في إطار ثنائي وثلاثي، اجتمع قادة المؤسسات السياسية الليبية في القاهرة على مدى الأيام الأخيرة، بحثاً عن توافق يبدو بعيداً، وفق توصيف بعض المصادر التي حضرت تنسيق اللقاءات، في بلد تمزقه الحرب والصراعات منذ أعوام.
وعلى رغم الأجواء الإيجابية والتفاؤل العام الذي خيم على هذه اللقاءات التي بدأت الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني) الحالي بلقاء بين رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، وآخر بين قائد الجيش الليبي خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في التاسع من الشهر ذاته، وثالث جمع بين كل من حفتر والمنفي وصالح، الأحد 15 يناير، لاستكمال مناقشة المسارين السياسي والعسكري في ليبيا، لكن تعقيدات المشهد كانت أقوى من أن تحلحلها تلك اللقاءات.
في الخامس من يناير، أصدر كل من صالح والمشري من القاهرة بياناً مشتركاً أكدا خلاله الاتفاق على "وضع خريطة طريق واضحة ومحددة يعلن عنها لاحقاً" لاستكمال كل الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية، سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين، أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية وتوحيد المؤسسات.
وبعد بيان المشري وصالح، أكدت مصادر مصرية مطلعة على مسار العملية لـ"اندبندنت عربية"، أن لقاء ثلاثياً جمع، الأحد 14 يناير في القاهرة، كلاً من خليفة حفتر ومحمد المنفي وعقيلة صالح بهدف "استكمال النقاشات حول المسارين السياسي والدستوري في البلاد وبحث إمكانات الوصول إلى تشريعات انتخابية توافقية لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية"، لكن وفق المصادر ذاتها بقيت التباينات والخلافات حول النقاط العالقة من دون تحقيق اختراق في شأنها.
ماذا بحثت لقاءات القاهرة؟
"تحرص القاهرة على استمرار دورها الداعم لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية وجمعهم على طاولة واحدة وتوفير المناخ المناسب للحوار، بحثاً عن إيجاد مخرج لتسريع وتيرة العملية السياسية والدستورية والدفع باتجاه عقد الانتخابات في الجارة الغربية لها"، هكذا يشرح مصدر مصري مطلع على جهود القاهرة في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، موضحاً "تمكنت مصر في الأسابيع الأخيرة من استضافة لقاءات مباشرة بين الأطراف الليبية، وبصرف النظر عن النتائج، فإن هذه الخطوات إيجابية في قدرتها على جمع الفرقاء للتباحث بشكل مباشر ومحاولة تجسير هوة الخلافات بينهم".
وركزت اللقاءات، وفق مصادر ليبية في القاهرة تحدثت إلى "اندبندنت عربية" على "بحث مستجدات الأزمة الليبية والمسارين السياسي والعسكري ووثيقة القاعدة الدستورية وملف المصالحة الوطنية، فضلاً عن سبل المضي في تعزيز جهود التهدئة بين الأطراف الليبية لإنجاح مسار التسوية".
وأشارت المصادر إلى أن "اللقاء الثلاثي الذي جمع بين حفتر والمنفي وصالح استمر لأكثر من أربع ساعات متواصلة وناقش سبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة في ضوء التفاهمات الأخيرة بين مجلسي النواب والدولة في شأن قاعدتها الدستورية وإنهاء الازدواجية الراهنة بوجود حكومتين في البلاد".
وتابعت أن أبرز نقاط التوافق بين الأطراف الثلاثة كانت في شأن "ضرورة وقف التدخلات الخارجية لتسوية الأزمة وتفعيل الحوار بين الأطراف الليبية بعيداً من تلك التدخلات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم الأجواء الإيجابية التي خيمت على اللقاءات، "بدت فجوة الخلافات والتباينات أعمق من أن تحسمها لقاءات القاهرة"، إذ أوضحت المصادر الليبية أن "الخلافات في شأن القاعدة الدستورية الحاكمة للمسار السياسي والنقاط الخاصة بالمترشحين للانتخابات من مزدوجي الجنسية والعسكريين، لا سيما الرئاسية، لا تزال تمثل تباينات كبيرة بين الأطراف الثلاثة من دون الوصول إلى حلول في شأنها"، مما دفع الأطراف الثلاثة في نهاية لقائهم الأخير إلى الاتفاق على "استمرار التشاور للتنسيق في شأن تطورات الأزمة" من دون الوصول إلى جدول زمني للمسارات السياسية والدستورية، أو تحديد أفق واضح لإجراء الانتخابات.
والإثنين، رجح صالح في حوار مع إحدى القنوات المصرية إمكانية إجراء الانتخابات الليبية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، موضحاً "نريد انتخابات متزامنة برلمانية ورئاسية لأن ذلك أقل كلفة مع ضرورة ألا نعطي إحداهما فرصة لإعاقة الأخرى".
وأضاف أن "ما يعرقل الانتخابات في البلاد هو التدخلات الخارجية، لكن هناك تقارباً كبيراً الآن بين الليبيين"، متوقعاً "الاتفاق على المسار الدستوري الصحيح خلال الفترة القريبة المقبلة".
في المقابل، نقلت وسائل إعلام ليبية عن المشري قوله في أعقاب لقائه بصالح، إنه "تم الاتفاق في القاهرة على وثيقة دستورية كاملة تنظم مرحلتي قبل وبعد الانتخابات، عدا بند ترشح مزدوجي الجنسية للرئاسة".
وأوضح المشري أنه "مع الاتفاق على ألا يكون المترشح للرئاسة صدرت بحقه أحكام قضائية، حتى إن كانت غير نهائية، فإن صالح متمسك بترشح مزدوجي الجنسية وهو أحد الخلافات التي لا تزال قائمة"، مضيفاً "في حال استمر الخلاف، سيعرض هذا البند للاستفتاء الشعبي لأن الشعب هو مصدر السلطات".
ومع استمرار الجمود الذي يخيم على المشهد الليبي، كان المجلس الرئاسي بقيادة المنفي طرح مبادرة في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي لحل الأزمة السياسية في البلاد، تقوم على إعادة الأطراف المتصارعة إلى الحوار بغية الوصول إلى إنجاز القاعدة الدستورية التي من شأنها أن تؤسس لانتخابات برلمانية ورئاسية وتنهي المراحل الانتقالية، وبعدها بأكثر من أسبوعين، تحديداً في 24 من الشهر ذاته، اعتبر حفتر أن هناك "فرصة أخيرة" لرسم خريطة طريق وإجراء الانتخابات في ليبيا، مشدداً على أن وحدة البلاد "خط أحمر من غير المسموح تعديه".
إلى أين تقود الاجتماعات؟
على رغم الأجواء الإيجابية وبعض التفاؤل الذي خيم على لقاءات الأطراف الليبية في القاهرة خلال الأيام الأخيرة، فإن شبح الفشل لا يزال يطارد "الاتفاقات الهشة التي تم التوصل إليها"، مما يعكس عمق الأزمة التي تشهدها البلاد، وفق ما أوضح مراقبون لـ"اندبندنت عربية".
يقول رئيس وحدة التسلح في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أحمد عليبة، "في تقديري الشخصي، يشهد الملف الليبي تحركات كثيرة، لكن تبقى النتائج أقل من مستوى هذه التحركات"، مضيفاً أنه "على رغم هذه التحركات فإن الأطراف لا تزال غير قادرة على حسم الملفات العالقة".
ووفق عليبة، "تحولت الأزمة الليبية إلى صراع مراكز القوى ويبحث كل طرف عن تعظيم مكتسباته، مما يعني غياب الإرادة السياسية الحقيقية للوصول إلى حل نهائي"، متابعاً "الجميع لم يتمكن بعد من الوصول إلى نقطة ربما تشكل انفراجة حقيقية، فطوال الوقت تطرح الحلول والعراقيل في آن واحد لنصل إلى محطة الجمود، وكل تقدم في إحدى النقاط العالقة يقابل بمحاولة طرح جديدة في دوامة تعكس مدى تعقد الأزمة".
واستطرد عليبة "في الفترة الأخيرة، كان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح صرح في شأن وضع مجلس الدولة بمسار العملية السياسية مستقبلاً، بأنه سيكون مجلساً استشارياً، على رغم أن هذه النقطة تم حلها في السابق بين الأطراف الليبية وفق تصريحات سابقة لخالد المشري، أكد فيها أن مجلس الدولة سيتحول إلى مجلس شورى مقره بنغازي في الشرق، على أن يتم انتخابه بنظام القائمة، الأمر الذي يعكس في النهاية تحول الملفات الليبية إلى دوامة مفتوحة طوال الوقت على احتمالات الرجوع إلى نقطة الصفر".
في الاتجاه ذاته، يقول المتحدث باسم مبادرة القوى الوطنية الليبية محمد شوبار، إن "الخلافات بين الأجسام السياسية في ليبيا هي فقط تبادل للأدوار من أجل إطالة أمد الأزمة، وما سيفاقمها هو بعض الأدوار السلبية التي تلعبها أطراف خارجية أحياناً، مما قاد إلى حال الجمود والانسداد السياسي التي وصلنا إليها".
وعن مستقبل التفاهمات التي قادتها القاهرة، يقول الكاتب الصحافي الليبي حسين مفتاح إن "مصر بذلت جهوداً ليست جديدة لجمع الفرقاء الليبيين، لكن تبقى هذه اللقاءات مجرد محاولات، لأن المشكلة الحالية لا أعتقد بأنها تتوقف على رؤساء الأجسام السياسية في المشهد الليبي بدليل أن الاتفاقات بينهم غالباً ما يتم نقدها والتخلي عنها".
وتابع "حال التقارب والمناخ الإيجابي اللذان سادا لقاءات القاهرة لا يعبران عن الوضع الحقيقي الحاكم للمشهد الليبي، إذ بقيت النقاط الخلافية الأساسية بين الفرقاء من دون حل أو حتى تلميح في شأن قرب حلحلتها".
بحسب مفتاح، "على رغم التفاؤل الحذر في شأن تلك اللقاءات، فإنها تبقى مهمة لتوفير المناخ الإيجابي في الأقل بين الأطراف الليبية للحوار بشكل مباشر، الأمر الذي كان صعباً في فترات سابقة من عمر الأزمة"، وأشار إلى أن الظروف الدولية والإقليمية لا يبدو أنها تهيئ لأية حلحلة مرجحة للملف الليبي المأزوم في الوقت الراهن".
بعد وقف إطلاق النار في ليبيا عام 2020، وافقت الأطراف المتحاربة على إجراء انتخابات في ديسمبر (كانون الأول) 2021 وشكلت حكومة وحدة وطنية جديدة كان من المفترض أن تعيد توحيد المؤسسات الوطنية المنقسمة، لكن العملية الانتخابية انهارت وسط خلافات في شأن القواعد، وجاء ذلك في ظل استمرار تفاقم الانقسام في ليبيا مع وجود حكومتين متنافستين، الأولى في طرابلس انبثقت من اتفاق سياسي قبل نحو عامين ويرأسها عبدالحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، والثانية برئاسة فتحي باشاغا التي عينها البرلمان في فبراير (شباط) الماضي وتتخذ من سرت (وسط) مقراً موقتاً لها.