Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإدارة الأهلية في السودان... هل من دور منتظر؟

أدوارها ظلت تتغير مع التحولات التي تشهدها البلاد إلى أن ورثها النظام الاستعماري واستطاع توظيفها لخدمة أغراضه

زعماء الإدارة الأهلية في السودان ظلوا محل تقدير لحكمتهم في حل الصراعات القبلية (أ ف ب)

ملخص

يرى مراقبون أن الإدارة الأهلية في السودان تعيش خواتيم عهدها وأن البساط سينسحب من تحت أقدامها وأن الأجيال الشابة يمكنها استنباط أدوار أخرى لمجموعات منظمات المجتمع المدني والتكوينات الثورية المختلفة من لجان مقاومة وخلافه.

ظهر نظام الإدارة الأهلية في السودان قبل نشوء الدولة الحديثة، وتكون من خلال الممالك والسلطنات القديمة بهدف فض النزاعات وتسويتها وتنظيم سبل التعايش السلمي بين القبائل المختلفة وفق الأعراف الاجتماعية.

يقوم نظام الإدارة على حكم العمد والمشايخ في المجتمع المحلي، وتعد كلمة شيخ القبيلة حكماً نافذاً على جميع الأفراد والأسر في ما يتصل بحفظ الأمن والاستقرار وحلحلة مشكلات المرعى والأرض الزراعية أو مصادر المياه، وهو من يمثلهم لدى السلطات المحلية والمركزية.

تحول كبير

مع طبيعة التحولات التي تشهدها البلاد تغيرت أدوار الإدارات الأهلية من مرحلة إلى أخرى بخاصة في ما يتعلق بمواقفها وأدوارها تجاه قضايا الوطن منذ استقلال السودان وحتى الآن، ويرى البعض أنها وصولية تبحث عن مصالحها لذلك وُظفت لتحقيق أجندة سياسية منذ فترة الحكم الثنائي المصري البريطاني للبلاد بجانب الحكومات المتعاقبة من عسكرية إلى مدنية، بينما ينظر إليها آخرون بأنها نظام أهلي يمثل الضامن الحقيقي لبسط الاستقرار المجتمعي في ولايات السودان كافة، إضافة إلى تطور آلياتها واستيعابها للتطورات ذات الأبعاد السياسية.

الباحث في التاريخ الاجتماعي الجميل الفاضل يقول إن "أدوار الإدارات الأهلية ظلت تتغير مع التحولات التي تشهدها البلاد إلى أن ورثها النظام الاستعماري واستطاع توظيفها في سياق ما يمكن أن يخدم أغراضه، ومثلت هي الأخرى صمام أمان ما بين مفتشي مراكز الإنجليز لعدم رغبة الحكومة الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني، وقدمت الإدارة الأهلية ولاءً كاملاً للمستعمر بجانب كل ما كان يبتغيه دون أن يخسر أي مجهود، في ما يتصل بجمع الجبايات وتمويل جهاز الحكم بجانب فض النزاعات بين الأفراد والمجموعات القبلية، وجنبت الإدارة البريطانية الدخول في احتكاكات مباشرة مع تقاطعات المجتمع والتعامل مع القرى والمدن الريفية، وفي مقابل هذه الخدمات يحتفظ المستعمر لزعماء الإدارة الأهلية بأوضاع وامتيازات خاصة وتمنح لهم الألقاب وتتوفر لهم إمكانات على قلتها لبسط نفوذ سلطتهم".

وأضاف أن "نظام الإدارة الأهلية تأسس على موالاة الحاكم سواء كان وطنياً أم أجنبياً وظل هذا النمط من العلاقات مع الحكومات المتعاقبة وبقي على حاله، حتى إن ناظر البني هلبة عبدالرحمن دبكة هو من تقدم باقتراح إعلان الاستقلال من داخل البرلمان وأعقب ذلك انقسام الولاءات إلى مركزين في مرحلة ما بعد بداية الحكم الوطني، على الحزبين الرئيسين الأمة والاتحادي الذي خرج منه الحزب الوطني وحزب الشعب الديمقراطي الذي مثل الطائفة الختمية، وبهذا الانقسام تقسمت الإدارات الأهلية في الولاء إلى الحزبين الكبيرين وأصبح كل حزب هو عبارة عن تحالف لأسرة دينية مثل أسرة المهدي وأسرة الميرغني".

تعدد وتنوع

يعد السودان بلداً متعدد الثقافات نتيجة المكونات الإثنية والاجتماعية والثقافية التي تتوزع على امتداده الجغرافي.

يبلغ عدد القبائل في البلاد نحو 570، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، ففي الشمال توجد عديد من القبائل مثل الحلفاويين، والمحس، والدناقلة، والبديرية، والشايقية، والمناصير، والرباطاب، والحسانية، والميرفاب، بينما تقطن في الوسط مجموعات الجعليون، والجموعية، والعبدلاب، والمغاربة، والبطاحين، والشكرية، ورفاعة وغيرها، أما الشرق فتسكنه قبائل البشاريون، والهدندوة، والبني عامر، والبجا، والأمرار، والعبابدة وغيرها، وفي الغرب قبائل الكواهلة، والهواوير، والكبابيش، والدواليب، والحمر، والحوازمة، والمسيرية، والرزيقات، والزغاوة، والبرتي، والفور، والمساليت، وغيرها، في حين تقطن الولايات المجاورة في جنوب كردفان ودارفور، وجنوب النيل الأبيض والنيل الأزرق قبائل التعايشة والبقارة والهبانية، والنوبة وغيرها.

سلطات متعددة

يندرج نظام الإدارة الأهلية من المشايخ، فالعمد ثم النظار، وهي تسميات تستخدمها القبائل العربية في غرب السودان، ويتم التنصيب وفق معايير محددة، منها المكانة القبلية والنفوذ بجانب اختيار وجهاء المجتمع، وفي المقابل تستخدم قبائل الفور ألقاب (الشرتاي، والدمنقاوي، والفرشة)، أما قبائل المساليت فتطلق على زعمائها لقب (السلطان)، ويتمتع زعماء القبائل بسلطات قضائية وإدارية ومالية، إضافة إلى الإشراف على المحاكم الأهلية لحل النزاعات ورعاية العلاقات الودية بين مناطق التماس القبلي من خلال محاكم النظار والعمد.

المحلل السياسي عز الدين دفع الله يقول إن "زعماء الإدارة الأهلية ظلوا محل تقدير في المجتمع السوداني لما تميزوا به من حكمة وسداد رأي في حل المشكلات والصراعات القبلية، خصوصاً القيادات التاريخية التي لم يعرف لها انحياز إلى حاكم ضد معارضيه، كما أنهم برعوا في القيام بدور الأجاويد والمصلحين بين الفرقاء والخصوم".

وأضاف أن "بعض الأنظمة نجحت في استخدام الإدارات الأهلية لتنفيذ أجندتها مقابل منحها مناصب وأموالاً، لكن هناك عدد كبير من العمد والنظار رفضوا الإغراءات والتخويف بكل شجاعة على رغم تعرضهم لحملات استهداف بجانب تجريدهم من مناصبهم".

ويتابع "لجأت الحكومة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 إلى الإدارة الأهلية بعد اندلاع النزاعات في غرب البلاد وتحديداً دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان لحل الصراعات والنزاعات القبلية".

علاقات متوارثة

خلال فترة الأنظمة الشمولية تقلص دور الإدارات الأهلية في المجتمعات المحلية بعد أن خضعت للتسييس ووظفت وفقاً للمصالح.

يشير الباحث في التاريخ الاجتماعي الجميل الفاضل إلى أن الإدارة الأهلية تتمتع بصلاحيات إدارية في رقعة جغرافية محددة تسمى (الحواكير) في إقليم دارفور ومناطق أخرى تعرف بـ(الدار)، وإلى جانب الدور الإداري والاقتصادي هناك سلطات قضائية تتوفر للزعماء، وشكلوا في فترة من الفترات حكومات مصغرة على المستوى الأدنى، وأيضاً ظلت هذه الحال حتى عام 1958 بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبود في وراثة هذه العلاقة مع الإدارة الأهلية إلى أن جاء نظام جعفر نميري ذو الطابع الراديكالي اليساري الاشتراكي الذي ينشد إحداث تغيير أعمق في المجتمع ويعتمد على القوة الحديثة والنأي عن التقليدية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضيف الفاضل، "ذهب النظام الجديد إلى حل الإدارة الأهلية في عام 1971، وبدأت فجوة ضخمة كانت تسدها، ولم تستطع أجهزة الحكومة، بعد صدور قانون الحكم المحلي، سد الثغرات الكبيرة في الأداء الحكومي، ليضطر نظام جعفر نميري إلى إعادة عمل الإدارة الأهلية، وعندما عادت الديمقراطية الثالثة بسطت الأحزاب التقليدية نفوذها على المناطق من خلال نظام الإدارة الأهلية نفسه نظراً إلى أدوارها في العمليات الانتخابية وتأثيراتها في مواقف أتباعها من منسوبي القبائل، لذلك كانت تلعب أدواراً سياسية باستمرار وحظيت بكثير من الفرص في تقاسم السلطة، وكان أبناء الزعماء يتم اختيارهم لتولي الوظائف الدستورية لا للكفاءة أو معيار آخر، وإنما لأنهم يحملون رمزية الأسرة التي تمثل قيادة الإدارة الأهلية".

وأوضح الفاضل أن "هذا الشكل ظل مستمراً إلى أن جاء النظام الإسلامي بقيادة البشير الذي اهتم كثيراً بالإدارة الأهلية وانعقد في عام 1993 مؤتمر للنظام الأهلي نظمته وزارة مستحدثة تسمى وزارة التخطيط الاجتماعي كان على رأسها نائبه علي عثمان محمد طه، ووضع المؤتمر أسساً لكيفية العلاقة وتعميقها مع نظام الإسلام السياسي في السودان، واستطاع بخطة دقيقة أن يحكم قبضته على زعماء الإدارات الأهلية، وبالطبع فإن النظام الأهلي في السودان يقوم على نظام وراثي يقدم الولاء للسلطة القائمة مقابل امتيازات وعطايا، من هنا بدأت التأثيرات الكبيرة والعميقة على الفعل السياسي، وأصبحت هي عامل من العوامل التي يمكن أن تستخدم لعرقلة إحداث أي تغيير أو تحول في السودان".

ثورة مضادة

وتابع "عقب ثورة ديسمبر 2018، بدا أن الإدارات الأهلية باتت تتوجس من صعود دور الشباب والأجيال الجديدة وقدرتها على إسقاط الحكومات وانتزاع السلطات والتأثير في المشهد السياسي، وأعتقد أن المصالح الأساسية التي كانت تتمتع بها الإدارة الأهلية أضحت عاملاً من العوامل التي دفعت جميع الزعماء يتحيزون إلى جانب الثورة المضادة لثورة ديسمبر لخوفهم على مصالحهم وامتيازاتهم واستشعارهم الخطر بعد حدوث التغيير والتصنيفات الحادة التي جاءت في قانون تفكيك النظام وإزالة التمكين واسترداد الأموال العامة، لأن غالب رجالات الإدارة الأهلية تورطوا بشكل أو بآخر في عمليات الفساد المنظم التي كان يعتمد عليها النظام البائد في شراء الذمم وتحييد المواقف، لذلك يتخوف كثيرون من أن تطالهم يد المحاسبة".

مستقبل مجهول

وعن مستقبل نظام الإدارة الأهلية، يقول الجميل الفاضل إنه "في ظل حالة التغيير الكبير الذي يحدث في السودان ويتوقع له أن يصبح جذرياً وحاسماً بعد أن تضع الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع أوزارها، أتوقع أن يعاد النظر في هذا النظام بشكل كامل، كما أن انتشار التعليم وتزايد أعداد الخريجين من الجامعات وانتشار الوعي بفضل ثورة الاتصالات الرقمية وما يعرف بالانفجار المعرفي الواسع وتلاشي المسافات في الجغرافيا بين سكان الكوكب، كل هذا جعل هناك تطلعات وأحلاماً كبيرة لإحداث تغيير كبير يتعارض مع مصالح الإدارة الأهلية".

ويرى الباحث في التاريخ الاجتماعي أن "الإدارة الأهلية تعيش خواتيم عهدها في البلاد، وأن البساط سينسحب من تحت أقدامها وأن الأجيال الشابة يمكنها استنباط أدوار أخرى لمجموعات منظمات المجتمع المدني والتكوينات الثورية المختلفة من لجان مقاومة وخلافه، وبدأ هذا القلق والانزعاج منذ أن تكونت لجان الخدمات والتغيير في الأحياء، وأعتقد أن التوجهات الثورية والأدوار التي لعبتها اللجان القاعدية في المدن لها تأثير كبير في سحب البساط من الإدارة الأهلية، ولذلك هي تصطف حالياً لإعادة النظام القديم وترى ضرورة إجهاض هذه الثورة حتى لا تهدد عروش زعمائها".

المزيد من تقارير