ملخص
نقاشات للسودانيين حول الحرب تدل على أن ثمة ضعفاً تأهيلياً أصاب الجيش الذي أصبح منذ انقلاب "الإخوان" بقيادة البشير على النظام الديمقراطي عام 1989 يتعرض لموجات من تأثير الضباط ذوي الاتجاه الإسلامي.
منذ أن اندلعت الحرب الجارية في السودان بين الجيش و"الدعم السريع" في الـ 15 من أبريل (نيسان) الماضي، وثمة سردية مضللة لفئة من الناس يتصدرها فلول النظام القديم (الإخوان المسلمون) تمارس مصادرة على المضمون من ناحية، كما توظف هذه الفئة من ناحية ثانية سلاحاً كارثياً من ذلك النوع الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش تحت شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، عندما أعلن حربه على إرهاب القاعدة إثر أحداث الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية.
لكن بقليل من التأمل عميقاً في الجذور التاريخية للأحداث السياسية في السودان يمكن القول إن هذه الحرب "الخرطومية" تعتبر في مستوى ما خاتمة متوقعة، ليس فقط كحدث مباشر لخلاف حقيقي بين طرفي الحرب في الموقف من الاتفاق الإطاري، وإنما كذلك كخاتمة للصيرورة التي كانت تؤشر إليها أزمة علامات احتكار السلطة والثروة من طرف مكون مناطقي واحد على مدى أكثر من 67 عاماً، أي منذ استقلال السودان.
والحال حين يصار إلى تصوير هذه الحرب اليوم كمجرد حرب للجيش ضد ميليشيات متمردة فقط، فإن هذا التصوير الجوهراني ينطوي على تضليل كبير لحقائق الأشياء حيال الوقائع الصلبة اليوم، وهي وقائع متى ما تأمل فيها باحث متعمق فسترده إلى تعقيدات كثيرة ومركبة تنأى به عن قبول ذلك التصوير الذي يتم إعلانه في شعار هذه الحرب.
واليوم ثمة تساؤلات كثيرة تكتنف طبيعة أداء الجيش المرتبك في هذه الحرب مع انتشار قوات الدعم السريع في الخرطوم، بحسب إفادات شهود عيان، ووجودهم في مواقع إستراتيجية مثل القصر الرئاسي والقيادة العامة والمطار ومبنى الإذاعة والتلفزيون، فضلاً عن الروايات والفيديوهات التي تظهر وقوع قادة كبار في الجيش من ضمنهم المفتش العام أسرى بيد قوات الدعم السريع.
هذه التساؤلات التي تطفو على سطح نقاشات الشأن السياسي للسودانيين حول الحرب تدل بوضوح على أن ثمة ضعفاً تأهيلياً أصاب الجيش الذي أصبح منذ انقلاب "الإخوان" بقيادة البشير على النظام الديمقراطي عام 1989 يتعرض لموجات من تأثير الضباط ذوي الاتجاه الإسلامي، فضلاً عن إشكال بنيوي آخر صحب الجيش منذ التكوين الحديث لدولة الاستقلال، لناحية غياب التمثيل القومي الحقيقي لجميع مكونات الشعب السوداني في القيادات العليا للجيش.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوير هذه الحرب على أنها حرب الجيش ضد الدعم السريع من دون أي تفسير سياسي، فإن هذا التصوير سيغيب حقائق أخرى، لا سيما للمراقبين الخارجيين، ومن هذه الحقائق أن قوات الدعم السريع هي في الأصل صنيعة حصرية للجيش ولكبار الضباط فيه، إذ كان أولئك الضباط الكبار يوظفون قوات الدعم السريع في سنوات الحرب للقتال ضد حركات التمرد في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وبوجود هذه الحقائق حيال خلفية هذه الحرب سيكون من الصعوبة بمكان تفسير هذه الحرب على أنها مجرد حرب للجيش ضد ميليشيات مسلحة، فيما جميع السودانيين يدركون مثلاً أن هناك علاقة عضوية متماهية ومعروفة للجميع بين الجيش والدعم السريع منذ أكثر من 10 أعوام، فإذا عرفنا كذلك أن كلاً من الجيش و"الدعم السريع" وقعا على الاتفاق الإطاري ضمن المكون العسكري، فسيكون من الصعوبة بمكان تفسير هذه الحرب من دون تصور لخلاف أساس بين الطرفين في الموقف من الاتفاق الإطاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ضوء كل هذه المعطيات علينا إيجاد التفسير السياسي للحرب بين الطرفين بدلاً من الاصطفاف مع أحدهما أو نعت الطرف الذي لا يؤيد الحرب بـ "الخيانة الوطنية"، والتفسير السياسي كان من الوضوح بمكان حين بدأت تتكشف أزمة العلاقة بين طرفي المكون العسكري، الجيش والدعم السريع، إثر انقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) الذي أعاد عبره قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان عناصر من فلول النظام القديم، نظام الإخوان المسلمين، إلى مواقع في السلطة التنفيذية لكي يكونوا بمثابة حاضنة له، وكان الأمر أكثر وضوحاً حين رفض البرهان وفق شريط فيديو مسرب قرارات رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بعد أن عقد الأخير مع البرهان اتفاق الـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) الذي تمت بموجبه إعادة حمدوك رئيساً للوزراء، وهي قرارات ألغى حمدوك بموجبها التعيينات التي أحدثها البرهان بعد الانقلاب وأعاد فيها مجموعة من فلول النظام السابق، مما تسبب لاحقاً في استقالة حمدوك.
كما كان واضحاً أن قائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي حين أدرك أن انقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 فتح باباً لعودة فلول النظام القديم، أخذ يباعد خطاه عن البرهان، ولذلك حين وقع كل من البرهان وحميدتي على الاتفاق الإطاري في يوم الخامس ديسمبر (كانون الأول) 2022 اعتذر الأخير في خطابه أثناء حفل التوقيع للشعب السوداني عن الانقلاب الذي قال إنه كان خطأ، فيما صرح الأول في اليوم ذاته بأن الانقلاب كان خطوة تصحيحية.
وفي خلفية هذه العلاقة المعقدة بين الجيش و"الدعم السريع" سيكون من الضروري اليوم تفسير سياسي لسبب الحرب يمكن للمواطن السوداني في ضوئه أن يعلن موقفه، فلو حللنا بالحسابات السليمة فهل يعقل لطرفي مكون عسكري كانا على تلك الدرجة الواحدة من التماهي والاصطفاف، أن يخوضا مثل هذه الحرب بينهما في مدينة مثل الخرطوم من دون أن نفكر بأن ثمة أكثر من مركز لاتخاذ القرار داخل الجيش السوداني مثلاً؟ لا سيما إذا عرفنا اليوم أن النائب الجديد للبرهان في مجلس السيادة بعد عزل الأخير لحميدتي من منصب نائب رئيس مجلس السيادة، وهو مالك عقار قد صرح بوضوح لبعض القنوات الإخبارية بأنه سيبذل كل جهده لإيقاف الحرب، وأن الحوار السياسي بين الطرفين هو الحل الأمثل، في دلالة واضحة على الاختلاف في الموقف من الحرب بين رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان الذي يقود الحرب ضد الدعم السريع، وبين نائبه الجديد في مجلس السيادة مالك عقار الذي أعلن نيته العودة للحوار.
وإذا ثبت اليوم بأن تعداد قوات الدعم السريع يبلغ 100 ألف مقاتل، وأن هذه القوات موجودة في جميع أنحاء السودان وأنها تتشارك مع الجيش السوداني حماية المواقع الإستراتيجية كمثل مبنى القيادة العامة والقصر الجمهوري والمطار وغيرها، فهل يعقل أن يشن الجيش حرباً على قوة بهذا الحجم في العاصمة الخرطوم، بخاصة أن الجيش عادة غير مصمم للتدريب على حرب المدن؟
وكيفما قلبنا وجوه الرأي فسنجد أن التفسير السياسي لن يقودنا إلى أن الجيش بالضرورة كان رافضاً للاتفاق الإطاري، وإنما الأكثر دقة هو أن ثمة ضباطاً في الجيش كانوا ضد تنفيذه وكانوا يطلقون تصريحات متناقضة في وسائل الإعلام حول موقفهم منه، أمثال الفريق الكباشي.
وأمام هذه المعطيات يمكننا القول إنه ربما يكون ثمة أكثر من مركز لاتخاذ القرار داخل الجيش أو ثمة ارتباكاً واضحاً في إدارة الحرب، ولعل من المهم جداً كذلك إدراك أن اتفاق إعلان المبادئ في مدينة جدة بين الجيش والدعم السريع الذي تم الأسبوع الماضي برعاية الولايات المتحدة والسعودية، ثبت الوصف القانوني لـ "الدعم السريع" بوصفها قوات دعم سريع وليست ميليشيات متمردة كما يصنفها الجيش السوداني اليوم، فضلاً عن أن الجيش وقّع أمس في جدة اتفاقاً جديداً للهدنة يلزم كلا الطرفين بالبقاء في مواقعهما، مما يعني أن المجتمع الدولي لديه رؤية واضحة لطبيعة الصراع بين طرفي الحرب، والأرجح أنه مدرك للأسباب السياسية الكامنة في خلفية الحرب بين الطرفين، أي في كونها أسباباً عكست بوضوح في أن أحد طرفي الحرب ظل متشبثاً بموقفه الداعم لتنفيذ الاتفاق الإطاري، فيما الآخر أو جزء متنفذ فيه كان رافضاً للاتفاق الإطاري.
وهكذا سنجد أن التصوير الجوهراني بضرورة الوقوف إلى جانب الجيش في هذه الحرب لا يتسق مع أي تفسير سياسي لأسباب الحرب من سياق وقائع التسوية الوطنية التي كان سيصار إليها خلال الأشهر التي سبقت الحرب، أي منذ توقيع أطراف في القوى السياسية والجيش والدعم السريع على الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر 2022، وهو اتفاق لقي دعماً إقليمياً ودولياً كبيراً وتم تحديد موعد للتوقيع النهائي عليه بين جميع الأطراف الموقعة في الأول من أبريل الماضي، ثم التوقيع على الإعلان الدستوري في السادس من أبريل الماضي، فتشكيل الحكومة المدنية في الـ11 من الشهر نفسه، ليتفاجأ الجميع بالحرب بعد أربعة أيام من الموعد المضروب لتشكيل حكومة مدنية يعود العسكر بموجب تشكيلها للثكنات.