Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عباس بيضون: ما زلنا نبحث عن الشعر الذي لا حدود له

الشاعر الباحث عن العلاقة الخفية بين الواقعي والماوراء وجد في الرواية مكوناً آخر

الشاعر والروائي عباس بيضون في جلسة مقهى (صفحة الكاتب - فيسبوك)

لا يزال الشاعر اللبناني عباس بيضون (1945)، في أوج عطائه الشعري والنثري، بعدما جاوزت تجربته الإبداعية 40 عاماً، وقد صدر له حديثاً ديوان جديد بعنوان "كلمة أكبر من بيت" ورواية عنوانها "حائط خامس" (دار نوفل)، وأعيدت كذلك طباعة قصيدته الملحمية "صور" التي تعد من أوائل أعماله الشعرية (دار). وفي مجموع اعمال بيضون 14 ديواناً وتسع روايات، عطفاً على عدد كبير من المقالات والدراسات والنصوص. فالشاعر عمل عقوداً في الصحافة الثقافية، وترأس لسنوات القسم الثقافي في جريدة "السفير" اللبنانية.  وترجمت كتب له إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها. وهو من أبرز رواد قصيدة النثر العربية والشعر الحديث. يجيب عباس بيضون في هذا الحوار، عن أسئلتنا عن تجربته الشعرية بمراحلها المختلفة، إضافة إلى تجربته في الكتابة الروائية.

الشغف بالشعر

لدى سؤالنا الشاعر عن منبع الشغف بالشعر لديه، أيكون من التعليم، أو من الثقافة المبكرة أو غير ذلك، يجيب: "لا أعرف إذا كان من الممكن أن نتحدث عن شغف بالشعر. أظن أن كل مثقف عربي أو كاتب عربي يحمل هذا الشغف، إن صلتنا بالتراث العربي بلغتنا العربية هي صلة غالباً ما تتعلق بالشعر وترتبط به، ولدت في بيت لأب كاتب وليس شاعراً، مع أن كل كتاب تلك الآونة في الجنوب كانوا على نحو ما شعراء. وفي المقابل، كان الناثرون قلائل، وربما غير موجودين، وبهذا المعنى، كان الجميع شعراء. ومع ذلك كان الشعر حاضراً في منزلنا، عبر المكتبة الزاخرة بدواوين الشعراء العرب. وكنا ما أن نفتح أعيننا حتى نبدأ بقراءة الشذرات من أبي نواس والمتنبي وغيرهما. كان الشعر شيئاً من مؤونتنا البيتية. كان الوالد مدرساَ، وأظن أنني بدأت في تذوق الشعر العربي وقراءته مع عدد من الأصحاب، وكنا نتداوله في ما بيننا، ويتلوه كل منا على الآخر في جلسات مخصوصة".

وإذ علقنا على ذلك، سألناه عما إذا كان تذوق الشعر لديه بالقراءة والتمرس معاَ، فأجاب: "إي نعم. أنا لم أبدأ شاعراً في فتوتي. حاولتُ كتابة المقالات، في البداية، وكتبتُ كثيراً من القصص القصيرة. ومع ذلك، وجدتني، في مرحلة ما أقرب إلى الشعر منه إلى أي نوع آخر. ولا أعرف متى بالتحديد، تسلل الشعر إلى حياتي".

قصيدة "صور" والبحر

وبالانتقال إلى حديثنا عن قصيدة "صور" التي أعيد طبعها، سألناه عما إذا كان يراها إعلان وداع لماض، أو مدحاً لمدينة شهدت تفتح كيانه على مكان مديني أول، يقول: " لا أعرف كيف واتتني هذه القصيدة، نهاية عشرينياتي، وأنا في قرية بنت جبيل، وكيف جسدت إقبالي على الشعر من دون قصد مني ولا سابق تصميم. في ما يشبه الإلهام. أما صور، فأنا ابنها، ابن صور، وإن كنتُ مولوداً في بنت جبيل حيث كان أبي مدرساً، وقد شغفت بها منذ نزولي إليها مع عائلتي بعمر التاسعة، وأقمت فيها حتى الخمسين من عمري، ولكن من دون أن أحسم صوريتي. ذلك أنني كنت صورياً بالنشأة وليس بالانتماء المكاني. ولما بعدت عنها صرت صورياً شغوفاً بها، ومتحمساً لها. ويمكن القول إنني حين كتبت قصيدة "صور"، كان البحر حاضراً بقوة في وجداني وخيالي، ولم تكن المدينة حاضرة لي. والغريب أنني كتبت مقطع المدينة "صور" بأسلوب مختلف عنه في كتابة مقطع "البحر". وهذا ما لا يسعني التقرير فيه، بل هو متروك لاشتغال النقاد ".

الثلاثية والتجربة الشعرية والإلهام

وإذ سألناه عن المجموعات الثلاث، "زوار الشتوة الأولى"، و"صيد الأمثال"، و"مدافن زجاجية"، وعما إذا كان يعدها تجربة شعرية كاملة، وعما بقي منها، وكذلك عن هذا التوازن والتضاد بين المقدس واليومي لديه في هذه الثلاثية، يوضح قائلاً: "هذه ثلاثية بحكم الطبعة التي نزلت فيها، ولكن لا أجد آصرة واضحة بين المجموعات الثلاث التي تكونها. لكل مجموعة صوتها الخاص. لا أريد أن أكون ناقد نفسي. أقول إن المشروع الشعري الذي وجد في "صيد الأمثال" أو في "زوار الشتوة الأولى" لم يكن واحداً. وأظن أنني كنت لا أزال أتابع أصداء مجموعتي الأولى "الوقت بجرعات كبيرة" لما كنت أكتب "صيد الأمثال". ذلك أني كنت قد توقفت طويلاً عن كتابة الشعر، بعد انتهائي من قصيدة صور. ولم أكن واعياً السبب في ذلك، وقد تزامن توقفي عن الكتابة مع اندلاع الحرب الأهلية التي جعلت مشروعي المستفاد من قصيدة "صور" الاحتفالية مستحيلاً. الحرب الأهلية جعلت الفضاء الذي كنا نحيا فيه أضيق بكثير، وقلصت إقامة الكائن إلى غرف ضيقة، بل إلى الحمامات، والمطابخ. في حين أن الزمن تحول إلى دقائق، ولحظات محدودة، بات معها الكائن عاجزاً عن أي شيء، فكيف الشعر. وبقيت سنوات لا أكتب. وخلالها كنت منشغلاً بأغراض أخرى، مثل السياسة، ومتابعة الفنون، وغيرها. ولكن كان واضحاً لي أنه لن يسعني مواصلة كتابة الشعر من حيث تركته. ولما كنت لا أجد لغة لي، أو مخيلة، أو عالماً خاصاً بي، أدركني العجز. وبقيت سنوات أبحث عن هذه اللغة، إلى أن وقعت على شاعر يوناني هو يانيس ريتسوس (1909-1991) كانت قصائده إلهاماً حقيقياً لي. ذلك أن قصائده كانت تجمع بين الدقائق والأمور الصغيرة والجزئيات، وبين الملحمة والسردية الواسعة، وتصل الزمن الآني بالزمن الكوني في آن. قرأت ريتسوس وغيره من الشعراء، فشكلت تلك القراءات جواباً لي عما كنت بحثت عنه. وبدأت من حيث بدأ ريتسوس، أعني من الحرب الأهلية. فكانت مجموعة "الوقت بجرعات كبيرة" تتويجاً لهذا الاكتشاف والتأثر، إذ ضمت قصائد هي عبارة عن يوميات الحرب، ومقطعاتها، إلى جانب مرثية لرفيق لي قتل في زمن الحرب".

أسطورة الذات المتجددة

ولدى سؤاله عن مجموعته التالية "حجرات"، وعن مدى اعتبارها عوداً على أسطورة الذات، أي الولادة، وصورة الأم، والبيت، في لوحة هائلة تختلط فيها الألوان، والعناصر، والكائنات الطفولية، وتنطوي على مناخ مثقل بدراما مجهولة، أو مخبوءة دوماً، أجابنا:

"بالنسبة إلي كان ديوان "حجرات" في أصله سعياً للنفاذ إلى حياتي الخاصة، إلى سيرتي. كان حتى في تفاصيله عودة إلى هذه السيرة. وفيها نعثر على أبي، وأمي، وشقيقتي، وهي كما قيل قصيدة لما قبل السيرة، إذ تجد فيها مقاطع ترد القارئ إلى أمكنة وأزمنة سبقت ولادتي. وأظن أننا في كل مرة نعود فيها إلى حياتنا الخاصة نبني أسطورتنا. هذه العودات حصلت مرات عدة في القصائد، وفي "مدافن زجاجية" وغيرها".

عبث تعريف الشعر

ولما عاودنا تذكير الشاعر بقول له في إحدى المناسبات "إن الشعر لم يبدأ بعد". وسألناه عما يعنيه بذلك، أجابنا قائلاً: "قلت ذلك أثناء محاضرة ألقيتها في الجامعة الأميركية، وكنت أقتبس بعض هذا القول من الفيلسوف هايدغر، حين قال إن الفلسفة لم تبدأ بعد، ليعني بها أن لا حدود للفلسفة، ومن العبث تحجيمها أو الانتهاء من قولها أو نمذجتها. ومن القبيل عينه، يمكن القول إننا لا نستطيع أن نجد للشعر نموذجاً تاماً له. كما أننا لا يسعنا القول بأننا بلغنا تمام الشعر. إنما جل ما نستطيعه هو البحث عن الشعر، وافتراض الشعر."

ثم سألنا الشاعر بيضون عما إذا كان يحاول تأثيث عالم شعري بين داخل وخارج في مجموعته "أشقاء ندمنا" و"الغريب والمانيكان" (1993). في حين أنه في مجموعته "بريد الخطوات" يضمر عذاباً متوارياً، فأجاب: "هذا الكلام كناقد وقارىْ لا أزيد عليه. ولطالما أسعدتني قراءتك. أنت تتكلم كشاعر، وكشاعر تلامس النص. وهذا ما أتبناه وأتلقاه كحياة ثانية لشعري".

وحين أشرنا إلى بيضون أن في شعره خلطة لا يدرك القارئ العادي مصدرها، أي خلط الصورة الواقعية جداً، مع الشعور الدقيق جداً والمفارِق، وأضفنا سؤالاً عما إذا تقصد يوماً النظر في أسلوبه الشعري كناقد، ليدرك مقدار التجاوز الحاصل لديه في مستوى الصور الشعرية، على سبيل المثال لا الحصر، فقال: "لا أستطيع أن أكون قارئاً لنفسي. في ما أقرأه من شعر أبحث عن هذه الخلطة، هذه القدرة على المزاوجة بين الجزئي والآني وبين الكوني والميتافيزيقي، وأرى أن الشاعر حين يستطيع أن يقول ذلك يكون قد وجد نفسه".

مساءلة الفن التشكيلي

قلنا للشاعر إننا وجدنا في مجموعته "لمريض هو الأمل" مساءلة للفن والإبداع، عبر مخاطبته شخصيات مثل رامبو، وفيرمير، وغيرهما، ومن خلال "نقوش، وإطلالة منها إلى الشعر، وسألناه عن مدى إفادته من المساءلة والإطلالة هاتين، فقال: "علاقة الشعر عندي بالفنون، تكاد تتوقف على الفن التشكيلي. نعم، لما باشرت كتابة هذه المجموعة كنت أتابع الفن التشكيلي، ألاحقه، وأسعى إلى تبين نقاط التلاقي بينه وبين الشعر. أظن أن علاقتي بالفن التشكيلي المعاصر قريبة جداً ووثيقة الصلة بعلاقتي بالشعر، وإن كنت لم أجد ترجمة كلامية للصلة بين الاثنين. لا أريد أن أنظر لهذه الصلة ولا أن أتكلم عن العلاقة بين الشعر والموسيقى والرسم. أظن أن الشعر يصنع في اللغة ما قد يصنعه الرسم. إذ إن كليهما يبحث عما تحت المعنى والفكرة المتوارية وتحت النظرة، أي إن كليهما يخرج من المضمر ومن المتواري".

فائدة النقد

ولما سألناه عما إذا كان فكر في ماهية الجمالية المضادة، وفي تعريف الشعر ونقيضه، أوضح: "أنا فعلت ذلك كثيراً أو قليلاً، ولكن على طريقتي. ذلك أن التفكير في الشعر جزء من الكتابة الشعرية، حين نحول الفكرة إلى شعر. أما أن ننظر في الشعر ونعرفه، ففي كل قصيدة كبيرة تعريف للشعر. ولكن فيما نعرف الشعر نبتعد عنه، نظلمه، ونجعله أكثر ابتعاداً".

سألته: هل يعني هذا أن لا فائدة من النقد الذي يصف الشعر، فأجابنا: "لا. النقد هو تفكير في النص الشعري، لا بد منه. وليس عملاً طفيلياً، وحين نقرأ نقداً جدياً لا نقرأ على هامش النص الشعري، وإنما نقرأ ما هو في صميم النص، يساعدنا النقد على أن نصبح قراء، وبهذا المعنى يساعدنا على أن نصبح شعراء، النقد يواصل عمل الشعر".

الشعر سجل للجسد

يبدو بيضون كأنه يجعل الشعر أحياناً سجلاً كاملاً للجسد، بحسب ما ورد في مجموعته "الحياة تحت الصفر": "لنتركِ الجسد يتابع الثرثرة المستمرة في داخله/ نتركها تتكدس في نفسها/ إنها تتجه نزولاً/ ولا شيء سوى غرق على غرق/ سوى حياة سفلية".  يقول في هذا الصدد: "لا أوافق فحسب على هذا التوصيف، وإنما أتبناه أيضاً. أظن أن ما أردته من الشعر أحياناً هو هذا تماماً، أن يقوم بهذا التجسيد، أن يجد مواءمة كاملة بين الحسي والميتافيزيقي، بين الجسد وما بعده. أريد من شعري أن يكون جسدياً، أن تكون الصورة جسدية أو شبه جسدية"

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولما سألناه بم يرد على الحملات ضد قصيدة النثر، والقول بأن الأخيرة تحتاج دوماً إلى تسويغ نقدي، أجاب: "أعتبر قصيدة النثر نوعاً آخر بين الأنواع الأدبية. إنها ليست شعراً وليست نثراً. ليست شعراً خالصاً وليست نثراً خالصاً. ليست إيجاباً، وليست غناءً، وليست احتفالاً وتحفيزاً، كما يمكن أن نتكلم عن الشعر التقليدي. يتحول الشعر، في قصيدة النثر إلى مرثية، إلى هزيمة، إلى نفي".

وإذ بلغنا أحدث مجموعات الشاعر عباس بيضون الشعرية (2022) "كلمة أكبر من بيت"، وسألناه عما إذا كان اختار استراتيجية جديدة في الكتابة، أسميناها "تصغير دائرة النظر" إلى الأشياء، والمشاهد، والمناسبات، والأشخاص، مع قدر من التعب في النظر إلى الوراء، يوضح قائلاً: "أرحب بهذه القراءة، فهي تناسب مرجوي ومطلبي من هذا الكتاب. ذلك أن قصائده قصيرة، مقطعية. أنا شاعر كنت أكتب مطولات، أناشيد، عادة. هذه المرة اراني مكتفياً بنظرات. أكتب قصائد قصيرة، هي عبارة عن نظرة واحدة إلى الأمام، وإلى الوراء. بهذه القصائد سعيت لأن يكون الشعر لمحات، أو نجد جملة شعرية واحدة. وهذا صحيح. لقد قرأتَ جيداً".

تجربة الشاعر الروائية

ولدى الانتقال إلى كتابة عباس بيضون الروائية، سألناه عما إذا كانت "مرايا فرنكشتاين" أولى ثمار تجربته السردية، فقال: "في الحقيقة كانت "مرايا فرنكشتاين" عبارة عن عودات سردية وسيرية إلى ماضي ذات هي أنا، وإن تكن هذه التمرئيات غير متناسقة ومرتبة زمنياً. عودة إلى شبابي الأول، وطفولتي، ومن ثم الركون إلى حاضر ملتبس. ويمكن اعتبارها أحد أشكال الرواية".

ثم أشرنا إلى روايته "ألبوم الخسارة"، وسألناه عما يقول بشأنها، فأجاب: "طبعاً هي رواية، وإن تكن عبارة عن يوميات شخص يعيش مع ابنته وهرها العجوز، التي تعاين احتضاره وموته. وفي هذه الرواية عناصر أو بعض من عناصر السيرة".

 بين السياسة والسيرة

ولما وصفنا له روايته "ساعة التخلي" واعتبرناها أولى الروايات التي تعالج صعود نجم الأحزاب الإسلامية المتطرفة بعيد اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت، وطلبنا رأيه في ما وصفنا، قال: "أوافق على أني استخدمت فيها كل خبرتي ومعرفتي بالأحزاب السياسية السابقة، إضافة إلى تأليفي شخصيات نموذجية تحمل في ذاتها هوساً أو ميولاً مخالفة للواقع والمألوف، مثل نديم السيد، وبيار مدوَر، وفواز أسعد، وغيرهم".

أما عن رواية "خريف البراءة" التي نال بفضلها جائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2016، والتي تحكي عن صعود الأحزاب المتطرفة، في تسعينيات القرن الماضي، ويفضح الكاتب فيها خواء الأجواء الحزبية اليسارية والفلسطينية، ويسلط الضوء على التطرف الديني، متمثلاً بشخصية "مسعود" القاتل ابنه المنفتح غسان، رد بيضون قائلاً:  "لا يسعني أن أضيف الكثير، سوى أن الروايات الأخيرة السابقة وهذه، صارت السيرة فيها المكون الأقل حضوراً، في مقابل تنامي المكونات السردية والتأليفية وغلبتها على ما عداها. ويمكن القول نفسه عن رواية "الشافيات" التي تشكل الشخصيات النسائية مثل الحاجة هدية، وسلمى، وكاميليا، وليلى الريس... محوراً لها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة