إيزيس، هي بطلة أسطورة نشأت في مصر القديمة، وامتد تأثيرها إلى أنحاء مختلفة من العالم، من آلاف السنين وحتى الوقت الراهن، متجاوزاً طابعها الديني الأصلي، لتتجلى في الفنون والآداب في ثقافات شتى، بما في ذلك الثقافة العربية، وتحديداً في شخصية شهرزاد، ساردة حكايات "ألف ليلة وليلة" وبطلتها، علماً أن بعض تلك الحكايات يتمحور حول نساء يحملن بعض صفات إيزيس الأسطورية، مثل حكاية "أنس الوجود" وبطلتها "الورد في الأكمام". وورد ذكر أسطورة إيزيس وأوزوريس وابنهما حورس، للمرة الأولى، في "متون الأهرام" التي تعتبر أول النصوص الجنائزية المصرية القديمة التي ظهرت على جدران غرف الدفن في الأهرام بنهاية الأسرة الخامسة خلال القرن الـ24 قبل الميلاد. وتحتوي هذه "المتون" على أفكار من المفترض أن تاريخها يرجع إلى عهود سابقة. وبمرور السنين استطاعت "إيزيس" أن تصنع لنفسها مكانة تفردت بها ليس في مصر القديمة وحسب، بل في العالم كله، منذ القدم وإلى ما شاء الله، مقارنة بالضلعين الآخرين للأسطورة، وهما الزوج أوزوريس والابن حورس.
ويلاحظ أن الطابع الديني، لأسطورة إيزيس، الذي خفت حضوره بظهور المسيحية، عاد ليأخذ شكل عبادة سرية تمارسها طائفة تأسست في الغرب ويحج المنتمون لها إلى مصر، لممارسة طقوسهم، خصوصاً في محيط أهرام الجيزة. وبحسب أستاذة تاريخ الأديان فرانسواز دونون كانت "إيزيس" أو "إيسة" أو "أوسة"، أهم الرموز المصرية العظيمة، فقد شغف بها الفلاسفة والنحاتون والفلاحون ورجال الدين والعبيد، كرمز للأمومة والعطاء، قبل أن يحيطها الغرب برمزية فاقت حدود الأسطورة الأصلية. وتذكر دونون، الأستاذة الفخرية في جامعة مارك – بلوش في ستراسبورغ، في كتابها "إيزيس أم الآلهة" Isis mere des dieux الذي صدر حديثاً عن المركز القومي المصري للترجمة (بترجمة عبلة عبدالرزاق وتقديم ومراجعة خالد عريب)، أن الأساطير القديمة تذكرها باعتبارها الأم المقدسة، ولكن لم تعطها دوراً جوهرياً، ومن هنا يحق السؤال: كيف حظيت ذات المعبد المتواضع (في البدايات)، بالشهرة لتصبح الوجه النموذجي في مختلف أقطار مصر القديمة، قبل أن تجوب أرجاء العالم الهلينستي والروماني؟ وكيف استبدل وجه إيزيس الأمومي في الأصل ليصير في ما بعد رمزاً للقوة في العالم كله مع احتفاظه برمزية الأم الحنون وملاذ كل مكروب؟
الأم العظيمة
حملت إيزيس ألقاباً كثيرة، فهي "الأم العظيمة"، "أم الإله"، "سيدة السحر"، "مانحة القانون"، "مصدر الحظ الحسن"، "حامية ميناء الإسكندرية"، "ربة الفنار". حتى إن بعضهم يعتقد أن التمثال الذي كان يعلو فنار الإسكندرية المندثر، كان لإيزيس. وفي العصر الروماني كانت إيزيس هي محور العناصر المصورة على العملات المصرية. أما في العصر المسيحي فقد مزج الفنان بينها وبين السيدة العذراء، فكلتاهما رمز للإخلاص والعطاء بلا حدود. وفي العصور الوسطى كانت إيزيس المثال الذي يحتذيه الفنانون في أعمالهم النحتية أو النقوش أو حتى كتابة الأوبرا. وفي مدينة ممفيس التي تأسست سنة 2200 قبل الميلاد، وكانت عاصمة أول مملكة في مصر السفلى، وصارت عاصمة لمصر القديمة الموحدة لسنوات طويلة، عثر على لوحة حجرية منقوش عليها مقولات منسوبة إلى إيزيس، منها: "أنا التي لقبتني النساء بالإلهة، وأنا التي علمت الرجال كيف يبجلونهن، وأمرتهم بتدليلهن. أنا سيدة الأنهار والرياح والبحر، أنا سيدة الأمطار، تجدونني داخل أشعة الشمس". ومعروف أن ممفيس أو منف، وجبانتها، تعتبر من مواقع التراث العالمي المشمولة بحماية اليونيسكو، منذ سنة 1979.
من منف إلى روما
في غضون الألفية الأولى قبل الميلاد اقترنت عبادة إيزيس بأسماء بعض الآلهة الأخرى، وعلى الأرجح أنها انتشرت في جميع أنحاء مصر. وبحسب كتاب فرانسواز دانون، فإنه تم العثور على "وثائق" في نواح متفرقة من إيطاليا، تدل على مكانة إيزيس لدى الرومان الذين شيدوا لها معابد تركزت حول روما وكامباني. وتضيف دانون أن "الديانة الإيزيسية" تأصلت بامتداد الساحل مع تغلغل بسيط داخل البلاد وبخاصة في العصر الإمبراطوري. وحظي حضور إيزيس في اليونان بأهمية خاصة في بيوتيه وأتيك وبلوبونيز، وكانت البداية في المدن ذات المرافئ. ومن هناك يرجح انتقال الاهتمام بإيزيس إلى إسبانيا. وفي أفريقيا توجد أماكن مهمة لتلك الديانة. وجاء انتشار الإيزيسية في بلاد الغال والجرمان وبريطانيا، نتيجة مباشرة للاحتلال الروماني، والمحاور التي تغلغلت منها هذه الديانة تطابقت مع الطرق التجارية والعسكرية. أما إقليم بريتان فلم يتأثر كثيراً لبعده. وفي أقاليم الدانوب ارتبط وجود هذه الديانة بخطوط سير الجيوش الرومانية.
نرفال وفلوبير
في النصف الثاني من القرن الـ19، استحوذت إيزيس على فكر الأديب الفرنسي جيرار دو نرفال Gerard de Nerval (1808 -1855) حتى باتت محور شعره ونثره، فأتى بوجوه أنثوية فاتنة، على رغم حزنها وغرابة أطوارها، وكلها تصب في الفكرة نفسها المسيطرة عليه وهي الأم التي افتقدها وكاد يعثر عليها ليبوح لها بحبه، بحسب ما لاحظته دونون. وحتى في أحلام اليقظة كانت تظهر له وجوه من أساطير شتى، إلا أن "إيزيس الخالدة" كانت بالنسبة إليه هي "الأم". ويبدو أن بداية هذا الارتباط الحميم ترجع إلى رحلة نرفال إلى الشرق مع صديقه جوستاف فولبير، وقد شملت مناطق عدة في مصر. وفي روايته "أوريليا"، نجد انعكاس الهلاوس التي احتجز نرفال بسببها في مصحة، وهنا كانت ذروة أهمية دور إيزيس في حياته فكتب: "في لحظة حزن ورعب عدت بذاكرتي إلى إيزيس الخالدة الأم والزوجة المقدسة، وكل ما تبتغيه نفسي وصلواتي قد اختلط باسمها السحري، وشعرت كما لو أنني أحيا بها، وأحياناً كنت أشاهدها في هيئة فينوس القديمة، وأحياناً أخرى في هيئة السيدة العذراء". وفي إحدى رؤياه ظهرت له قائلة: "أنا قرينة العذراء، مثل أمك التي أحببتها طيلة حياتك في شتى صورها...". وقد واكبت هذه الرؤية أشد فترات معاناة نرفال من حمى الهذيان، وكل ما مر به من محن إنما ينبئ عن ما وعدته به إيزيس. فإيزيس بالنسبة إليه - تقول دونون - كانت إلهة الأسرار التي أنارت تقاليدها القرن الـ18.
ظلت إيزيس تلهم الرومانسيين في فرنسا، إلى أن اختلف الوضع في النصف الثاني من القرن الـ19، حين نشر فلوبير عام 1874 قصته عن تجربة القديس أنطونيوس، وفيها صورت إيزيس وهي تحمل طفلاً صغيراً بين ذراعيها لترضعه، ومع نهاية القرن نفسه أصبحت ذريعة لتطور فضول المولعين بنمط من الفلكلور المتمصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأصبحت إيزيس محور التأملات الفكرية التي ولدت مع نهاية العصور الوسطى، استناداً إلى النصوص القديمة التي اتسمت ترجمتها بلمحة أفلاطونية ومسيحية. وهناك موضوعان اشتبكا، فأخرجا هذه الصورة التي استمرت طوال القرنين الـ 18 والـ 19 وهما "الأم العالمية"، و"الحكيمة العليمة" التي اقترنت بوجه إيزيس المصرية في العصر المتأخر. وجاءت ترجمة إيزيس بالأرض – الأم تصويراً بليغاً لصورة الأم الرائعة، التي توافق ظهورها مع العذراء في نهاية العصور الوسطى وحتى القرن الـ18.
وتذهب دونون – استناداً لمراجع محددة - إلى أن إيزيس "كانت إلهة الفرنسيين القدامى". ويقال - بحسب الكتاب - إن كنيسة نوتردام باريس، شيدت على أطلال معبد لإيزيس. فقد جاء في كتاب "الروح الدينية" لبونيفيل الذي نشر عام 1791 أن إيزيس كان لها معبد بالقرب من باريس في (إيسي لو مواينو) واسمها مطابق لاسم المسيح. أما شارل فرانسوا دوبوي، فكان أكثر تشدداً في إظهار براهينه، فكتب في مؤلفه "أصل العادات" عام 1794 أن إيزيس كانت إلهة الفرنسيين القدامى، الإلهة الوصية على باريس التي حفظ اسمها في هيئة المركب على شعارات النبالة. أما صورة العذراء على بوابة نوتردام باريس، فهي أصلاً صورة إيزيس.