بالقرب من معبد إسنا الفرعوني في محافظة الأقصر جنوب مصر، تقع وكالة الجداوي إحدى أشهر الوكالات التجارية المسجلة على قوائم وزارة الآثار المصرية، والتي تجاوز عمرها 300 عام، والتي كانت تمثل مركزاً تجارياً لكبار التجار الوافدين من القارة الأفريقية لتوريد العطارة والصمغ والمنتجات المختلفة. جرى ترميم الوكالة التجارية العام الماضي بعد أن عانت على مدى عقود الإهمال والتصدع في جميع أركانها، لتعود إلى الحياة من جديد وتستقبل السائحين والزائرين.
زارت "اندبندنت عربية" وكالة الجداوي التجارية في مدينة إسنا للتعرف إلى أهميتها التجارية والأثرية منذ العصر العثماني، باعتبارها الوكالة التجارية الوحيدة المتكاملة منذ ذلك العهد.
لمحة تاريخية
يقول عمر فخري، مفتش آثار إسلامية في إسنا، "أول من أنشأ وكالة الجداوي كان أحد المماليك يدعى حسن بك الجداوي، أحد مماليك علي بك الكبير وأحد أفراد حاشية محمد أبو الدهب عام 1712 ميلادية، بالقرب من معبد إسنا الفرعوني، بهدف إنعاش التجارة الأفريقية الوافدة من القارة السمراء، وتسهيل وصول البضائع وتخزينها. كان حسن الجداوي رجلاً تجارياً له العديد من العلاقات التجارية في جميع الأقاليم المصرية، ولقب بالجداوي لتعيينه والياً على مدينة جدة في عهد علي بك الكبير قبل قدومه إلى مصر".
وأضاف فخري "مكانة وكالة الجداوي التجارية ظهرت جلياً في تدوين علماء الحملة الفرنسية على مصر، الذين وصفوها بالمركز التجاري الأهم للبضائع الأفريقية بموسوعة (وصف مصر)، لأنها غذت الأسواق المصرية بالعطارة والزيوت وريش النعام والذهب، لذا لعبت الوكالة دوراً بارزاً في حركة التجارة المصرية كحلقة وصل بين القارة السمراء والأقاليم المصرية".
وأشار فخري إلى أن القيمة الأثرية لهذه الوكالة تكمن في أنها الوحيدة المتكاملة من العصر العثماني، كذلك لدورها البارز في حلقة الوصل مع التجارة الأفريقية الوافدة التي كانت تغذي جميع الأقاليم المصرية.
يقول أسامة طلعت، رئيس قطاع الآثار الإسلامي "إسنا من المدن العتيقة المدونة في غالب كتب الرحالة والمستشرقين، كانت هذه المدينة مركزاً تجارياً دولياً في العصر الإسلامي، فهي تضم إلى جانب وكالة الجداوي التجارية، منطقة القيسرية والتي تعني السوق المفتوحة في العصر الإسلامي، بجانب المسجد العمري، مما عزز وفود التجار السودانيين والمغاربة للمدينة لتوريد المنتجات المتنوعة، حتى بات مثلت وكالة الجداوي سوق تجارة الجملة لكبار التجار الأفارقة والمصريين".
تحفة معمارية
وأوضح أحمد أبو الحجاج، المرشد السياحي والأثري، أن "وكالة الجداوي تعد تحفة معمارية ذات خدمات تجارية متكاملة، تبدأ الوكالة ببوابة عملاقة مزخرفة بالطوب الأحمر المعروف بـ(الآجر) تشبه محراب الصلاة. تتكون الوكالة من الداخل من طابقين، الأول يضم مجموعة حوانيت لعرض السلع والمنتجات يبلغ عددها 40 محلاً كانت تجري بها عمليات البيع والشراء، وتتزين جدران الحوانيت بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة".
أضاف أبو الحجاج "الطابق العلوي كان بمثابة فندق يضم مجموعة من الغرف والأجنحة لمبيت التجار الأفارقة الوافدين للوكالة، ويربط الطابق العلوي بالسفلي سلمان أحدهما من الجهة الشمالية والآخر من الناحية الغربية. يكسو الخشب الزان أجزاء كثيرة من الجزء العلوي للوكالة، والواجهة الرئيسة تطل على معبد خنوم الشهير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد بسام عبد الحميد الباحث في شؤون تراث الصعيد أن وكالة الجداوي تمثل بانوراما أثرية داخل مدينة إسنا بجانب مأذنة الجامع العتيق ومعبد خنوم الفرعوني، مما يعكس مدى التنوع الأثري داخل هذه المدينة الصغيرة التي تستحق أن تعزز بمزيد من الأفواج السياحية، لتصبح على قوائم برامج شركات السياحة.
إنقاذ الوكالة من الانهيار
وتعرضت الوكالة لأخطار داهمة تمثلت في تسرب المياه الجوفية وانتشار الشقوق بداخلها مما أنذر بانهيارها، لولا تنفيذ مشروع الترميم الشامل الممنوح من الوكالة الأميركية للتنمية بإشراف من وزارة الآثار المصرية.
وذكر هشام سمير، مساعد وزير السياحة والآثار أن "مشروع ترميم وكالة الجداوي أنقذ الوكالة في وقت حساس وسريع بعد أن تعرضت لخطر الانهيار المحتمل تحت وطأة الشقوق والمياه الجوفية".
ولفت إلى أن "مشروع الترميم استمر تنفيذه مدة عامين وتضمن ترميم وتدعيم الأساسات والأعمدة والجدران والأسطح والأسقف الخشبية، كذلك تنفيذ أعمال إحلال التربة وتجديد الأرضيات، ترميم جميع العناصر الخشبية من أبواب وشبابيك إضافة إلى ترميم الواجهة، كذلك تزويد الوكالة بالإضاءة، وتطوير الموقع العام والمرافق الخاصة به، وذلك بمنحة من الوكالة الأميركية للتنمية لتعمير وتطوير مدينة إسنا بكلفة تبلغ 8.6 مليون دولار".
وأشاد محمد عثمان، رئيس لجنة تسويق السياحة الثقافية، بحرص وزارة الآثار على إعادة الحياة لوكالة الجداوي التجارية مما عزز فرص الاستثمار السياحي لمدينة إسنا في جنوب محافظة الأقصر، كأحد المقاصد التي كانت منسية طيلة السنوات الماضية، على رغم تنوع المنتج السياحي بها من آثار إسلامية وقبطية وفرعونية، لكن ما ينقص المدينة هو تعزيز الخدمات الفندقية بها، الأمر الذي يستوجب خطة ترويج سياحي كبيرة تعمل عليها وزارة السياحة والآثار منذ افتتاح الوكالة العام الماضي، لجذب مزيد من الاستثمارات لمدينة إسنا الواعدة.
وذكر رضوان العربي أحد أهالي مدينة إسنا "الوكالة قبل ترميمها كانت تأوي من حولها مدمني الكحول واللصوص، وكانت تمثل خطراً على الأهالي بعد انتشار التشققات بها، لكن بعد ترميمها اختلفت الصورة كلياً، فباتت أحد المقاصد السياحية الرئيسة لمدينة إسنا بعد المعبد الفرعوني، مما غير وجه المدينة وخلق فرص عمل للشباب طيلة فترة ترميمها التي استمرت عامين، بعد أن كانت بعض الأمهات تخيف أبناءها الصغار بالقول إن هذه الوكالة مأوى للأشباح والعفاريت".