مع استمرار الحرب في أوكرانيا وتشديد الخناق الأوروبي والغربي عموماً على موسكو، بدأت دول أوروبا تخشى من نشاطات تجسس روسية داخل أراضيها، وأدى ذلك إلى حال تصفها موسكو بأنها "هستيرية"، بينما يراها الأوروبيون حذراً زائداً، بعد إلقاء القبض على كثير من الأشخاص ذوي الأصول الروسية، لأنهم يطيرون مسيّرات (درون) مثل تلك التي يستخدمها هواة التصوير الجوي.
ومع أنه في بعض الحالات تجزم السلطات بأن من يلقى القبض عليهم يكون من باب الشك في أنهم جواسيس، إلا أن كثيراً منها ليست سوى شكوك غير مؤكدة، حتى إن الشرطة النرويجية بدأت تعيد النظر في أحداث سابقة لمعرفة إن كانت محاولات تخريبية من جانب جواسيس لروسيا.
وكانت حادثة الباحث الزائر في جامعة "ترومسو" التي تقع بالدارة القطبية شمال النرويج مفاجأة للجميع، جعلت دائرة الشك تتسع مع استجابة المواطنين إلى تحذيرات السلطات، إذ أصبحت الشرطة تتلقى اتصالات هائلة من الذين يشاهدون مسيّرات أو يشكون في تصرف أي أجنبي.
وزادت حال الشك في النرويج وكثير من دول أوروبا الغربية في شأن عمليات تجسس روسية، خصوصاً بعد أن اعتقلت الشرطة الباحث بمركز دراسات السلام بجامعة "ترومسون" نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وفتشت مكتبه لتعلن أنه جاسوس روسي واسمه ميخائيل ميكوشين.
جواسيس في كل مكان
وكان ميكوشين التحق كباحث زائر بالجامعة على أنه برازيلي الجنسية، لكنه لا يتحدث اللغة البرتغالية، وعلى غير العادة دفع كل كلف فترة التحاقه بنفسه، وهو أمر غير معتاد في الأوساط الأكاديمية، ونادراً ما تحدث عن أبحاثه التي يشارك فيها بالمركز التابع للجامعة الذي تدور أعماله حول القضايا الأمنية والنزاعات.
ولم ينتبه أحد إلى كل تلك الإشارات حتى جاءت الشرطة لتفتيش مكتبه في الـ 24 من أكتوبر، وبحسب تقرير مطول في صحيفة "نيويورك تايمز"، قالت رئيسة مركز دراسات السلام بالجامعة مارسيلا دوغلاس إنها "أصبحت بعد الحادثة ترى جواسيس في كل مكان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ميخائيل ميكوشين هو واحد من ثلاثة ألقي القبض عليهم أخيراً في دول أوروبية بتهم أنهم "غير شرعيين"، أي جواسيس غير تقليديين يتم زرعهم داخل مجتمع ما للتجسس طويل الأمد أو لتجنيد المخبرين.
وفي يونيو (حزيران) الماضي ألقي القبض على متدرب بالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا بتهمة التجسس لمصلحة روسيا، وكان يحمل أيضاً جواز سفر برازيلياً، كما ألقت الشرطة في السويد أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي القبض على زوجين بتهمة التجسس.
وفي ألمانيا شكت السلطات في مسيّرات فوق مواقع عسكرية يتم تدريب القوات الأوكرانية فيها بأنها عمليات تجسس روسية، وحتى في فرنسا حين حدث عطل في كابلات بحرية، وعلى رغم أنه لم يكن بسبب عمل مقصود، ثارت الشكوك حول عمليات قرصنة لشبكات توزيع الوقود في بلجيكا وألمانيا أيضاً، وأصبح من الصعب فصل القلق المنطقي والحذر المتأهب عن جنون الشك المرضي في أنحاء أوروبا، كما تقول الصحيفة الأميركية، ولا يمكن ربط كثير من عمليات الاعتقال لمشتبه فيهم بموسكو، لكن السلطات في دول أوروبا تتوسع في الاشتباه إلى حد يخشى معه أنها تنتهك القانون، وهذا ما جعل روسيا تتهم النرويج بالهيستريا بعد اعتقال عدد من الأشخاص لأن لديهم مسيّرات.
قلق النرويج
وإذا كان القلق والحذر الشديدين من عمليات تجسس روسية يجتاح دولاً أوروبية أخرى، فإن النرويج تجد قلقها مبرراً حتى لو بالغت في الشكوك، فبسبب العقوبات الغربية المتتالية توقفت إمدادات الطاقة من موسكو إلى أوروبا، والبديل في الأغلب هو من النرويج التي تعد أكبر مصدر للنفط والغاز إلى دول القارة، كما أن هناك كابلات بحرية قرب سواحلها القطبية تشكل عصب خدمات الإنترنت لمراكز مالية مثل لندن، ولتوصيل صور الأقمار الاصطناعية من القطب الشمالي عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة، وتوجد حدود قطبية مشتركة للنرويج مع روسيا بطول 123 ميلاً (198 كيلومتراً).
وزاد القلق النرويجي بعد حوادث شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، حين تعرض خط أنابيب الغاز البحري بين روسيا وأوروبا للعطب نتيجة تفجيرات في بعض أجزاء منه.
الأستاذ في كلية الدفاع النرويجية توم روزيت قال عن تلك التفجيرات إنها "جرس إنذار، فالحرب ليست في أوكرانيا وحدها، بل إن ذلك يمكن أن يؤثر فينا حتى لو كان من الصعب إثبات علاقته بروسيا".
وأضاف روزيت أنه "خلال السنوات الأخيرة تم طرد عدد من الجواسيس الروس التقليديين، مما جعل موسكو بحاجة إلى تنشيط خلايا نائمة من العملاء لتعويض ذلك، وأيضاً زيادة في النشاط مع طول الحرب في أوكرانيا وتعثر الروس هناك".
وأشار أستاذ العلوم الدفاعية إلى أنه "مع الضغط الذي تجد موسكو نفسها فيه، فهي تريد من شبكة عملائها في أوروبا أن تساعد، وعلى رغم أن تلك النشاطات موجودة من قبل إلا أنها الآن تحمل أخطاراً أكثر".
وبدأ المحققون في النرويج يعيدون النظر في حوادث سابقة مع شكوك في أنها يمكن أن تكون أعمالاً تخريبية على يد عملاء لروسيا، ومنها على سبيل المثال تضرر كابل بحري ينقل صور الأقمار الاصطناعية إلى محطات الفضاء الغربية تعرض للضرر خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، وكذلك تضرر موقع تخزين للمياه قرب عدد من المواقع العسكرية ليس بعيداً من مدينة ترومسو في الدائرة القطبية من النرويج.
لكن بعض القانونيين يرون أن السلطات النرويجية تبالغ إلى الحد الذي يجعلها على شفا انتهاك القانون، فقد ألقي القبض على سبعة أشخاص روس خلال شهر أكتوبر الماضي لأنهم يستخدمون مسيّرات، وأفرج عن ثلاثة فيما قدم أربعة منهم للمحاكمة، وحكم على اثنين بالسجن ما بين ثلاثة وأربعة أشهر.
ولم يتهم أي من هؤلاء بالجاسوسية أو العمل لمصلحة روسيا، وإنما كانت التهمة استناداً إلى انتهاك العقوبات الأوروبية التي تحظر الطيران الروسي، إذ يفسر الادعاء النرويجي تلك القرارات بأنها تشمل استخدام مسيّرات الهواة أيضاً.