ملخص
الالتقاء بأطفال وأفراد #أسر أجبروا على #الفرار من منازلهم، يجعلك تدرك بحدة ما لديك من نعم #العائلة والطمأنينة والأمان
قادني الدور الذي أسند إلي، سفيرة عالمية لمنظمة "طفل الحرب" War Child (مؤسسة خيرية تساعد الأطفال واليافعين المتضررين من النزاعات المسلحة والحروب من خلال تأمين الحماية لهم والتعليم والدعم النفسي والاجتماعي)، إلى مناطق نزاع مختلفة حول العالم، لكن منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا في فبراير (شباط) من عام 2022، طغى علينا قلق من نوع خاص عندما بلغت تبعات هذا الصراع عتبة منازلنا. فالالتقاء بأطفال وأسر أرغموا على الفرار من منازلهم، في حين كانوا ينعمون بالمزايا نفسها المتوافرة في بلادنا، يجعلنا ندرك تماماً مدى أهمية النعم التي نمتلكها سواء لجهة الأسرة، أو الشعور بالسلام والأمان.
أثناء رحلة إلى بلدة صغيرة في غرب أوكرانيا، زرنا "مركز بلاهو المجتمعي" Blaho Community Centre، الذي أعيدت هيكلته بعد أن كان مطعماً، وأصبحت تديره الآن امرأة ملهمة وثابتة العزم تدعى إليونورا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا المركز يستقبل في كل الأوقات نحو 100 لاجئ من شعب "الروما" (الغجر الذين يعيشون في حال تنقل دائم)، بعضهم يمرون به بسرعة كعابري سبيل، والبعض الآخر يقيمون فيه منذ بداية النزاع. ويشكل الأطفال قرابة نصف الموجودين في المبنى الذي يعتبر أكثر بكثير من مجرد ملاذ. إنه في الواقع شريان حياة لأولئك الذين عانوا من وطأة الصدمة والضغوط التي جلبتها لهم الحرب، وأيضاً من الإرهاق وحال الفوضى في مسيرة بحثهم عن الأمان. فكثير من الأسر ينام أفرادها داخل سيارات إذا حالفهم الحظ في امتلاك مركبة، فيما تعد إحدى زوايا محطات السكك الحديدية المأوى الأكثر شيوعاً بالنسبة إليهم.
تقوم منظمة "طفل الحرب" منذ اندلاع الحرب بتمويل هذا المركز، الذي يؤمن للأسر التي هي على حافة اليأس، مكاناً آمناً ودافئاً يمكنها المكوث فيه، والحصول على طعام مغذ ومساعدات نقدية (على شكل قسائم). فبعد ضمان حصول كل من الأطفال الموجودين في المركز على اللوازم الضرورية اليومية التي يحتاجون إليها تبدأ المنظمة بمباشرة مسؤولياتها التي تضطلع بها.
غني عن القول إن الأطفال الذين شهدوا أبشع الأعمال الوحشية الشائعة في مثل هذه الحروب، يحتاجون إلى مساعدة ورعاية متخصصة كي يتمكنوا من التعامل مع حالة التوتر والصدمات التي عاشوها، سواء لجهة فقدان أحد أفراد أسرتهم أو لرؤية منازلهم تنهار من حولهم، أو الابتعاد عن أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية، كالمدرسة والصداقات والكتب والألعاب. إن لكل هذه الجوانب تأثيرها عليهم، فهي تشكل اللبنات الأساسية لأي مرحلة من الطفولة.
وكي يشعر الأطفال بأي إحساس بالتعافي، أو أن يكونوا قادرين على التعامل مع الحزن وخسارتهم، فإنهم يحتاجون إلى استعادة هذه الطفولة بأسرع ما يمكن. وهنا يكمن دورنا في توفير حصص تعليمية تعويضية لهم، إذ نعتبر أنها بمثابة حجر زاوية أساسي في مثل هذه الأزمات. ففي غياب بيئة تعليمية، يفقد الأطفال أي أمل في المستقبل، ونكون في هذه الحال نخاطر بخسارة جيل بأكمله.
وتأتي في المرتبة نفسها من الأهمية، جلسات العلاج بالفن التي رأيتها. وهي تقنية تم اختبارها وأثبتت نجاعتها في التخفيف من معاناة الأطفال، من خلال مساعدتهم على التعبير عن مكنوناتهم، بحيث يتسنى للطفل الذي يلتزم الصمت ويرفض التكلم التعبير عن نفسه، أو ذاك الذي يظهر سلوكاً عدائياً بالتنفيس عن غضبه والتعامل مع حزنه.
إليونورا هي القلب النابض لـ"مركز بلاهو المجتمعي". فالمرأة كانت متفرغة للعمل في المجال الإنساني من خلال مساعدة السكان الغجر منذ نحو 20 عاماً. وعندما اندلعت الحرب في غرب البلاد، أرادت إنشاء مركز مخصص لإيواء الأسر الفارة من القتال، وتوفير تدريب خاص على الإسعافات الأولية النفسية لطاقم العاملين، لضمان حصول اللاجئين على الدعم اللازم عند الحاجة، إضافة إلى ذلك، يزور المركز طبيب نفسي متخصص، ثلاث مرات في الأسبوع، لعلاج الأشخاص المقيمين فيه.
يمتاز هذا المركز، في ظل إشراف إليونورا عليه، ببيئة نظيفة، وأجواء مشرقة ودافئة ترحب بالمقيمين. وبمقدار ما يتم الحرص على توفير هذه النواحي في المركز، فإن الموارد تبقى متواضعة، بحيث لا يزال ما بين 30 و50 شخصاً ينامون على فرشات في غرفة طعام قديمة. الجميع هنا يحاولون تخطي آثار الصدمات العميقة التي يعانون منها، إضافة إلى التاريخ الطويل من الإقصاء الذي كانوا عرضة له. والسبب في ذلك هو أن غالبية الأفراد في المركز ينتمون إلى مجتمعات "الروما" المهمشة.
العنصرية التاريخية أسهمت في جعلهم في غاية الضعف. فعلى سبيل المثال، لا يتاح دائماً للأطفال الالتحاق بالمدرسة إذا كانوا من الغجر. ومن المعروف أنه يصعب على البالغين منهم العثور على عمل. وقد كان واضحاً للغاية بالنسبة إلى أنه لولا هذا المركز، فلن يجد الكثير من هؤلاء مكاناً آخر يتوجهون إليه، ومنهم أسر عدة كأسرة أندريي *، وابنتيه ناتاليا * وصوفي *، هذا الرجل فقد زوجته في القصف، وهو الآن يقوم بتربية ابنتيه الصغيرتين بمفرده.
إن معاينة ما تعيشه هذه العائلة هي مؤثرة بشدة، لكن في "مركز بلاهو المجتمعي"، تحظى هذه الأسرة بدعم قوي من جانب السيدة إليونورا وزملائها، لمساعدة الوالد أندريي على رعاية الفتاتين وإعالتهما خلال الظروف المروعة التي تمران بها. إنها إحدى القصص التي ربما سمعناها من قبل وقد جرى تداولها مرات عدة، لكن الظروف التي تحيط بها لا يمكن تصورها، ولا أستطيع حتى تخيل حدوثها لأولادي. وفيما أجلس إلى جانبهم وأشاهد مدى الأسى والحزن في نفوسهم، أدرك أكثر كم أن الحياة لولا هذا المركز كانت لتصبح صعبة عليهم، على نحو يفوق أي تصور.
وفيما يبذل الموظفون هنا أقصى ما لديهم من جهود، يحاول الأهالي الإبقاء على الأمل والإيجابية لدى أطفالهم. إنه مكان يعج بالحيوية والألوان الزاهية، فقد كان من الرائع رؤية نتائج جلسات العلاج بالفن على الجدران، مع رسائل مكتوبة علقت عليها تقول: "أريد أن أعود إلى المنزل"، و"نحلم بشمس في سماء صافية خالية من الغيوم، وننشد السلام".
من البديهي أن يتوق الأطفال إلى العودة إلى منازلهم، كما أن سلامة المركز وأمنه يوفران لهم ملاذاً يجعلهم يحلمون بمستقبل أكثر إيجابية، لكن مشاهدة كثيرين منهم يتململون خوفاً من انطلاق الصفارات المنذرة بغارات جوية، لم تمنعني عن التفكير بمدى حاجتهم للتغلب على هذا الشعور، في أثناء مسيرة التعافي التي يخوضونها من أجل إعادة بناء حياتهم.
وخلال الرحلة نفسها، قمنا بزيارة مركز في بودابست يناقض في مقوماته المركز الذي زرناه في أوكرانيا. فهو لم يتمكن من الحصول على التمويل الذي يحتاج إليه خلال العام الماضي، لتقديم الدعم اللازم لنحو 100 فرد يقيمون في المبنى، مع أنني شعرت بالارتياح عندما علمت أنه سيستفيد قريباً من دعم منظمة "طفل الحرب".
لا يمكن إشاحة النظر عن مدى خطورة الوضع الذي يلقي بظلاله وثقله في هذا المكان. فالأطفال وأولياء أمورهم يرزحون تحت وطأة الضغوط والصدمة الشديدة، وهم غير قادرين على الحصول على المساعدة التي يحتاجون إليها للبدء بالتعامل مع المعاناة التي مروا بها. الأمهات أعربن عن مخاوفهن في شأن الحالة الصحية السيئة لأطفالهن بسبب الظروف الحياتية التي يعيشونها، إضافة إلى المشكلات السلوكية الأخرى التي يبديها صغارهم.
سمعنا من إحدى الأمهات أن ولدها البالغ من العمر أربعة أعوام، تظهر عليه علامات اكتئاب، وقد توقف عن تناول الطعام أو النوم. أخبرتنا أخرى أن ابنتها البالغة من العمر ستة أعوام، تعاني الآن من الصدمة والخوف من الناس، ومن رهاب الوجود وسط الحشود، مما يعني أنها تعتبر ارتياد المدرسة أمراً مستحيلاً. أما المسألة المشتركة التي تناولتها جميع الأمهات اللاتي تحدثنا معهن، فتتمحور حول الضغوط الصعبة التي عانين منها العام الماضي، والآثار غير المنظورة التي خلفتها في نفوس أطفالهن.
أذكر تلك الفتاة الصغيرة التي تشبثت بي طيلة الساعة الأخيرة التي أمضيتها هناك- كانت مفعمة بالطاقة والحيوية، كما لو أن كل ما حدث في العام الماضي ما زال مشحوناً في داخلها، ولا مكان لديها للتنفيس والتعبير عنه وعن مكنوناتها. خلت أنها كانت في الرابعة من العمر، لكن قيل لي إنها كانت في الواقع في السابعة. وفي تلك اللحظة، أدركت أن سلوكها وتصرفها كشفا لي الأثر الحقيقي والمدمر للتجارب التي مرت بها.
غادرنا مرتاحي البال إلى أن تغييراً حقيقياً سيحدث قريباً هناك. فعندما يصل طاقم الفريق التابع لمنظمة "طفل الحرب"، سيعمل اختصاصيوه على توفير الأنشطة والدعم النفسي لهؤلاء الأطفال، وسيواصلون النقاش مع الأهالي حول الطرق الآيلة إلى تلبية المركز حاجاتهم بأفضل طريقة ممكنة.
الحقيقة هي أن بالنسبة إلى كثير من هؤلاء الأطفال والأسر، لا يزال الكابوس في بداياته الأولى، مع تكشف آثار الصدمة التي مروا بها. وتتمثل مهمة منظمة "طفل الحرب" في الوصول إلى أكبر عدد ممكن من هذه المراكز، وتحسين حياة الأطفال وأفراد العائلات الذين دفعت بهم الحروب في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى تلك المراكز.
لا يمكن أن نقبل بالسماح لأطفالنا بالعيش في مثل هذه الظروف. ويحدونا أمل أنه بعد سنة واحدة، ومن خلال دعم الناس، في أن نتمكن من تغيير حياة عدد أكبر من الأطفال في أوكرانيا وخارجها، من الذين يستحقون أن ينعموا بمستقبل أفضل، وأكثر أمانا.
* تم تغيير الأسماء لحماية هوية الأفراد وخصوصيتهم
© The Independent