Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قراءة في فلسفة راسل (الحلقة الثالثة)

انتقد سياسة بريطانيا الإمبريالية... ونادى بالاشتراكية كونها حلاً للمشكلات السياسية والاقتصادية

بيرتراند راسل (غيتي)

معارضة التسلُّح النووي
بعدما انتهت الحرب العالميّة الثانيّة (1941-1945)، وما خلَّفته من خرابٍ ودمارٍ هائلين، وضحايا بالملايين في مشارق الأرض ومغاربها، خصوصاً ما جرى في اليابان، عندما ألقت عليها الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين ذريتين، الأولى على هيروشيما، والثانية على ناغاساكي، معلنةً بذلك دخول البشرية في العصر الذري، الذي قفز بسرعة عالية إلى مستوى القوة النووية الأشد فتكاً وهلاكاً، وما صاحبها من تسابق في التسلح النووي، سيما بين القوتين العظميين الولايات المتحدة الأميركية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي.

ومثلما عارض راسل الحرب العالمية الأولى، فإنه استمرّ على موقفه نفسه تجاه الحرب العالمية الأخيرة. ورغم أن هذا المبدأ يعبّر عن صميم فلسفة راسل تجاه الواقع الحياتي للإنسان، فإن الذعر الرهيب من الدمار النووي جعله لا يكتفي بالتنديد والكتابة فقط، بل نزل إلى الشارع، إذ قاد التظاهرات في عاصمة بلاده لندن، لجذب انتباه الناس إلى معارضة التسلح النووي، الذي لا يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الدمار والفناء للبشرية جمعاء.

في كتاب "التعقل والحرب النووية"، (الطبعة الإنجليزية، 1959)، يقول راسل ما يلي: إن "مدى اكتمال الدمار سيكون مسألة مثيرة للجدل، فبعض المتفائلين، الذين يعتقدون أن قسماً قد ينجون من الحرب، ويؤكدون أن ما لا يقل عن 30 في المئة من البشر سوف يُهلكون، وأن مثل هذه الخسارة سوف يعتبرونها مقبولة. لكنني أعتقد أن تصريحات هؤلاء الذين يمتلكون الخبرة، والوقت في وضع تقديرات معقولة، تؤدي إلى استنتاج تشاؤمي أكثر. ومع ذلك، يجب أن نكون واثقين أنه لا يمكن التيقّن في هذا الأمر، إلا بعد وقوع الحدث". (ص 23).

ويرى راسل أن كارثة الحرب النووية ليست محصورة في نسبة الموت الهائلة بين البشر فحسب، بل إن الإشعاعات النووية، لا سيما في عنصر السترونتيوم 90، وعنصر سيزيوم 137، والكاربون 14، وبقية العناصر التي ستعانيها الطبيعة من آثار هذا الدمار، سوف تبقى لآلاف من السنين.

ومن أجل الحيلولة دون اندلاع مثل هذه الحرب، فعلى الحكومات والرأي العام في الشرق (الشيوعي) والغرب (الرأسمالي) أن تشترك في حفظ المصالح، وكل ما هو حيوي في اهتماماتها.

وفي معرض تصوّره للسلام العالمي، ينصّ راسل، على أن تحقيق هذه العملية يكون وفق مراحل معينة، أهمها خطوتان تتعلقان بالحكومات الغربية والشرقية. أولاهما، حث الحكومات على أن أهدافها لا يمكن لها أن تصان بالحرب الواسعة النطاق. وثانيهما، أن يكون فيما بينها "الإخلاص" في المقترحات والمفاوضات، بدلاً من الشك المتبادل بين الأطراف. فالاتفاقات والمعاهدات في حظر السلاح النووي لا تمنع من شن هذه الحرب الخطيرة الدمار.

ما الذي نفعله تجاه العالم؟
في كتاب "هل للإنسان مستقبلٌ؟"، يطرح راسل تصوراته، منها إمكانية "إنشاء حكومة عالميّة"، تحت أي صياغة، شريطة أن يكون هدفها "سلام عالمي". إذ من الممكن لمختلف الدول أن تُسهم فيما بينها في تكوين قوة عسكرية مسلّحة، بغية فرض السلطة العالميّة تجاه النزاعات والأزمات حول العالم.

وكذلك "من المفيد إعطاء مخطط دستوري عالمي، مُصَمَّم خصيصاً للحد من الأخطار، ويكون فيه تحديد المعالم بطبيعة الحال. بالتأكيد، إنه مجرد اقتراح، وليس تكهناً، إذ إن هدفي هو مجرد إظهار أن الدستور العالمي من شأنه أن يمنع إمكانية الحرب". (الطبعة الإنجليزية، 1961، ص 73).   

كما يتساءل راسل، عن العمل الواجب فعله من قِبل الكثيرين حيال هذا العالم، وخدمة كائناته البشرية، إذ يقول: "ما الذي نقدر أن نفعله تجاه هذا العالم الذي نحيا فيه؟".

ويضيف، أن "كثيراً من الرجال والنساء يرغبون في خدمة البشرية، لكن قوتهم تبدو محدودة". إذ إن معظم الناس ليس لديهم تلك الأسئلة العويصة، باستثناء ما يخص المعتقدات والممارسات، التي يجدونها جارية في حياتهم. فالشعور السائد عند الجميع، أن هذا العالم سيكون لهم، ما دام أنهم ليسوا ضده.

وهذه "الفكرة"، حسب رأي راسل، تعتبر ناقصة، لا يمكن التسليم بها، ولا قبلوها براحة أكيدة. فالحكمُ الصحيحُ إنما يكون وفق مبدأين عامين، أولهما: النمو والحيويَّة للفرديات والجمعيات المشتركة، إذ يتوجّب ترقيتها على قدر المستطاع. ثانيهما: النمو لفرديَّة واحدة أو جمعية مشتركة واحدة، ويجب أن تكون بأقل قدر ممكن على حساب الآخر. إذ إن الفرديَّة تستوجب التعامل مع الآخرين وفق مبدأ الاحترام، لأن حياة الآخرين لها الأهمية نفسها، التي نحن نشعر بها في حياتنا.

إن ما يتناوله راسل هنا، طبعاً له صلة متداخلة بمفاهيمه التربوية والاجتماعية والسياسية والاشتراكية. ولذلك تجده يقول عن الحضارة الإنسانية ودور "الولاء" فيها، قد يتغير حسب مبدأ "العقيدة"، التي يحملها الناس بمختلف قضاياهم.

إذ "في المرحلة الأخيرة من تطوّر الحضارة، بدأ نوعٌ جديدٌ من الولاء المنظور، فقد أصبحت قاعدة الولاء ليست ذات صلة في المناطق، بل في هُوية العقيدة... إنها في القوة العسكريّة، التي كانت بارزة أولاً عند الإسلام في فتوحات القرنين السابع والثامن الميلادي، ثم في الحملات الصليبية في الحروب الدينية. وفي القرن السادس عشر الميلادي، فقد صار الولاء اللاهوتي ممهداً نحو ظهور القومية، فالكاثوليك الإنجليز كانوا، في أحوال كثيرة، بجانب الإسبان، الفرنسيون البروتستانت كانوا مع إنجلترا... إن الولاء العصري في زمننا الراهن، رغم أنه واسع النطاق، ويقوم على مبدأ الإرضاء الذاتي، فإنه لا يزال مستعملاً وفق الآلية الإحيائية القديمة". (السلطة والفرد، ص 17-18).

كما يعترف راسل، أن وحدة الحياة والحضارة بين سائر البشر أمرٌ صعبٌ، إن لم يكن هناك موضوعٌ مسيطرٌ، وطموح في جذب العلماء والفنيين، والأصل الديني، والأحاسيس، نحو ما يهدف إليه الإنسان – الفرد في حاجاته وإبداعاته.

فالشخص الذي يصبح صحافياً، على سبيل المثال، محتمل أنه يكتب في جريدة سياسية هو يكرهها. وعليه، فإن ذلك سوف يقتل طموحه في العمل، وفي حسّه المستقل. وبذلك يوجب أن يكون "مبدأ الإنماء" بأن يمنع الإنسان من تأدية عمل شيء لا يطيقه، ويحثه على عمل شيء آخر ملائم وموافق له. فالأشياء العمليّة تمتص أحياناً النمو، إذا كان نتاج الإحساس عاجزاً في الاتجاهات، التي تكون فيها الحيوية حافزاً في جعل الرغبات فعّالة.

أمَّا عن الحروب التي حدثت في الحياة البشرية، والحضارات الإنسانية، من مبدأ الضم أو التوحيد العالمي، وما يقابلها من النزعة الوطنية المضادة لها، فإن راسل يقول: "الحروب أثبتت وبكل وضوح بأنها لا تقدم ضماناً نحو توحيد الحياة الإنسانية". ولذلك فهو يطالب الحركات الوطنية والعالمية، أن تتجنب (العداء الأعمى)، وأن تتعاون فيما بينها من أجل الوصول إلى عالم أفضل.

تقييم عام
يُعَدّ راسل من الفلاسفة التجريبيين الذين ناصروا المذهب الحسّي، ولذلك فإن نظرية المعرفة عنده ترتكز أصلاً على "المُعطيات الحسيَّة". فالمعرفة اليقينية هي ليست باليقين المطلق، كما عند الفلاسفة العقلانيين أمثال ديكارت وكانت ولايبنتز وآخرين غيرهم، من الذين يجعلون مبادئ العقل الأولية، مثل: الله والروح والرياضيات والهندسة... إلخ من التجريديات هي يقينية ثابتة بالفطرة في عقل الإنسان. إذ إن راسل يجعل اليقين مقترناً حسب الدرجة الممكنة له من الحقيقة. فكلما كانت الدرجة أكبر وأكثر وضوحاً ودقةً، كان اليقين أكثر صدقاً، فلا يصل إليه الشك قط، مثل: القضايا الرياضية والمنطقية، والقضايا الأساسية التي ندركها بالحواس مباشرة في اللون والطعم والرائحة والصوت... إلخ.

ومن هنا، فقد رفض راسل أن يكون هناك أي تمييز بين المُعطيات الحسيَّة، التي يشترك فيها كل البشر، وفعل الإدراك الحسّي الذي يخص الذات الفرديَّة وحدها في عملية الإدراك. وسواء كان هناك تمييزٌ، كما يؤكده بعض الفلاسفة، مثل جورج إدوارد مور (1873-1958) أَم لم يكن، فإن راسل هنا، إنما ينطلق من مبدأ الوصفيَّة في المذهب الحسّي التجريبي.

أمَّا عن الوحدات الأولى والبسيطة، التي لها أسبقية في الوجود على الأجسام، كون أن الأخيرة تتكون من الأولى، فإن هذه الأسبقية يعدّها راسل تحليلية، ولقد جعلها أن تكون زمنية أيضاً، فإنه لم يكلّف نفسه عناء التمييز فيما بينهما.

ثم إن قوله، إن نواة الخبرة العقلية لا يمكن أن توجد في حالتها الخالصة إلا عند الأطفال، وعلى علماء النفس تحديد ماهيتها. فإن راسل، في هذا الصدد، لا يتابع المسألة بحذافيرها، بل يحيل جانباً مهماً فيها إلى علم النفس، الذي لا يقع ضمن دائرة اختصاصه. في حين، كان من المفروض أن يبيّن أكثر حول هذه القضية، التي شخّصها، ثم ترك توضيحها وتحليلها إلى الآخرين.

أضف إلى ذلك، أن فكرة المُعطيات الحسيَّة الخالصة، التي يصلها الفيلسوف، فإنه ليس بالضرورة أن يدركها الطفل بشكل مباشر كما نصَّ راسل، نظراً إلى تركيبة الطفل، التي هي في طور النمو المتواصل. وعليه، فإنه لا يمتلك تلك القدرة على التمييز والتعيين.

ورغم أن راسل تجريبيٌّ النزعة، فإن مسألة العناصر المحايدة، التي تقع بين العقل والمادة، إذ يمكننا أن ندرك مظاهرها دون حقيقتها كونها ماديّة بحتة أو عقلية خالصة، فإن راسل في هذا الخصوص، اقترب من مبدأ كانت القائل: "الشيء في ذاته"، إذ لا يمكننا سبر غور الأشياء. وكذلك اقترب راسل من لايبنتز، في مسألة أسماء الإعلام من حيث الوصول إلى النتيجة نفسها في هذه القضية. فالأخير وصل إلى الإقرار بأن القضايا الحمليَّة هي إخباريَّة تكراريَّة من خلال تفكيره الماورائي، بينما راسل وصل من خلال تفكيره التجريبي.

أمَّا عن الجانب الرياضي والمنطقي في نظرية المعرفة، بلا أدنى شك، قد أبلى راسل بلاءً حسناً، ولِمَ لا وهو ما زال أحد أبرز المناطقة الرياضيين في عصرنا الحالي، وقد أحدث تغييراً كبيراً في هذا الميدان النظري، من نواحٍ علميّة خطيرة، خدمت العلوم الطبيعية وساعدت على تقدمها. لكن علوم المنطق والرياضيات ليست هي وحدها، التي تحوي الحقيقة كلها، فهذا غلوٌ تقديسيٌّ أجبر راسل، فيما بعد، على تغيير بعض من أفكاره المعرفيَّة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا، وإن نظرة راسل تجاه الفلسفة العربية، فيها إجحاف واضح وتقصير لا داعي له. فالعلوم والمعارف لم تكن محصورة فقط في اليونان والهند ليأخذها العرب والمسلمون هكذا، ثم يعكسونها للعالم كمرآة لا جذر فيها، ولا تفاعل. وإذا عذرنا راسل، لأن خاصية مؤلفات ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن خلدون ورهط كثير من أعلام الفلسفة العربية الإسلامية لم تترجم إلى اللغات الأجنبية، فينبغي له، وفي أقل تقدير، أن يكون على دراية بسيطة بما أنتجوا من أفكار ونظريات تخص لبنة تفكيرهم الإنساني المميز.

فالغزالي سبق ديكارت بأربعة قرون في مبدأ الشك إلى اليقين. وابن خلدون سبق فيكو ومنتسكيو في فلسفة التاريخ، و"رسالة الغفران" للمعري واضحة المعالم في "الكوميديا الإلهية" لدانتي، وكذلك المفهوم الذري وقانون الجاذبية عند المعتزلة. بيد أن راسل اتَّبع النظرة التقليدية القائلة إن الفلاسفة المسلمين هم شُرّاح الفلسفة اليونانية. وهذه النظرة التقليدية تُعَبّر عن جزء من الحقيقة، وأُثبت قصورها من قِبل بعض المفكرين الغربيين، مثل جون لويس وغيره.

ثمّة أمر آخر، إن قول راسل إن الكندي هو الفيلسوف العربي الوحيد، ويشير إلى ابن رشد كونه من إسبانيا. فهذا تجنٍّ كبير على نسبة الأصل من ناحية، ومن ناحية أخرى، مغالطة بحق المقدرة العقلية في العلوم النظرية، التي عدّها راسل دون مستوى "المسائل النظرية".

على أي حال، بعد الحرب العالمية الأولى ازدادت اهتمامات راسل بالسياسة، فتحوَّل من أكاديمي نظري إلى ناشط عملي، إذ نقد سياسة بريطانيا، التي تضحي بأرواح رجالها وشبابها من أجل مصالحها الإمبريالية، ونادى بالاشتراكية كونها الحل للمشكلات السياسية، وعلاجاً للقضايا الاقتصادية. إلا أن راسل بالغ عندما جعل الملكية الخاصة تقوم على قوت الناس وسرقتهم، وأن الدولة شر كونها تحمي الملكية الخاصة بالتشريعات، وتدافع عنها بالحروب. ثم إن النقابات التي يبدلها راسل بمؤسسات الدولة، فإنه بالغ أيضاً عندما جعلها أكثر صحة من الاشتراكية نفسها في التطبيق العملي للاقتصاد والسياسة. وهذا يعني أن راسل لم يدقق بالشكل المطلوب في نظرياته بهذا المجال، بقدر ما يطرحه من أفكار مفيدة تقوم أصلاً على دحض الثراء. وهذا طبعاً، ليس حلاً لمشكلات الحياة، التي يكون فيها المال عصباً رئيساً.

أمَّا معارضة راسل التسلُّح النووي، فإنه كان بحق مُعبّراً عن الفزع المهلك للبشرية جمعاء، إبان الحرب الباردة بين القوتين العظميين السوفييتية والأميركية، التي بلغت ذروتها في عهديَّ خروتشوف (1894-1971) وجون كينيدي (1917-1963)، بين أواخر العقد الخامس وأوائل العقد السادس من القرن العشرين.

وعن طرح راسل فكرة "الحكومة العالميّة"، فرغم هدفها تجنّب الأخطار الرهيبة، وتحقيق السلام العالمي، فإنه يجعل من الأفكار العالمية هي الغالبة على النزعة الوطنية، وتفصح عن ميوله، سيما أنه اشتراكيٌّ النزعة، أمضى فترات زمنية في روسيا والهند والصين، ما جعله لا يقف عند حدود "الجنس الأبيض" كونه الأهم في هذا العالم، بل إن الدنيا هي الإنسانيَّة وفقاً للإصلاح الاجتماعي للأمم. وهذا الإصلاح، حسب تصوّره، لا يتحقق بالرغبات، أو وفقاً لهوية العقيدة، إنّما في تجاوز الاختلافات نحو التعاون، وهو أمرٌ شديد الصعوبة وشائك.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء