أخيراً وبعد سلسلة طويلة من الشد والجذب، توصلت الأطراف السودانية إلى اتفاق سياسي بموجب الوثيقة التي تم توقيعها بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري في السودان، يتم بموجبها تقاسم السلطة في البلاد، لكن هل يستفيد اقتصاد السودان الذي يعاني العديد من الأزمات من هذه التسوية السياسية.
الأزمات لا تتوقف فقط عند الأرقام الاقتصادية التي تتعلق باحتياطي النقد أو عجز الميزان التجاري أو العجز في الموازنة العامة أو مشكلة الجنيه السوداني الذي نزف كثيراً مقابل الدولار، لكن الأمور امتدت إلى الأسعار التي اشتعلت والتي أنهكت جميع الأسر السودانية، إضافة إلى شح السيولة، وأزمة شح الوقود وأزمة الخبز، وجميعها أصبحت بحاجة إلى جراحات عاجلة.
السلطات الحاكمة في السودان، وقبل أيام، تطرقت إلى مشاكل عميقة يعاني منها اقتصاد السودان، منها صعوبة أو "تعذر الوصول إلى سوق القروض الأجنبية واستفادة السوق المحلية من القروض الحكومية، مما لا يسمح بتغطية عجز الموازنة بالمبالغ المطلوبة بطرق غير تضخمية، بجانب المديونية الكبيرة للدولة مع استمرار وجودها في قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي لا يترك مجالا سوى للاعتماد على الموارد المحلية والمساعدة المحدودة من الدول الشريكة".
وأرجعت السلطات أزمة السيولة في النظام المصرفي السوداني إلى أن طبع العملة كان يتم من غير مقابل باحتياطي العملة المحلية، مما شكّل أهم العوامل في نمو التضخم ووصول معدل التضخم إلى 72.9% خلال العام الماضي، مسجلاً بذلك واحداً من أعلى معدلات التضخم في العالم.
نقص العملات تظل المشكلة الأكبر أمام الحكومة الجديدة
دراسة حديثة أعدها مركز الإمارات للدراسات والأبحاث المتقدمة تحت عنوان "آفاق الاقتصاد السوداني بعد توقيع اتفاق تقاسم السلطة"، توقعت أن تعمل التسوية السياسية في السودان على تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد، التي تدهورت في الأشهر الماضية، وبدا ذلك جلياً في نقص السلع الأساسية من الوقود والقمح، بجانب تفاقم مشكلة نقص السيولة لدى البنوك.
وعلى الرغم من التبعات الإيجابية المحتملة للاتفاق على الاقتصاد، إلا أن ذلك لا يقلّص من أهمية القيام بخطوات عديدة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، يأتي في مقدمها تشكيل حكومة مستقرة قادرة على وضع برنامج اقتصادي يعالج الاختلالات النقدية والمالية، ويساعد على توفير السلع الحيوية، ويدعم نمو القطاعات الإنتاجية الأساسية مثل الزراعة والتعدين.
وخلال الفترة الماضية، واجهت السودان أزمات اقتصادية عنيفة ناتجة بشكل رئيس عن نقص العملات الأجنبية بسبب تراجع عائدات النفط بعد فقدان الخرطوم أكثر من ثلاثة أرباع حقولها من النفط منذ انفصال جنوب السودان في عام 2011.
وعلى ضوء ذلك، لم تجد الحكومات المتعاقبة الموارد الكافية لاستيراد احتياجاتها من الوقود والقمح، فيما تفاقمت مشكلة نقص السيولة في البنوك، والتي نجمت عن الطلب الواسع على "البنكنوت" مع ارتفاع معدلات التضخم لأكثر من 50% في الأشهر الماضية.
ومع تفاقم الاضطرابات السياسية عقب عزل الرئيس السابق عمر البشير، زادت حدة المشكلات الاقتصادية بشكل لافت، حيث تعطلت بعض المنشآت الإنتاجية عن العمل، على نحو تسبب في شح بعض السلع في الأسواق، التي شهدت حالة من الركود بحسب المتعاملين والتجار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالتوازي مع ذلك، تعرض سعر صرف الجنيه لضغوط قوية وانخفض إلى أكثر من 70 جنيهاً مقابل الدولار الواحد منذ بداية العام الحالي، قبل أن يتحسن لاحقاً. ومن المرجح على ضوء التطورات الأخيرة أن تتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي، بعد أن تزايدت المخاطر السياسية والاقتصادية بشكل غير مسبوق.
وتشير توقعات المؤسسات الدولية إلى أن الاقتصاد السوداني مرشح للتراجع بنهاية العام الحالي، حيث قال صندوق النقد الدولي إن الاقتصاد انكمش بالفعل بنسبة 2.1% عام 2018، ومرشح أن يتفاقم إلى 2.3% بنهاية عام 2019، كما من المتوقع أن يسجل معدل التضخم نحو 49.6% بنهاية العام الحالي وبانخفاض نسبي من 72.9% خلال العام الماضي.
برنامج اقتصادي عاجل يراعي هذه الأولويات
التسوية السياسية التي تم الإعلان عنها في السودان، أسهمت بشكل سريع في تحسن سعر صرف الجنيه السوداني نسبياً، حيث وصل سعر شراء الدولار في السوق السوداء إلى نحو 61 جنيهاً مقارنة بنحو 65 جنيهاً في الفترة السابقة، وذلك في إشارة واضحة للتبعات الإيجابية للاستقرار السياسي على مؤشرات الاقتصاد. كما قد تتلقى السودان دعماً أكبر مع الاتجاه لإقرار الدستور في الفترة المقبلة.
ومن المتوقع أن يساعد هذا التقدم السياسي في تيسير حصول السودان على الدعم المالي الإقليمي والدولي اللازم لتقليص حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها. ويرجح أيضاً أن يدعم الاتفاق وإقرار الدستور الجهود الحالية التي تبذلها السودان لجدولة بعض ديونها، والتي بلغت قرابة 55 مليار دولار، وهو ما قد يخفف الأعباء المالية عليها لصالح توفير الاحتياجات الأساسية من السلع.
الدراسة طالبت الحكومة الجديدة في السودان بضرورة تبني برنامج اقتصادي عاجل يضع على قائمة أولوياته ثلاثة محاور، الأول يتمثل في معالجة الاختلالات النقدية والمالية التي تفاقمت في البلاد أخيرا، حيث من الضروري اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستقرار سوق الصرف والحد من السوق السوداء والحيلولة دون تفاقم معدلات التضخم، بالتوازي مع تعبئة الموارد المالية من الضرائب وغيرها لزيادة إيرادات الحكومة وتقليص العجز.
ويتعلق المحور الثاني بضرورة العمل على توفير الاحتياجات الأساسية من الوقود والقمح وغيرها، والذي يعد أحد العوامل الضرورية، في الفترة المقبلة، لتحقيق الاستقرار السياسي والحيلولة دون تفاقم الاحتجاجات الشعبية مجدداً. ومن شأن المساعدات الدولية والإقليمية أن تسهم في الحد من مشكلة نقص هذه السلع في الأسواق خلال الفترة المقبلة.
أما المحور الثالث فيتعلق بتطوير القطاعات الإنتاجية الأساسية من الزراعة والتعدين. ولدى السودان إمكانيات كبيرة في قطاع الزراعة مع توفر المياه والتربة والمناخ المناسب لزراعة العديد من المحاصيل. كما لديها موارد كبيرة من المعادن وخاصة الذهب وباحتياطيات قدرها 523 ألف طن. ويمكن للخرطوم الاستفادة من تطوير البيئة التنظيمية والتشريعية لهذين القطاعين في جذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة إنتاجها ودعم صادراتها، وبما قد يعوض، نسبياً، تراجع عائدات قطاع النفط.
نظام جديد لتحويل الأموال تحت رقابة البنك المركزي
وخلال اجتماع قبل يومين، اقترحت اللجنة الاقتصادية بالمجلس العسكري في السودان، إنشاء نظام لتحويل الأموال بدون رسوم وبسعر السوق الحر، وتحت رقابة بنك السودان المركزي، مؤكدة أن هذا المقترح يأتي بين "أهم الخطوات لمعالجة الأزمة الاقتصادية".
ووضعت اللجنة مجموعة مقترحات للموازنة والضرائب، والنظام المصرفي، والإدارة، إضافة إلى تطوير القطاع الحقيقي للاقتصاد. وأكدت المقترحات عقب تحليلها للأوضاع على مدى السنوات القليلة أن السلطات السابقة قامت بإخفاء الحجم الحقيقي للمشاكل الاقتصادية، وبدلا عن اتخاذ قرارات منظمة تتطلب الكثير من الجهد، استخدمت السلطات في معظم الأحيان أسهل طريقة.
وكشفت اللجنة في مناقشاتها أن السلطات السابقة ومسؤوليها "طبعوا أموالا ليس لها مقابل من الاحتياطي بالبنك المركزي مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الإنفاق الحكومي"، مشيرة إلى أن "التجربة الدولية تبين أن هذا النهج قد أدى بالفعل إلى انهيار اقتصاد البلدان الأفريقية".
وأشارت مقترحات اللجنة إلى أثر "العقوبات الاقتصادية ضد السودان والتراجع في عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان، والتي لها تأثير سلبي على مستوى التنمية الاقتصادية".
وأشارت إلى "الكفاءة المنخفضة على مستوى إدارة الدولة وعجز الموازنة العامة للدولة على المدى الطويل والتي تم تغطيتها بطباعة العملة، إضافة إلى الإنفاق المبالغ فيه في بعض المصروفات الحكومية وانخفاض الإيرادات الحكومية وعدم كفايتها، بجانب انتشار ممارسة التهرب الضريبي من قبل دافعي الضرائب".
ورأت اللجنة أن عدم تغطية العجز التجاري بأي من بنود حساب العمليات الجارية يُعد السبب الرئيس لشح العملة الأجنبية في السودان، مبينة أن من أسباب الوضع الراهن أن مستوى التنمية في قطاع الصناعات التحويلية غير كافٍ وانخفاض القيمة المضافة لسلع الصادر مع ارتفاع مستوى التهريب بما في ذلك تهريب الذهب.