ملخص
إن نجاح #الاتفاق_الإطاري وأيلولة الأمر إلى تكوين حكومة مدنية كاملة الصلاحيات في #السودان سيكون بمثابة ضربة موجعة لعناصر #نظام_البشير
شهد الوسط السياسي والإعلامي في السودان على مدى أكثر من أسبوعين تصريحات وآراء شغلت الفضاء العام، على خلفية ما بدا خلافاً بين قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" حول ضرورة دمج قوات الدعم السريع في الجيش– كما صرح البرهان بذلك أكثر من مرة– على رغم أن تلك القضية متفق عليها وهي أحد بنود "الاتفاق الإطاري" الذي تم التوصل إليه بين الأطراف المعنية بالأزمة السودانية، ومنها الجيش و"الدعم السريع" في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
والحال أن ما يبدو خلافاً عسكرياً قد لا يكون جوهره كذلك، فالأرجح أنه خلاف سياسي بين الرجلين على خلفية الموقف الحقيقي من "الاتفاق الإطاري" لكل منهما. ففيما ترددت تصريحات بعض قادة الجيش (بمن فيهم البرهان) حول "الاتفاق الإطاري"، بين القبول به تارة، والدعوة إلى استكماله بتوقيع أطراف سياسية أخرى- كتحالف "الكتلة الديمقراطية"– كشرط لتسليم السلطة إلى المدنيين تارة أخرى، ظلت تصريحات حميدتي صريحة وثابتة في القبول بالاتفاق الموقع عليه.
وبعد ما أثاره البعض من قرب وقوع صدام بين الجيش وقوات الدعم السريع، مثل تصريحات رئيس "حزب الأمة السوداني" مبارك الفاضل (وهو حزب صغير منشق عن حزب الأمة الأصلي) وقائد حركة "جيش تحرير السودان"، القيادي في تحالف "الكتلة الديمقراطية" مني أركو مناوي، حيث توقعا حدوث حرب أهلية على خلفية الخلاف بين الطرفين، جاء بيان الجيش على لسان الناطق الرسمي باسمه ليؤكد الالتزام بما نص عليه "الاتفاق الإطاري"، الأمر الذي يدل بوضوح على أن هناك أجندة سياسية وحملة دعائية للاستثمار في توجيه الخلاف بين الجيش والدعم السريع نحو "شيطنة" الفريق محمد حمدان دقلو على موقفه الذي صرح به أكثر من مرة بوضوح شديد أنه ملتزم التزاماً لا رجعة فيه بالاتفاق الإطاري، إلى جانب اعترافه بأن "انقلاب 25 أكتوبر" (تشرين الأول) 2021 كان خطأً وتقديمه اعتذاراً صريحاً للشعب السوداني، بينما صرح قائد الجيش أكثر من مرة، بأن ما سماه "إجراءات 25 أكتوبر" لم تكن خطأ.
بداية لا بد من القول، إن التحليل النظري لموقف كل من الجيش والدعم السريع لا يشير إلى أن هناك اتجاهاً للصدام بينهما، فالرجلان يدركان تماماً ما تعنيه الحرب، لا سيما في ظل الأوضاع الراهنة للسودان، الذي فيه أكثر من ثمانية جيوش، كما أن كلاً من قائد الجيش وقائد الدعم السريع يدركان تماماً طبيعة العلاقة التي تربطهما بالمجتمع الدولي، ويعرفان أن حاجة القوات النظامية إلى سوية العلاقة مع المجتمع الدولي ترتبط بكثير من القرارات السلبية أو الإيجابية حيال موقفهما من "الاتفاق الإطاري"، لذلك وضع بيان الجيش النقاط على الحروف حيال موقفه من "الاتفاق الإطاري". وجاء بيان الجيش هذه المرة، من الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، ومن خلال التلفزة والإذاعة السودانية، وليس كتصريح شخصي للبرهان ضمن حوار في صحيفة أو لقاء في قناة فضائية، مما يعني أن الجيش أراد أن يبين بوضوح موقفه عبر طريقة إذاعة ذلك البيان، كما أن نتائج اجتماع البرهان وحميدتي الأخير التي أفضت إلى تكوين لجنة أمنية مشتركة من القوات النظامية وأجهزة الدولة ذات الصلة وحركات الكفاح المسلح لمتابعة الأوضاع الأمنية بالبلاد، جاءت لتصب في الاتجاه الذي طمأن السودانيين إثر الدعاية التي نشطت وتم الترويج لها– خصوصاً عبر وسائط التواصل الاجتماعي– لقرب وقوع صدام وحرب أهلية نتيجة لخلاف الطرفين العسكريين.
ويمكن القول، إن المانع الأساس الذي يعصم من وقوع صدام بين الجيش والدعم السريع هو فقط الالتزام الحقيقي بموقفهما الصريح والجاد من تنفيذ بنود الاتفاق الإطاري، فقد كان واضحاً من مجريات "انقلاب 25 أكتوبر" أن ذلك الانقلاب، بحال الاستمرار فيه، سيؤدي إلى صدام بين طرفين متنافسين، فوجود انقلاب ذي رأسين (الجيش والدعم السريع) بذاته علامة واضحة جداً على ضرورة حدوث صدام بين الطرفين في المستقبل، لا سيما أن قائد الجيش ظهر وحده يوم 25 أكتوبر 2021 حين أعلن "بيان الانقلاب"، فيما كان واضحاً أن غياب حميدتي في ذلك اليوم، ما يثير كثيراً من الأسئلة وعلامات الاستفهام.
بطبيعة الحال، هناك قوى سياسية مختلفة لكنها تتفق على أن لها مصلحة واضحة في تعطيل تنفيذ "الاتفاق الإطاري"، وتضم هذه القوى عناصر كثيرة، منها تحالف "الكتلة الديمقراطية"– الذي يرفض حتى اليوم التوقيع على الاتفاق الإطاري بحجج واهية- ومنها كذلك عناصر في قيادة الجيش، إلى جانب عناصر النظام القديم (نظام البشير) الذين هم أحرص الناس على تعطيل الاتفاق الإطاري من الوصول إلى نهاياته، لأن مصلحتهم واضحة في الحيلولة دون قيام حكومة مدنية كاملة الصلاحيات، وعودة الجيش إلى ثكناته، واستئناف المرحلة الانتقالية. ويدرك عناصر النظام القديم تماماً أن أي استئناف للمرحلة الانتقالية بقيادة حكومة مدنية كاملة الصلاحيات سيعني، في ما يعني، إعادة تأسيس جديد للجنة "إزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو واسترداد الأموال العامة" وهي لجنة منصوص على قيامها وإعادة تأسيسها في بنود الاتفاق الإطاري ضمن قضاياه الخمس الأساسية، مما يعني أن نجاح "الاتفاق الإطاري" وأيلولة الأمر إلى تكوين حكومة مدنية كاملة الصلاحيات سيكون بمثابة ضربة موجعة لعناصر نظام البشير الذين يستميتون لتثبيت أوضاع الفوضى والحيلولة دون عودة حكومة مدنية كاملة الصلاحيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الفرز الذي بدا واضحاً اليوم في موقف قائد قوات الدعم السريع من العملية السياسية والاتفاق الإطاري وإعلانه المتكرر عن الالتزام الصارم ببنوده وصولاً إلى اتفاق نهائي ينهي الأزمة، إلى جانب بيان الجيش، هو العنوان الأساس الذي يزعج عناصر نظام "الإخوان المسلمين"، وقوى الثورة المضادة، لذا فإن الحملة الإعلامية الشرسة، في وسائط التواصل الاجتماعي نحو "شيطنة" حميدتي تصلح اليوم لتحديد وتفسير مواقف واتجاهات كثيرين ممن ينشطون في العمل السياسي ويكتبون في السوشيال ميديا ويطلقون تصريحات متواطئة في الفضائيات عن قرب الصدام بين الجيش والدعم السريع، حيث من الواضح تماماً أن مصدر حملة "الشيطنة" هو عناصر نظام البشير والثورة المضادة، خصوصاً عبر ذبابهم الإلكتروني، وهي حملة تعكس ما يدل عليه تنوع خبراتهم المتراكمة وإمكاناتهم الضخمة في صناعة الإشاعات في تلك الوسائط والتأثير على كثير من المتابعين (لا سيما بعد نجاح حملاتهم الإعلانية الخبيثة في تشويه صورة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك).
لكن اليوم، وفيما ينشط "الإخوان المسلمون" وقوى الثورة المضادة، عبر السوشيال ميديا لشيطنة قائد "الدعم السريع"، بسبب موقفه الداعم لتنفيذ بنود الاتفاق الإطاري، هناك آخرون تكشف مواقفهم عن تحالف موضوعي –أدركوا ذلك أم لم يدركوه– مع قوى الثورة المضادة، لذلك لن يكون عسيراً اليوم الخروج بيقين أن من بين تحالف "الكتلة الديمقراطية" عناصر لقوى الثورة المضادة تلعب دوراً كبيراً في تعطيل الاتفاق الإطاري، الأمر الذي ربما يكشف عن أدوار مزدوجة لعناصر "نظام البشير" في تخريب العملية السياسية من ضمن نشاطهم السياسي العام، وعبر الأدوار التخريبية لعناصرهم داخل بعض مكونات تحالف "الكتلة الديمقراطية".
أما ما يمكن استشفافه من أفعال بعض العناصر المناوئة للاتفاق الإطاري بين متنفذي الجيش، فهو ما كشفت عنه الأحداث، خلال الأيام الماضية، كصمت المركز عن إيقاف اللجنة الأمنية بكسلا لنشاط "ورشة للعدالة الانتقالية"، تنظمها الأطراف الموقعة على "الاتفاق الإطاري" في الأقاليم، بناء على طلب من أنصار نائب رئيس "الكتلة الديمقراطية" الناظر ترك، وكذلك تثبيت تعيين والي ولاية البحر الأحمر (الذي ظل والياً بالإنابة منذ أن استجاب المركز لطلب إقالة والي البحر الأحمر السابق في الصيف الماضي تحت ضغط قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا) وهذه كلها اتجاهات تعكس حراك المناوئين للاتفاق الإطاري سواء كانوا من القوى السياسية أو في بعض أجهزة الدولة.
صحيح أنه قد لا يكون من اللائق قبول خطاب قائد عسكري في مناسبة عامة يدعو فيه الجيش إلى تسليم السلطة فوراً بطريقة ربما عكست ما يفهم منه استفزاز للجيش، مما لا يصب في صالح العملية السياسية، كقول نائب قائد "قوات الدعم السريع" الفريق عبدالرحيم دقلو، مخاطباً الجيش في مناسبة عامة، "سلموا السلطة للشعب من دون لف ولا دوران"، فمثل هذه التصريحات قد تكون لها ردود فعل سيئة على العلاقة بين الطرفين وإن كان مضمونها صحيحاً. وهي أشبه بالسجال الإعلامي الذي شاع وظل يردده البعض –قبل الانقلاب- بين محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة السابق، في حديثه عن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان.
لكن لعل أهم ما ميز ردود فعل بعض القوى السياسية على هذا التجاذب الذي تداولته الساحة السياسية حول الخلاف بين حميدتي وعبدالفتاح البرهان، هو موقف قوى الحرية والتغيير (المركزي) حيث لزم قادتها الصمت، وقادوا مبادرة للتوفيق بين الرجلين من أجل طي أسباب الخلاف بينهما، انتهت إلى اجتماع انعقد مطلع هذا الأسبوع بينهما وأسفر عن توافق بينهما تم بموجبه تكوين لجنة أمنية مشتركة من القوات النظامية وأجهزة الدولة ذات الصلة وحركات الكفاح المسلح لمتابعة الأوضاع الأمنية في البلاد.
لقد بدا واضحاً اليوم أن الصراع السياسي في السودان يعكس استقطاباً حاداً في واقع مأزوم نسجته سنوات حكم نظام "الإخوان المسلمين" الـ30، بطريقة لا يزال فيها لأنصارهم قدرة على تحريك ذلك الواقع والنشاط فيه بأكثر من وجه في المجال العام والإعلام، وخصوصاً في السوشيال ميديا، وأجهزة الدولة.
لكن كل ذلك النشاط المحموم لتزييف الواقع وتصوير الاتفاق الإطاري كما لو أنه خطة دولية للهيمنة ودسيسة لمؤامرات خارجية سيفشل لأن حقيقة الصراع السياسي في السودان اليوم أصبحت قائمة على الفرز بين من يريدون إرجاع عقارب الساعة للوراء وتثبيت أزمات الواقع السوداني، ومن يريدون الخروج من هذا الواقع السياسي المأزوم إلى فضاء الحرية والدولة المدنية بالتعاون مع المجتمع الدولي.