قال هنري كيسنجر مرة إن "الخطر محتمل عندما تكون عدواً لأميركا، لكن أن تكون صديقاً لأميركا فذلك مميت". تقفز المقولة الساخرة التي أطلقها الدبلوماسي المخضرم إلى الذهن عندما تتأمل الورطة الأوكرانية الأخيرة بعدما انتهت الحال بأكثر من مئة وثيقة أميركية سرية تحتوي على خطط الجيش الأوكراني متداولة على مرأى الملايين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، في ما وصف بـ"أكبر اختراق استخباراتي روسي" معلن منذ بدء الحرب.
المخاوف الأوكرانية
الاختراق الروسي الأخير جاء ليعيد توازن الكفة في حرب المعلومات التي بدت كييف متفوقة فيها، بعدما لعبت المعلومات التي تقدمها واشنطن لكييف دوراً في إرباك خطط موسكو وإطالة أمد العملية العسكرية التي أرادتها الأخيرة خاطفة. في المقابل وبفضل الدعم الاستخباراتي الأميركي، استطاع الجيش الأوكراني تحقيق مكاسب عسكرية واسعة واغتيال جنرالات روس واستهداف مخازن الذخيرة التي اضطرت موسكو إلى إبعادها عن الجبهة.
إلا أن رفاق فولوديمير زيلنيسكي أدركوا أن المساعدة الأميركية تجيء بتبعاتها أيضاً، فبدأوا منذ الخريف الماضي تخفيف وتيرة التبادل الاستخباراتي مع واشنطن، خوفاً من شبح التسريبات الذي سرعان ما أطل الأسبوع الماضي في وقت سيئ لكييف التي تعتزم في غضون شهر أو أكثر شن هجوم مضاد لاستعادة بعض الأراضي التي احتلتها روسيا.
ولم يكن ذلك الإجراء الاحتياطي كافياً لحماية أسرار كييف الموجودة في وثائق "البنتاغون" التي أدى تسريبها الأسبوع الماضي إلى الكشف عن معلومات أوكرانية حساسة ودقيقة حول عدد قوات الجيش وعتادها والألوية الجديدة التي يتم تجهيزها، إضافة إلى نقاط ضعف "الناتو" في أوكرانيا. وربما كان من حسن حظ الأوكرانيين أن الوثائق الأميركية المسربة يعود تاريخها لأكثر من خمسة أسابيع ولم تتضمن تفاصيل حول عملية عسكرية مقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التجسس على الحلفاء
في وقت سابق صرح مسؤولون أميركيون بأنهم يملكون فهماً أفضل للخطط العسكرية الروسية أكثر من فهمهم للخطط الأوكرانية، في إشارة صريحة إلى نهج السرية الذي تتبعه كييف حتى مع أقرب حلفائها العسكريين، لكن ما أظهرته التسريبات الأخيرة بحسب "نيويورك تايمز" هو أن واشنطن لا تتجسس فقط على خصومها، بل على حلفائها أيضاً.
وقالت الصحيفة إن التقارير الاستخبارية تكشف عن تجسس الولايات المتحدة على القادة العسكريين والسياسيين الأوكرانيين وعلى دول حليفة أخرى منها إسرائيل وكوريا الجنوبية، لافتة إلى أن الوثائق المسربة أدت إلى تعقيد علاقات واشنطن مع حلفائها وأثارت الشكوك حول قدرة أميركا على الحفاظ على أسرارها.
وتاريخ تجسس واشنطن على حلفائها ليس وليد اللحظة، إذ عانى الأوروبيون لأعوام عمليات التجسس الأميركية التي طاولت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل وثلاث رؤساء فرنسيين من 2006 إلى 2012. ودفعت حوادث التجسس التي كشف عنها إدوارد سنودن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى تقديم تعهد لنظيره الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند بـ"إنهاء ممارسات الماضي غير المقبولة بين الحلفاء" في مجال التجسس.
من جانبه قال نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق مايك مالروي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "البنتاغون" يعتمد عدداً من البروتوكولات التي تحد من الوصول إلى المعلومات السرية وكذلك تحجيم تأثيرها في حال حدوث اختراق، مشيراً إلى اعتقاده بأن "واشنطن سوف تعيد النظر في كيفية تعاملها مع المواد السرية في المستقبل بسبب هذا الخرق".
وعن تجسس واشنطن على حلفائها، قال "أعتقد بأن معظم الدول، بما فيها الولايات المتحدة، تدرك أن حلفاءها وشركاءها يقومون ببعض أنواع جمع المعلومات الاستخبارية عنها، وهم كالولايات المتحدة يتخذون خطوات تسمى ’التجسس المضاد‘ لحماية أنفسهم ضد كل المحاولات سواء كانت من صديق أو عدو". وأضاف، "الكشف عن هذه الأنشطة علناً محرج وربما يتسبب في مشكلات للعلاقة على المدى القصير، لكنني أعتقد بأن المصالح المشتركة بين البلدين ستظل قوية على المدى الطويل".
وشارك مالروي الذي عمل في الاستخبارات الأميركية ملاحظاته بعد إطلاعه على بعض الوثائق، قائلاً إنه لا يعتقد بوجود حاجة إلى "تغيير جوهري في خطة العمليات الأوكرانية" وتوقع وجود "مراجعة كاملة جارية لتحديد ما إذا كانت هناك حاجة لإجراء أية تغييرات بناء على المستندات التي يعتقدون بأنها تعرضت للاختراق، سواء نشرت علناً أو لا".
وذكر بأن "النطاق الكامل لهذه التسريبات قد لا يكون معلوماً تماماً حتى الآن"، إلا أنه أقر بأن ما حدث "خرق أمني كبير جداً وذو عواقب وخيمة" منها أن الحلفاء والشركاء قد يفقدون الثقة بقدرة واشنطن على حماية الوثائق السرية، مطالباً الحكومة بإعادة النظر في آلية تخزين المعلومات السرية ومن لديه وصول إليها ووضع آلية لتجنب انكشافها.
وأشار المسؤول الدفاعي السابق إلى وجود أجهزة مؤمنة يمكن استخدامها لتخزين التقارير الاستخبارية ومحوها تلقائياً بمجرد مغادرة المنطقة المؤمنة، ويمكن كذلك مراقبة هذا النوع من الأجهزة، لافتاً إلى أن الرقابة بهذا الشكل غير ممكنة في ظل وجود "النسخ الورقية المطبوعة".
أهمية معركة باخموت
وكشفت الوثائق المسربة عن الوضع الصعب الذي عاشه الجيش الأوكراني خلال أواخر فبراير (شباط) الماضي، عندما كان على وشك خسارة معركة باخموت، بعدما تعرض طريق الإمداد الوحيد والهش للجنود الأوكرانيين الذين يقاتلون في شوارع المدينة الشرقية للنيران، وهو الطريق الذي وصفه أحد الجنرالات بأنه "أنبوب التنفس الأخير".
وتشهد باخموت معارك متواصلة منذ أكثر من ثمانية أشهر، على رغم تقليل محللين من الأهمية الإستراتيجية للمدينة، ويرى هؤلاء المحللون بحسب "نيويورك تايمز" أن أوكرانيا ترغب في مواصلة المعركة لإرهاق القوات الروسية ولأن المدينة اكتسبت أهمية رمزية كبيرة بسبب طول مدة المعارك فيها. في غضون ذلك، يخشى مراقبون غربيون أن أوكرانيا فقدت بعضاً من أفضل ضباطها في الدفاع عن باخموت على رغم أهميتها الإستراتيجية المتضائلة، في حين ضحت روسيا بما يتراوح بين 20 و30 ألف رجل، كان كثر منهم إن لم يكن معظمهم من المدانين المفرج عنهم ممن انضموا إلى مجموعة "فاغنر".
وذكرت تقارير حديثة أن القوات الروسية وقوات "فاغنر" سيطرتا على أكثر من 85 في المئة من مدينة باخموت، فيما تسيطر القوات الأوكرانية على 10 في المئة فقط من المدينة الواقعة في مقاطعة دونتيسك، في حين تمثل النسبة المتبقية من المدينة، أي خمسة في المئة منطقة رمادية أو منطقة اشتباكات. ووفق آخر التقارير، فإن قوات "فاغنر" باتت تسيطر الآن على كل المباني الإدارية في باخموت، إضافة إلى المناطق الصناعية فيها، تحديداً مصانع "أزوم" لمعالجة المعادن.
علاقة تركيا بـ"فاغنر"
وتضمنت وثائق البنتاغون المسربة تقييماً سلبياً للجيش الروسي، إذ أشارت إلى نقص في المعدات والجنود، لكنها نوهت أيضاً بقدرات مجموعة "فاغنر" التي حققت مكاسب لافتة مقارنة بالقوات الروسية الرسمية، مشيرة إلى نشاط المجموعة العابر للقارات، إذ تعمل "فاغنر" بحسب الوثائق على عرقلة المصالح الأميركية في أفريقيا والتمدد نحو هاييتي، مباشرة تحت أنظار الولايات المتحدة، مع عرض لمساعدة حكومة ذلك البلد المحاصرة في مواجهة العصابات العنيفة.
وأشارت إحدى الوثائق المسربة إلى أن مبعوثين من "فاغنر" التقوا سراً بـ"جهات اتصال تركية" في فبراير الماضي، وتسللوا إلى أراضي "الناتو" بحثاً عن أسلحة ومعدات للقتال في أوكرانيا. وليس من الواضح ما إذا كانت الأسلحة نقلت بالفعل وكانت السلطات التركية على علم بذلك، في حين لم يعلق مسؤولون من الحكومة التركية على الأمر.
وأفادت الوثيقة بأن اجتماعاً احتضنته تركيا تطرق إلى إمكانية أن تكون دولة مالي التي تنشط فيها "فاغنر" بمثابة وكيل للحصول على الأسلحة من تركيا نيابة عن المجموعة الروسية". ويظهر اختيار مالي لعملية تهريب الأسلحة تزايد تأثير "فاغنر" في البلد الأفريقي منذ دخولها للمرة الأولى قبل بضعة أعوام لتنفيذ مهمات مختلفة منها تأمين وحماية المجلس العسكري الذي تولى السلطة عام 2021. وكشفت الوثيقة، نقلاً عن أحد موظفي المجموعة الروسية، عن أن هناك أكثر من 1645 عنصراً منها في مالي، مما أثار مخاوف أمنية لدى جارتها ساحل العاج.
"الموساد" والاحتجاجات
وتضمنت الوثائق المسربة تأكيداً على أن قيادة جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) شجعت موظفيها والمواطنين الإسرائيليين على المشاركة في الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي عصفت بالبلاد في مارس (آذار) الماضي، وهو ما نفاه كبار مسؤولي الدفاع في إسرائيل.
وواجهت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي عاد إلى السلطة في ديسمبر (كانون الأول) كرئيس للائتلاف الحكومي "الأكثر يمينية" في تاريخ البلاد، تظاهرات وإضرابات مناهضة لخطة الإصلاح القضائي الذي يغير الطريقة المتبعة في إسرائيل لاختيار القضاة ويمنح الحكومة سلطة أكبر في اختيار القضاة، مقابل الحد من سلطات المحكمة العليا.
وجاء في تقييم منسوب إلى الـ "سي آي أي" ويعود تاريخه إلى الأول من مارس الماضي، "دعا قادة الموساد مسؤولي الموساد والمواطنين الإسرائيليين إلى الاحتجاج على الإصلاحات القضائية المقترحة من قبل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وشمل ذلك دعوات صريحة إلى تحرك مندد بالحكومة الإسرائيلية".
وبحسب الوثائق، حصلت الاستخبارات الأميركية على تلك المعلومات من خلال "استخبارات الإشارات" التي يقصد بها عملية جمع المعلومات من خلال اعتراض الاتصالات والرسائل الإلكترونية.