ملخص
التكهنات حول مصير #العلاقات_السعودية_الأميركية نفضتها طائرة #بايدن التي حطت في جدة الصيف الماضي، وتزامنت مع تأكيدين، الأول من واشنطن على أهمية العلاقة، والثاني من الرياض على ضرورة مراجعتها
ما إن أفصح الرئيس الأميركي جو بايدن عن نيته "إعادة ضبط" العلاقات مع السعودية، حتى بدأت وسائل الإعلام تصوّر الخطوة بأنها نكسة في تاريخ علاقة الثمانية عقود التي بدأت في أربعينيات القرن العشرين من البحر على متن بارجة كوينسي واستمرت بين مد وجزر. وتعزز الزخم السلبي الذي صاحب عملية إعادة تقييم العلاقة بقرارات الإدارة الديمقراطية بوقف دعم التحالف العسكري الذي تقوده الرياض في اليمن وتجميد مبيعات الأسلحة، فعلى رغم ترحيب السعودية على لسان سفيرتها في واشنطن بالتوجه الأميركي، إلا أن التركيز الإعلامي لم ينصب على ما قد تعنيه السياسة الجديدة لمستقبل العلاقة بين البلدين، وذهبت وسائل إعلام إلى توظيف مفردات من قبيل "الانهيار" و"الطلاق" لتوصيف الخلاف، كما فعلت مجلة "إيكونيميست" البريطانية، التي افتتحت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مقالة سياسية من حوالى ألف كلمة عن علاقات البلدين بجملة تشرح مفهوم الطلاق في الإسلام.
لكن التكهنات حول شرخ في العلاقات السعودية - الأميركية لا مجال لرأبه نفضتها رياح طائرة بايدن التي حطت في جدة الصيف الماضي، حيث التقى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، قبل عقد جلسة مباحثات مطولة مع ولي عهده الأمير محمد بن سلمان. وجددت الزيارة حينها رغبة البلدين في إعادة تصور علاقتهما، وهي الخطوة التي تبنتها إدارة بايدن، وتزامنت مع تأكيدين لم يحظيا بزخم إعلامي، الأول من واشنطن على أهمية العلاقة، والثاني من الرياض على ضرورة مراجعتها، فالسفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة الأميرة ريما بنت بندر أوضحت في ظهور تلفزيوني نادر العام الماضي أن المراجعة ضرورية نظراً إلى التغييرات التي مرت بها البلاد، واعتبرت زيارة بايدن لجدة تدشيناً لعهد جديد، لا يكون فيه نموذج "النفط مقابل الأمن" الموجّه الوحيد لروابط الدولتين.
عقبة "اتفاق 1945"
ومع ذلك، فإن تحويل سياسة "إعادة الضبط" التي أجمع البلدان على أهميتها إلى واقع لا يبدو أمراً سهل المنال بحسب مراقبين، خصوصاً في الشق الدفاعي الذي يمثّل ركيزة أساسية للعلاقات السعودية – الأميركية، كما يجادل بلال صعب المستشار السابق في "البنتاغون"، في ورقة نشرها معهد "الشرق الأوسط" بعنوان "ما بعد النفط مقابل الأمن: خطة لإعادة ضبط العلاقات الأمنية الأميركية - السعودية". وأوضحت الورقة أن الشراكة الأمنية لا تلقى دراسة كافية، ويساء فهمها على نحو مضرّ بأهداف الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أنه "وعلى رغم وجود إجماع بين المسؤولين والمراقبين الأميركيين والسعوديين على الحاجة إلى الارتقاء بعلاقات البلدين الدفاعية، إلا أنه لا يوجد نقاش جاد حول كيفية تحقيق ذلك على المستوى الاستراتيجي".
ودعا صعب إلى إعادة تشكيل العلاقات الأمنية في ضوء الحاجات الجديدة للبلدين سواء على صعيد الأولويات الجيوسياسية في أميركا، أو المتطلبات الدفاعية في السعودية، وكرر هذه الدعوة الأسبوع الماضي في ندوة نظّمها معهد "الشرق الأوسط" لمناقشة مخرجات البحث الأخير، بمشاركة مارتن إنديك، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، وغريغوري غاوس، الأكاديمي في كلية بوش للحكومة والخدمة العامة.
ولفت الباحث الأميركي من خلال ورقته الأخيرة إلى أن العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية تشهد تحسناً، ولكن من دون إنهاء الغموض والطبيعة التبادلية اللذين يكتنفان اتفاق "النفط مقابل الأمن" لعام 1945 فإن انعدام الثقة والتوترات بين الطرفين ستعاود الظهور. وأكد على أن إصلاح أو توطيد العلاقة "مسؤولية مشتركة"، قائلاً إن على السعودية أن تعمل على معالجة المخاوف الأميركية التي تشمل "حقوق الإنسان، وسياسة إنتاج النفط، والانفتاح الأمني على بكين، والحرب في اليمن"، في حين "يجب على الولايات المتحدة إعادة بناء إطارها الأمني مع السعودية لجعلها أكثر فاعلية ضد التهديد متعدد الأوجه الذي تشكله إيران".
وكتب صعب، "يود السعوديون رؤية المزيد من الاستثمارات الأميركية في اقتصادهم، وربما لهجة أكثر لباقة أو مهنية من قبل القادة الأميركيين عند الحديث عن بلدهم"، مشيراً إلى وصف الرئيس بايدن قبل توليه منصبه السعودية بأنها دولة "منبوذة". وأضاف بأنهم يريدون أيضاً من واشنطن أن تظهر تقديراً أكبر لـ "الإصلاحات الهائلة والصعبة التي أجرتها القيادة السعودية". وعلى رغم أهمية تلك الخطوات، إلا أن تعزيز التعاون الأمني بحسب الكاتب يتصدر توقعات السعودية من الولايات المتحدة، خصوصاً في وقت تشهد فيه البلاد تغييراً اجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً يتطلب استقراراً أمنياً و"قدرة على الدفاع الفعال ضد العدوان الإيراني المباشر وغير المباشر". وتابع، "لا تزال السعودية تتطلع إلى انخراط أميركي أكبر على المستوى الأمني، وأصبح ذلك معروفاً لأن هذا ما نقله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى كبار المسؤولين في إدارتي ترمب وبايدن. لذا، حان الوقت لتعيد الولايات المتحدة تشكيل العلاقات الأمنية مع السعودية لتصبح متوافقة مع الأولويات الجيوسياسية الأميركية الجديدة والمتطلبات الدفاعية السعودية الجديدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"ضمان نووي" أميركي للسعودية
من جانبه، اتفق غاوس الذي عمل في إدارة جورج دبليو بوش مع ما طرحته الورقة حول ضرورة تعزيز التعاون الأمني بين البلدين، واقترح في ضوء التهديد النووي الإيراني أن تمنح واشنطن السعودية "ضماناً نووياً" للسعودية، والذي يمكن تمريره من دون معاهدة تتطلب موافقة الكونغرس صعبة التحقق، داعياً إلى مزيد من التنسيق بين البلدين لتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط ومواجهة النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
أما إنديك، السفير الأميركي السابق إلى إسرائيل، فجدد التأكيد على أن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها لعب دور "الشرطي" في منطقة الخليج كما فعلت في الماضي، نظراً إلى "الأولويات الجديدة التي تجبرها على تحويل مواردها إلى أجزاء أخرى من العالم، كالحرب في أوكرانيا، والعدوان الروسي، والنفوذ الصيني المتزايد في آسيا"، ولذلك فهناك حاجة إلى تمكين شركاء واشنطن في المنطقة للعب دور أكبر.
"شراكة لا وصاية" للقتال معاً
ودعا البحث الذي نشره معهد "الشرق الأوسط" في 20 صفحة الولايات المتحدة إلى تعزيز تعاونها الأمني مع السعودية والشرق الأوسط وتبني أهداف أكثر طموحاً، إذ "لم يعد كافياً استخدام التعاون الأمني كطريقة للوصول إلى المنطقة وإنشاء قواعد عسكرية فيها وبيع الأسلحة وتطوير علاقات سياسية مع القيادة المحلية، والحفاظ على اتفاقيات السلام العربية – الإسرائيلية"، بل بات التعاون الأمني الأميركي اليوم يتطلب تحفيز الشركاء الإقليميين بفعالية أكبر وتمكينهم من دعم أمنهم الخاص، وإذا اقتضى الأمر، المشاركة في عمليات مشتركة تقودها الولايات المتحدة سعياً وراء مصالح الأمن الجماعي. وأكد أن "السعودية ليست وحدها في وضع لا تحسد عليه على صعيد علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة، فعدم اليقين بشأن الالتزام الأمني الأميركي أمر يجب أن يتعامل معه كافة الشركاء الدوليين للولايات المتحدة، فعلى عكس الحليف في إطار المعاهدات، لا تبرم الولايات المتحدة اتفاقية تلزمها رسمياً بالدفاع عن شركائها في حال وقوع أي هجوم، والعكس صحيح".
وقللت الورقة من إمكانية رفع الولايات المتحدة مستوى العلاقة مع السعودية إلى "تحالف"، إذ يواجه هذ المقترح الكثير من المشكلات والعقبات الداخلية والخارجية، منها الكونغرس الذي ستحتاج إدارة بايدن موافقته لتمرير معاهدة أمنية من هذا النوع، فضلاً عن أن ترقية الشراكة مع السعودية، وترك بقية الشركاء المؤثرين في المنطقة مثل إسرائيل ومصر وقطر والإمارات والبحرين قد يحدث أزمة دبلوماسية للولايات المتحدة مع تلك الدول.
وفي ضوء صعوبة إقامة تحالفات مع كل أو حتى بعض هذه البلدان والالتزام بالمزيد من الموارد العسكرية للشرق الأوسط في الوقت الذي تركز فيه واشنطن على منع الصين من أن تصبح قوة مهيمنة في آسيا، وفي ظل الوضع الراهن في العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والسعودية الذي تصفه الورقة بـ "غير المرضي"، يدعو الباحث إلى إعادة تصور الشراكة الأمنية، ودعم السعودية في جهودها لتحديث جهازها الدفاعي، لأنها ضرورية لمواجهة التهديد الذي تشكله طهران للرياض ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
ودافع الباحث عن رؤيته قائلاً "من المنطقي تجنب أي حرب مع إيران، لأنها ستكون مدمرة للمنطقة كلها، ويمكن أن تؤدي إلى مقتل المئات، إن لم يكن الآلاف، نظراً إلى عقود من التنافس السعودي - الإيراني والتوتر الطائفي بينهما. وفي حال استمرار القتال وتصاعده، قد يتضرر الاقتصاد العالمي إلى حد بعيد نتيجة الاضطرابات في أسواق الطاقة". وأضاف، "لا خيار أمام السعوديين والأميركيين سوى الاستعداد معاً للحرب وغيرها من حالات الطوارئ العسكرية مع إيران، وإرسال رسالة لطهران بأنهما مستعدتان وقادرتان على القتال معاً لمنع النزاع، مشيراً إلى أن "ما تفشل الأصوات الانعزالية في واشنطن في تقديره هو أن فرص الحرب أو تجدد العدوان الإيراني تزداد كلما لاحظت طهران نقاط ضعف في الدفاعات السعودية وتصدعات في العلاقة الأمنية بين الدولتين".
النسخة السعودية من "غولدووتر- نيكولز"
وحتى تعزز السعودية قدراتها الدفاعية، فهي تحتاج إلى أمرين أساسيين، بحسب الورقة، الأول قدرة محلية على تطوير قوة قتالية موثوقة ومستدامة في وقت السلم، والثاني، قدرة على الرد بفعالية، بمفردها أو كجزء من تحالف، في حالات الطوارئ العسكرية المختلفة. وفي حين تحتاج الرياض إلى الولايات المتحدة، بوصفها أكبر وأهم مزوديها بالسلاح، فإن الولايات المتحدة تحتاج أيضاً إلى السعودية، لأنه وبغض النظر عن عدد المرات التي يردد فيها القادة الأميركيون أن واشنطن تريد إنهاء الحروب التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، فإن مع استمرار إيران في بناء برنامجها النووي وتهديد الأمن الإقليمي، فقد تضطر الولايات المتحدة إلى خوض معركة جديدة في المنطقة. وأهمية تعزيز القوة العسكرية السعودية تكمن في أن واشنطن لن ترغب في القتال بمفردها في أي حرب محتملة، بل ستحتاج إلى شركائها الإقليميين للمساهمة بطرق أكثر فعالية مقارنة بعملية "عاصفة الصحراء"، وحتى في عملية "العزم الصلب" ضد تنظيم "داعش".
وكتب صعب إن" السعودية بحاجة لتكون قادرة على وضع الاستراتيجيات وتنظيم المهام والتخطيط والتشغيل والدمج والإدارة والاستدامة، وكل ذلك يجب أن يحدث من "المرحلة الصفر"، أي قبل اندلاع أزمة أمنية أو انطلاق هجوم، ويتطلب ذلك استثمارات في بناء مؤسسة دفاعية عبر مجالات متعددة، بما في ذلك العقيدة والاستراتيجية والتخطيط وإدارة الموارد وتنمية رأس المال البشري والاستحواذ والخدمات اللوجستية". وأضاف، "مع أن السعودية قادرة على تطوير هذه العمليات والكفاءات بمساعدة الولايات المتحدة أو من دونها، فهي ستكون في وضع أقوى لإنشاء خطط دفاع موحدة ومفاهيم قتالية مشتركة مرة أخرى، بالشراكة مع الولايات المتحدة، إذ ليست هذه الخطط والمفاهيم مفيدة إلى حد بعيد للسعوديين فحسب، بل أيضاً للأميركيين، وذلك من خلال إنشاء خريطة طريق للتخطيط التشغيلي اليومي مع القيادة المركزية الأميركية وإدارة الموارد التي تستند إلى القدرات المستقبلية مع وزارة الدفاع".
ونوّه الباحث الأميركي بإقرار القيادة السعودية بأن جهاز الدفاع السعودي يحتاج إلى "إعادة بناء"، مشيراً إلى أن المملكة تشهد عملية تحول دفاعي تاريخية بقيادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ توليه منصبه عام 2017. وأضاف، "لا يُعرف الكثير علناً عن عملية التحول الدفاعي السعودي، لأن القيادة السعودية لم تعلن عنها بصخب، كما هي الحال مع رؤية 2030، ومع ذلك، فهي المحاولة الأكثر جدية لإصلاح مؤسسات الأمن القومي في المملكة منذ تأسيسها عام 1932"، وهي على حد وصف الباحث، "النسخة السعودية من غولدووتر- نيكولز"، الإصلاح الدفاعي الأكثر أهمية وشمولية في تاريخ الولايات المتحدة والذي أطلق عام 1986.
وأشاد بتحرك "البنتاغون" في عام 2018 لدعم السعودية في جهودها لتحديث دفاعاتها، وتقديمه المشورة من خلال متخصصين خارجيين في إدارة الدفاع، بناءً على طلب الرياض، وعلى رغم أن ذلك لفت السعودية إلى أهمية عمليات التنفيذ، إلا أن المساعدة كانت متواضعة، ولا تزال تواجه تحديات كبيرة لا علاقة لها كثيراً بالسعوديين بحسب الباحث، وإنما ترتبط بالتوترات السياسية التي صعّبت إطلاق العنان بالكامل للدور الاستشاري في السعودية، مشيراً إلى أنه في ظل غياب حوافز عالية المستوى، لا سيما من مجلس الأمن القومي، فإن التعاون الأميركي - السعودي في الشؤون الدفاعية والأمنية لن يذهب بعيداً.