حيث نراه ينشط تحت غطاء مستشار ثقافي بريطاني، ويجهد للبقاء في هذه المدينة إلى جانب رفيقة دربه اللبنانية، عالمة الآثار الجميلة ماريا. لكن أحداث عالمنا لا تلبث أن تلحق به وتخرجه من عزلته المخملية. ففي البداية، نجده في سباق مع مجموعة إسلامية إرهابية للعثور على قطعة أثرية قديمة مذكورة في مخطوطة عربية عمرها خمسة قرون، فنرافقه في رحلة البحث عن هذا الكنز داخل أروقة "قصر الحمراء"، قبل أن يتبين أن الأمر يتعلق بخرافة ابتكرها مسؤولو الجهاز الذي يعمل لمصلحته لتبرير حضوره في غرناطة وإنجاز مهمته السرية الحقيقية، أي إقامة علاقات متينة مع المجموعات الراديكالية الاستقلالية الناشطة في إسبانيا، بغية تحريكها، في حال فتحت السلطات الإسبانية ملف سيادتها المشروعة، ولكن المنقوصة، على جبل طارق.

بعد ذلك، تتعرّض خطوط الإنترنت البحرية لعدة هجمات إرهابية تعطّل الخدمة على الشبكة العنكبوتية. وبما أن اقتصاد العالم ورضا قاطنيه باتا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بهذه الشبكة، تقلق حكومات الدول الكبرى من عواقب هذه الهجمات، ومعها أولئك الذين يتمتعون اليوم بنفوذ أكبر منها، ونقصد أصحاب الشركات الخمس الكبرى التي تهيمن على عالم الشبكة العنكبوتية وما وراءه، أي "غوغل" و"فيسبوك" و"أمازون" و"أبِل" و"مايكروسوفت". شركات يطلق كامب عليها تسمية "الأخوات الخمس" في إشارة إلى "الأخوات السبع"، أي شركات النفط التي كانت تتحكم بمصير العالم من منتصف الأربعينات حتى نهاية السبعينات.

جرثومة معلوماتية

وكما لو أن ذلك لا يكفي، تفسد جرثومة معلوماتية جميع محاولات الشركات المذكورة لإعادة تشغيل الخدمة على الشبكة العنكبوتية. وبما أننا في وسط الاحتباس الذي فرضه وباء "كوفيد"، والناس منعزلون داخل منازلهم ولا يتواصلون إلا عبر الإنترنت، يؤدي هذا العطل إلى صدمة عنيفة لا سابق لها، ويحلّ على العالم صمت مطبق. كيف نعيش من دون خدمات "الأخوات الخمس"؟ وكيف كان ممكناً شلّ عمالقة شركات التكنولوجيا الكبرى وإيقاع العالم بأسره، المرتهن لها، داخل هوة سحيقة؟ ومَن لديه القدرة على إنجاز ذلك، أومصلحة في زرع الفوضى داخل الإمبراطورية الرقمية، في الوقت الذي كانت تسمح هذه الأخيرة فيه لسكان العالم بتحمّل عزلتهم الإكراهية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الإجابة على أي من هذه الأسئلة من شأنها إفساد قراءة الرواية، الممتعة والمهمة على أكثر من صعيد. لكن ما يمكننا أن نقوله فيها هو أنها تعرّي بدقة عيادية حقيقة عالمنا الراهن. حقيقة مخيفة يمكن اختصارها بجملة نقرأها داخلها: حين يكون الملل أسوأ عدو للثقافة، يصبح الترفيه المسيح المنتظر". وفعلاً، إثر حرمان الناس من خدمات الـ "ويب"، تعمّ الفوضى في أرجاء المعمورة، مرفقة بأعمال شغب وتكسير، مما يعزز من قلق حكومات الدول الكبرى. ولا عجب في ذلك، فنحن في عصر السلطة الرقمية، والمواطنون (citizens) باتوا مجرد كائنات ترتبط حياتها وسعادتها باستخدامها للإنترنت (netizens). وفقط حين يحلّ القنوط على جميع الجبهات والنفوس، يطلب الطرف المسؤول عن تعطيل الشبكة العنكبوتية فدية لإعادة تشغيلها. فدية أقل ما يمكن أن يقال فيها هو أنها غير معتادة...

انطلاقاً من هذه النقطة، تنتظرنا في الرواية سلسلة من التطورات غير المتوقعة، لكن هذا لا يعني أن كامب يلجأ هنا إلى عنصر الإثارة، فيضخّ داخل سرديته أحداثاً مشوّقة، بل يعتمد منهجاً معاكساً كلياً. فمثل شخصيته الرئيسة بون، نراه يأخذ وقته في تفصيل تعقيدات الظرف الناتج عن هذه الهجمات، وتشابكات المؤامرة. وبدلاً من التشويق الرخيص، يجعلنا نقفز من مفاجأة إلى أخرى حتى الصفحة الأخيرة. وفي هذه الأثناء، وبلمسات صغيرة ومهارة كبيرة، يجبرنا على التأمل في ارتهاننا للتكنولوجيات الحديثة، مبيناً لنا، بجهد توثيقي وتحليلي مذهل، كم أنها في الواقع تقدُّم ذو حدّين، ومنبّهاً إيانا من أخطار "اللعبة الكبرى" التي لم تنته مع انتهاء الحرب الباردة، ومن كابوس نسختها الرقمية.

باختصار، يمنحنا كامب في "الأخوات الخمس" رواية جاسوسية ذات طابع فلسفي، تُقرأ بمتعة نادرة وتحثّنا على التفكير في حقبتنا التي يملك الكاتب مفاتيحها، وتحديداً في حقائق مرعبة من حداثتنا الزاحفة، تعمي الأبصار لدرجة بالكاد يمكن تمييزها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة