ملخص
جاء عمل "العطر" نصاً وفيلماً ليشير إلى إهمالنا المريب لهذه الحاسة التي تعد مدخلاً رئيساً لعلاقتنا بالطبيعة، فما الرسائل التي يمكنه أن يقولها؟
تمكن فيلم "العطر" للمخرج توم تيكوير، الذي عرض عام 2006، من تفكيك جزء صغير من علاقة الإنسان التاريخية مع الرائحة بوصفها مدخلاً لفهم ورصد علاقة الإنسان بالكون من خلال حاسة الشم.
عرض الفيلم الذي حمل مؤشرات عديدة إلى الحال التي تعانيها هذه الحاسة في زمن التقنيات الحديثة، إذ طور الإنسان المعاصر صيغاً إلكترونية متقدمة عبرت عن بعض حواسه بطريقة مبهرة، ومنها الرؤية من خلال اختراع عدسة الكاميرا، والسمع عبر أجهزة التسجيل الحديثة، وكذلك العقل الذي يدير كل الحواس باختراع الحاسوب (الكمبيوتر)، فيما يعد "الأنف الإلكتروني"، وهو أحدث ما يعرض حالياً من تطبيقات التكنولوجيا لهذه الحاسة ودورها في حياتنا، اختراعاً بدائياً إذا ما قورن بغيره من التطبيقات.
أجمل عطور التاريخ
جاء عمل "العطر" في هذا السياق نصاً وفيلماً ليشير إلى إهمالنا المريب لهذه الحاسة التي تعد مدخلاً رئيساً لعلاقتنا بالطبيعة، إذ ركز كلاهما بشكل متعمد على الشخصيات الإنسانية التي كانت وما زالت الحامل الحقيقي والمعبر الأول عن تلك الحاسة قديماً وحديثاً، وقد صاغ باتريك زوسكند، كاتب الرواية التي أخذ الفيلم عنوانها وأحداثها مقابل 10 ملايين دولار، روايته ضمن قالب فني يصعب فهمه وإنتاجه سينمائياً، إذ ارتكزت الرواية بالكامل على شخصية معقدة هي شخصية جان باتيست غرونوي، التي وضعت ضمن حبكة غامضة لتعبر عن تجليات عقليته المريضة، إذ تحول من شخص منبوذ غريب الأطوار إلى آخر مؤثر يسحر البسطاء من أبناء قريته التي عاد إليها بعد أن عمل في باريس بوظيفة تركيب العطور، وخاض مغامرات مع الجريمة ليصبح قاتلاً متسلسلاً يبحث بجنون مرضي عن رائحة الأنثى التي حلم بأن يقطّرها مثل الزهور لإنتاج أفضل عطر عرفته البشرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقودنا الفيلم من خلال مفارقات عدة إلى الانتباه أكثر إلى تمكن "هوليوود" منذ القدم من التعامل سينمائياً مع نصوص صعبة تتناول تركيبة الإنسان النفسية المعقدة التي تنشأ منذ الصغر نتيجة ظروف قاهرة، ودور هذه الظروف في صناعة الشخصيات المريضة كما رسمها كل من مخرج العمل توم تيكوير ومنتجه الذي يلعب دور البطولة داستن هوفمان، في ما عبر بناء زوسكند لشخصية بطله غرونوي الذي ولد، وفق مربيته الجشعة، من دون أية رائحة تميزه عن بقية الأيتام الذين تعتني بهم، عن تراكمات نفسية هائلة لدى المجتمع الإنساني قديماً، كما كشف الفيلم عن قدرة "هوليوود" على عكس تلك التعقيدات بصرياً ضمن صيغة ترفيهية، إذ يمكن من خلال تتبع الأحداث في الرواية والفيلم، إضافة إلى رصد سيرة الكاتب الانطوائي، معرفة مدى تأثر العملين بأفلام المخرج البريطاني الفريد هتشكوك (1899-1980)، وملاحظة قوة العلاقة الروحية التي تبدو وثيقة بين بطل الفيلم ومنتجه اليهودي داستن هوفمان والممثل الذي قام بدور (المعتوه غرونوي) وهو الإنجليزي بن وشو.
زمن الأسطورة الكاملة
شهدت حقبة الأربعينيات من القرن الماضي ذروة محاولة الفن التعبير عن الظواهر الغامضة من خلال أشياء محسوسة مثل العطر، إضافة إلى التلاعب بأيقونات بعض المخلوقات ذات الدلالات الرمزية العالية ومنها الطيور، وقد كتب زوسكند بعد "العطر" رواية "الحمامة"، وفيها يتجلى شغف كاتب النص بهذا النوع من الأعمال ذات البعد النفسي والإيحاءات الإجرامية والجنسية القوية، إذ يشترك في هذا مع هتشكوك الذي حول بدوره فيلم "الشك" (1940) إلى "عمل شرير ومنحرف إلى حد خطر"، وفق الممثلة هيدرين التي عملت معه في كثير من الأعمال، وذلك من خلال تطبيق فكرة "تأطير اللقطة لزيادة القلق والخوف والتوتر عند المشاهد".
ويمكن القول إن هوفمان المخضرم وطاقم عمله طبقوا الآلية ذاتها في "العطر" لإنتاج فيلم مختلف، ويظهر كثير من الكتابات وتعليقات الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي أن "العطر" حقق تبايناً إيجابياً ملحوظاً بين النص المكتوب والنص البصري.
يقول أحد المعلقين "الرواية أجمل من الفيلم لأنها تأخذك إلى عالم العطور أكثر من الجريمة، لكن أعجبني هوس جان بالوصول إلى هدفه في إنتاج عطر مكتمل".
اختار زوسكند بطل روايته شخصاً معتوهاً ووظف شخصيته لكي تكون بمثابة مدخل غير تقليدي بين العمل وعوالم الأنثى، فذهب المؤلف بشكل متعمد إلى شخصية المعتوه بدل العبقري لأنها أكثر مواءمة لعوالم النص، في حين ذهب داستن هوفمان لامتلاك هذا النص للسبب ذاته، فهوفمان معروف بميوله نحو الأبطال المخالفين للعرف الذين برع زوسكند في الكتابة عنهم، لذلك جاء العمل نصاً وفيلماً بوصفه تركيبة سحرية تضم عوالم الرواية إلى عوالم شخصيات الفيلم الحقيقية، وتوج العمل السينمائي ببطولة وشو الذي عرف لاحقاً أنه صاحب ميل حقيقي نحو العلاقات الاجتماعية المختلفة، ومنها علاقته الخاصة مع الملحن الأسترالي مارك برادشو.
قادت شخصية المعتوه الروائي نحو عالمي الجريمة والرعب، بينما حافظ الفيلم على هذه التركيبة من دون خشية من إساءة فهم العمل السينمائي، مع ذلك عبر كثير من مشاهديه عن (قرفهم) من شخصية جان، فيما تعاطف بعض الناس معه، ومنهم ثريا التي علقت على صفحة الفيلم بالقول "شاهدته وحدي ومت خوفاً وقرفاً".
قوة النهايات الغامضة
يعد هتشكوك واحداً من رواد فكرة النهايات الغامضة، خصوصاً بالنسبة إلى الأفلام المتعلقة بالجريمة والرعب، فالنهاية الغامضة تعني له الحفاظ على صورة البطل في الواقع، ومع أنه أمر لا يحبه جمهور السينما فقد طبقه "العطر"، إذ تلاشى جان في نهاية الفيلم ولم يعرف الجمهور إن كان قتل أو نجا من حكم الإعدام، مع أن زوسكند أكد موته في الرواية.
وتعد نهاية الفيلم الغامضة انحيازاً من قبل صانعي العمل ضد الشخصيات النمطية والثابتة عموماً، التي تبحث دائماً عن نهاية منطقية للبطل المكروه. وبسبب نهايات كهذه وصفت بأنها تهاجم أيقونة الأنثى الجمالية والجنسية ولا تنتقم لها داخل العمل، اتهم هتشكوك وهو عراب مثل هذه الأعمال وكل من سار على نهجه في الأوساط الفنية النسائية بأنهم "كارهون للنساء".
لم يختر جان أن يكون معتوهاً، لكنه كان يحلم بأن يكون شخصاً مؤثراً، وقبل أن يصبح قاتلاً متسلسلاً عانى من حوادث عديدة متعاقبة أسهمت في تكوين شخصيته المركبة بين كونه صانع عطور عبقرياً وإنساناً مغتصباً ومجرماً منحرفاً نفسياً وجنسياً، إذ ولد في مكب للنفايات في سوق الأسماك التي تعمل فيها والدته، وكانت الأخيرة تنوي قتله قبل أن يكتشف أحد مولده فتنال عقوبة الإعدام، وفي التاسعة من عمره عمل في مدبغة، ثم لدى صانع العطور الشهير بالديني، وتعلم تقطير الزهور إلى أن انتهى به المطاف محاولاً تقطير جسد لورا، وهي ابنة أحد أعيان المدينة الفرنسية التي انتقل للعمل فيها.
وتعكس واحدة من مفارقات الفيلم نجاح هذا الفتى المعتوه أو المنبوذ اجتماعياً على رغم عبقريته في مهمته، ليتحول إلى شخصية شهيرة مؤثرة ينقاد وراءها بسطاء كثيرون في ما يعد تعبيراً عن حال معاصرة نعيشها الآن، وهي تحول أشخاص مجهولين عبر "السوشيال ميديا" إلى شخصيات مؤثرة وقيادية في المجتمع بمحض الصدفة، أو من خلال القيام بأعمال غير ذات قيمة، ومع ذلك تجد أصداء واسعة بين الناس العاديين والبسطاء.