Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموت هاجس السينمائيين الشباب في زمن ما بعد كورونا

أفلام قصيرة تعالج الحدث وآثاره في اللاوعي الجمعي بحرية

أرمل يعيش عزلته في فيلم "التوصيل" (ملف الفيلم)

ملخص

بسط #الموت ظلاله على عدد من #الأفلام_القصيرة التي عرضت في الدورة الأخيرة من مهرجان "#كليرمون_فيران" السينمائي

بسط الموت ظلاله على عدد من الأفلام القصيرة التي عرضت في الدورة الأخيرة من مهرجان "كليرمون فيران" السينمائي. الموت كحقيقة ثابتة لا مهرب منها أضحى الخط الرئيس في هذه الأعمال التي حملت تواقيع سينمائيين شباب لا يزالون في مقتبل تجربتهم الفنية على امتداد الأيام التسعة التي استغرقتها أكبر تظاهرة للفيلم القصير في العالم، سعينا إلى معرفة الأسباب خلف هذا الاهتمام بالموت الذي بدا كظاهرة تضرب جذورها في أعماق الفنانين، لا مجرد فكرة عابرة.

أهم الأسئلة التي تكررت ونحن نشاهد هذه الأفلام المسكونة برحيل الأعزاء وخسارة الأحباء، هل هذه الأفلام انعكاس للمآسي والهواجس التي عاشها العالم خلال تفشي الوباء؟ هل الشعور بالفقد خلال الوباء جعلنا ندرك معنى الموت؟ هذا مع العلم ان الشاشة لم تستطع حتى الآن الحديث عن الوباء وتداعياته النفسية والاجتماعية، وربما لا يزال الوقت مبكراً للسينما كي تستوعب ما حدث بين عامي 2020 و2022. إلا أن الأفلام القصيرة التي تنطوي على كثير من الحرية والاستقلالية تنكب بسرعة على الحدث وآثاره في اللاوعي الجمعي.  

إحدى اللحظات الحزينة التي صمدت في ذاكرة المخرج الإسباني بدرو دياز الذي قدم "التوصيل" في المهرجان، هي تلك التي كان شاهداً عليها خلال الجائحة، يوم قرر النزول إلى الشارع في مدريد لشراء الخبز. يروي أنه رأى رجلاً في عمر متقدم يقف على شرفة منزله ويراقب كيفية صعود زوجته المصابة بكورونا في سيارة الإسعاف لنقلها إلى المستشفى. يشدد انه لا يزال يتذكر تفاصيل وجهه. وعلى رغم انه كان يبدو قوياً، فلمحه يبكي بصورة مفاجئة. صحيح أن فكرة الفيلم خطرت له قبل سنوات، إلا أنه لا ينكر أن صورة كهذه قد تكون تسللت إلى عقله الباطني في مرحلة الكتابة.

خسارة أليمة

 

يدور "التوصيل" حول رجل ثمانيني يدعى أرماندو يلازم منزله ولا يخرج منه البتة. أرماندو لم يتصالح مع فكرة خسارة زوجته في حادثة أليمة وقعت قبل سنوات وتوفيت على أثرها، ويبدو أنه يعاقب نفسه من خلال السجن المنزلي. فلا شيء مما يحدث في الخارج يثير اهتمامه. صلته الوحيدة بالعالم شاب يتولى توصيل الأغراض والمشتريات التي يطلبها من المتجر. لكن إلى أي درجة يستطيع الكائن الذي يعيش في عصرنا هذا صرف النظر عن كل ما يحيط به؟ فالمعلومات ووسائل التواصل الحديثة ستتسلل إلى بيته من خلال الكمبيوتر الذي سيرسله إليه ابنه، فيبدأ بالنقر على المفاتيح للإبحار الافتراضي على صفحات من تاريخه الشخصي، وبدلاً من تضميد جراحه سينكأها أكثر. الفيلم عن التروما والعزلة الطوعية التي يفرضها الإنسان الحزين على نفسه، لكنه أيضاً عن مكانة الإنترنت في عالمنا الحالي، فهذا الوسيط سيغير حياة رجل كان اعتقد أن كل شيء انتهى بالنسبة إليه. 

 

"فارس الحظ" للدانماركي لاس نوير يقدم من جهته مقاربة أشد قسوة للموت. الحداد على جثمان شخص نحبه وعشنا معه سنوات طويلة تحت سقف واحد هو محور هذا العمل الذي يعرفنا على رجل سبعيني يدعى كارل، لا يقوى على مواجهة الحقيقة الكبرى عندما يدخل غرفة الموتى في المستشفى، ليلقي نظرة أخيرة على جثمان زوجته المتوفاة. على رغم نضجه وتجربته الحياتية المديدة، يصعب عليه تقبل فكرة الموت، مؤجلاً لحظة الاعتراف بالواقع من خلال اللقاء بالجثمان. أثناء وجوده في المشرحة للتعرف على الجثة، تحدث مفارقات عدة، بعضها كوميدي الطابع، من النوع الذي يخدر العاطفة: تحضر عائلة لوداع فرد من أفرادها وغيرها من الأحداث، إلا أن أكثر ما يغير مجرى الأحداث هو اللقاء بينه وبين رجل يدعى توبرن، شخص غامض يجوب المشرحة ليلاً نهاراً، لا يفارقها البتة. فالرجل بات يعيش بين الأموات بعدما تعذر عليه إيجاد جثمان زوجته التي توفيت قبل فترة، وكلنا يعلم أهمية العثور على الجثة لإتمام عملية الحداد. عندما التقيتُ المخرج، أخبرته عن آلاف المفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مأساة منعت أهالي المفقودين من معرفة مصير أحبائهم والحداد عليهم. 

آلية دفاع

"فارس الحظ" يتطرق إلى مواضيع كالفقد والألم والحداد من وجهة نظر مخرج ثلاثيني لا خبرة كبيرة له في هذا المجال ولم يتوان عن إقحام بعض الطرافة في النص كآلية دفاع. "عندما يحزن الناس، يصبح حزنهم أقرب إلى الضحك”، يقول نوير الذي يعتبر أن طريقة تعبير الرجال عن حزنهم تختلف عن طريقة النساء عنه. الرجال ينطوون على أنفسهم خلافاً للنساء. يشرح نوير أنه عندما ينظر كارل إلى جثة زوجته يتفاقم لديه إحساس الوحدة. ومصدر الوحدة هذا قد يكون ما اختبرناه في مرحلة الوباء التي عشناها بمفردنا في بيوتنا. لا يستبعد نوير وجود رابط بين الفيلم والجائحة، كاشفاً أنه لطالما شعر بالخوف من الوحدة، وهو الشعور الذي يطغى على الإنسان عندما يخسر كائناً عزيزاً، فيطفو على السطح الخوف المتجذر لديه. خلال مرحلة الكتابة، خسر نوير أشخاصاً أعزاء على قلبه، فكان عليه قضاء بعض الوقت في المشرحة التي يصفها باعتبارها "مكاناً بارداً بجدران بيضاء”.

 

في "هل يأتي أهلي لرؤيتي؟"، الفيلم الصومالي الذي فاز بـ"الجائزة الكبرى" في كليرمون فيران هذا العام، نرى الموت بشكله الخالي من أي رحمة، فهو صناعة بشرية، كونه يتعلق بإعدام شاب متهم بالإرهاب، لكن لن نعرف إذا ما ارتكبه عمل إرهابي أم أنه مجرد اتهام، كما لا نعلم في الدقائق الأولى كيف سيحدث هذا الإعدام وهل سنراه كاملاً. الفيلم أنجزه محمد بشير هراوي (30 سنة)، المخرج الصومالي الذي هاجر إلى فيينا هرباً من ظروف بلاده.

يطرح الفيلم موضوعه بهدوء تام وبطء شديد. لكنه هدوء يخفي كثيراً من العنف وبطء يحملنا إلى أقصى الأشياء لتبقى في الذاكرة أطول فترة ممكنة. نتابع شرطية مكلفة مرافقة شاب متهم بالإرهاب. لا يبدو على ملامح وجهه السلبي دائماً أي اهتمام بما سيحل به. سترافقه الشرطية من مكان إلى آخر لإتمام الإجراءات القانونية قبل أن يعدم رمياً بالرصاص. في فترة أولى تتعقبه الكاميرا، ملتقطةً التطورات من وجهة نظره، قبل أن تنتقل إلى طرح وجهة نظر الشرطية، في محاولة لخلق وحدة حال بين الطرفين، السجين والسجان. ندرك تدريجاً أن كلاهما أسيرا الموت. فتطبيق الحكم بالإعدام ينهي حياة الشاب، ولكنه يترك أيضاً آثاراً سلبية في نفس الشرطية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أخيراً، تتطرق المخرجة السلوفاكية الشابة أليتسا بدناريكوفا، في "خبزنا اليومي" إلى موت عمتها، وذلك بأسلوب ينطوي على شيء من الخفة والسخرية. هذا النص السينمائي الذي كان أحد أجمل اكتشافات كليرمون 2023 عرض سابقاً في مهرجان كان. استوحت بدناريكوفا من سيرتها لتكتب قصة حلوة مرة في آن معاً، إذ إن الذكريات الأليمة لموت عمتها الباكر تعايشت مع تفاصيل من حياة أفراد عائلتها التي تلفها الطرافة. القرية السلوفاكية حيث تدور فصول الفيلم، اسمها كيسا، لكن لا وجود لها على الخريطة كونها متخيلة.

تروي المخرجة النحو الذي التقى فيه جدها وجدتها وأسسا عائلة، لكن فجيعة موت ابنتهما أغرقت العائلة في الحزن وجعلت أفرادها يدمنون الكحول، معتقدين بأنه يساعد على النسيان، لكن لم ينتج هذا "النسيان" إلا مزيداً من المشكلات، أولها انقطاع التواصل بين أفراد العائلة. تعتبر بدناريكوفا أن فيلمها جعلها تفهم الضيم وتتقبله. أما الأسلوب الذي يترجح بين المأساة والكوميديا، فهذا ينبع من فلسفتها الخاصة ورؤيتها للأشياء التي تختزلها في الجملة الآتية "بعض الكلام الهزلي وسط الحديث عن الموت لن يجعل الشخص ينسى أنه يحكي في موضوع جدي".

اقرأ المزيد

المزيد من سينما