على رغم تحذير وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر من السماح للصين بأن تصبح قوة مهيمنة، إلا أنه شدد على أن الرئيس الأميركي جو بايدن "يجب أن يكون حذراً من السماح للسياسات المحلية بالتأثير في أهمية فهمه لديمومة الصين". ولم يمل كيسنجر من التكرار في كتبه الأخيرة، ومنها "سنوات التجديد" الذي يضم خلاصة مذكراته، والمقابلات الإعلامية التي أجريت معه من أن "الوضع الجيوسياسي الحالي يتطلب مرونة مثل تلك التي تحلى بها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، للتمكن من نزع فتيل النزاعات بين الولايات المتحدة والصين"، وأن "الصراع بين الولايات المتحدة والصين من الممكن أن يتحول إلى أكبر تحد يواجه البشرية".
جاء هذا التحذير إجمالاً من دون تخصيص لمكان الصراع، والحال هكذ، فإن كان مسرح الصراع هو الشرق الأوسط، فإنه مع استمرار تغير الديناميات السياسية في المنطقة، تكتسب خطوات واشنطن وبكين أهمية أكبر مما هي عليه في أي مكان آخر ومن أي وقت مضى، خصوصاً في ظل المساعي الصينية لتوسيع نفوذها عالمياً عبر وجودها في مناطق العالم المختلفة ذات الأهمية الجيواستراتيجية.
وفي ظل التغيرات الدولية إذ تشهد منطقة الشرق الأوسط وجوداً أميركياً متردداً بين الانسحاب والاستقرار، يطرح عديد من الأسئلة المتعلقة بأي من القوى الدولية يمكنها أن تحل محل الولايات المتحدة في حال انسحابها. ولا يبدو واضحاً ما إذا كانت مواجهة الولايات المتحدة للصين في مناطق أخرى مثل بحر الصين الجنوبي، ستضعف من أثر المواجهة هنا أم ستجعلها تستعر.
يرتكز الصعود الاقتصادي للصين على اعتمادها على الخارج لتأمين موارد النفط والمواد الخام اللازمة للصناعة. وتوجه الصين إلى منطقة الشرق الأوسط بوصفها من أهم مناطق العالم ذات الموارد الاستراتيجية المهمة، أسهم فيه إجادة بكين لاستخدام مزيج من الأدوات الاقتصادية والقوة الناعمة.
ولأن القادة الصينيين اعتمدوا خلال العقود الماضية على الانفتاح المتنامي على المنافسة الدولية عن طريق الواردات والاستثمار لتسريع إعادة الهيكلة والعقلنة في مجال الصناعة والخدمات، فقد نجحت الصين في أن تكون ثاني شريك تجاري للشرق الأوسط بعد الولايات المتحدة.
جنة الانفتاح
قادت الصين انفتاحها على العالم الخارجي بزعامة دينغ شياو بينغ بعد عقدين من "القفزة العظيمة إلى الأمام" التي فرضها ماو تسي تونغ في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وأثبتت فشلها لاعتمادها على العامل البشري غير المؤهل وغير المزود بالتكنولوجيا، مما أدى إلى خسائر في الإنتاجية. أعقبتها "الثورة الثقافية" التي كانت مرحلة صراع عنيف ودموي على السلطة داخل الطبقة الحاكمة، نقلها ماو تسي تونغ إلى الشوارع وانضم إليه آلاف الشباب الذين عرفوا بـ"الجيش الأحمر"، واعتقل خلالها ملايين وقتل مئات الآلاف. كما تضافر عاملان جوهريان أديا إلى ذلك الإخفاق، هما المنافسة مع الاتحاد السوفياتي في التطرف الأيديولوجي الذي رافق المشروع، وقطع الاتحاد السوفياتي مساعداته عن الصين.
يعود لدينغ شياو بينغ الفضل في أن تتبوأ الصين مكانتها الحالية، ففضلاً عن الانتقال بالبلاد من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، تمثلت خلاصة أفكاره الانفتاحية في التوقيع على "معاهدة السلام والصداقة" مع اليابان عام 1978. وفي يناير (كانون الثاني) 1979 زار الولايات المتحدة وأعاد العلاقات معها مواصلاً لمجموعة من الخطوات والأساليب السياسية التي قامت بها واشنطن وبكين في تلك الفترة لإحداث تغيير أساسي في العلاقات الدولية. بدأت بدعوة الفريق القومي الرياضي الأميركي للبينغ بونغ (كرة الطاولة) إلى زيارة بكين، وتمت الزيارة بالفعل في أبريل (نيسان) 1971 وهي ما عرفت بدبلوماسية "البينغ بونغ"، لأنها أنهت القطيعة وأعادت التقارب في العلاقات الأميركية - الصينية، بعد انقطاع طويل.
ثم كانت الزيارة السرية لمستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر إلى بكين في يوليو (تموز) 1971، تحضيراً لزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين وتطبيع العلاقات الصينية – الأميركية التي تمت في فبراير (شباط) 1972.
وكان الانفتاح أداة قوية ساعدت بكين في تنفيذ سياسة التحديث الاقتصادي وتسريع عملية التنمية واستعادة مكانتها الدولية. تبعت الصين هذه السياسة بدخولها منظمة التجارة العالمية في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2001، ثم أصبحت عضواً في اتفاق تجارة الخدمات (الجات)، واتفاق حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة (تريبس)، والتدابير المتعلقة بالاستثمارات المرتبطة بالتجارة (تريمس).
بساط سحري
تقوم الاستراتيجية الصينية في علاقاتها الدولية مع بحثها وتعطشها إلى الطاقة على تجنب مناطق الصراعات، وتشتري أغلب وارداتها النفطية من دول لا يوليها الغرب اهتماماً كبيراً أو ينسحب منها. وكمثال لذلك دخلت الصين السودان للتنقيب عن النفط بعد سنوات قليلة من خروج شركة "شيفرون" الأميركية منه في عام 1984 بسبب اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان، وتبعتها شركات عالمية أخرى، بسبب ضغوط من الإدارة الأميركية، وكذلك في مناطق أخرى مثل أنغولا وفنزويلا وغيرهما، لكن مع طلب الصين المتزايد على النفط، أصبحت تبحث عن مصادر أخرى، فظهرت في منطقة آسيا الوسطى، والشرق الأوسط الذي تصطدم فيه بالولايات المتحدة أكبر مستهلك للنفط في العالم.
بدأت الصين بتوجيه اهتمام كبير نحو الشرق الأوسط من مدخل اقتصادي، لكن مع تزايد الاضطرابات، أصبحت بحاجة إلى تفعيل دور سياسي نشط في المنطقة، قد لا يكون متوائماً مع المبادئ الخمسة التي تعمل بها الدولة الصينية الحديثة منذ نشوئها ويشتمل عليها دستورها، التي جاءت متوافقة مع مبادئ مؤتمر باندونغ الذي عقد في إندونيسيا في أبريل (نيسان) 1955. وعلى رأس هذه المبادئ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها، واحترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جماعية، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل تبني القيادة الصينية لتلك المبادئ قد صاغ توجهاتها، وظلت تمارس سياستها الخارجية بناء على ذلك المؤتمر الآسيوي - الأفريقي، الذي ضم دولاً مستقلة حديثاً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تجمعها قواسم مشتركة، وتحاول فك ارتباطها بأي من المعسكرين الشرقي أو الغربي.
والآن بعد إدراك بكين للتغيرات العالمية، وما تحقق منها على أرض الواقع بالتحول إلى قطبية واحدة، انتقلت سياسة بكين الخارجية إلى الذود عما اعتبرته مناطق نفوذها، فواصلت امتطاء متن بساطها السحري في التنقل بين قارة أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، من أجل حماية تجربة الإصلاح الاقتصادي الذي يرتكز عليه دور الصين المستقبلي داخلياً وفي بر الصين الرئيس وخارجياً.
جاذبية الفرص
ما يقلق واشنطن أن بكين التي ظلت تتمسك بمبدأ "عدم التدخل"، يمكنها أن تتحول عنه وفقاً لجاذبية الفرص الاستثمارية، وعندما كانت تحتفظ بهذا المبدأ في تعاملها مع أفريقيا، ذلك لأن دول القارة السمراء لم تضطرها إلى تغيير استراتيجيتها إذ لم تكن مطالبها تتطلع إلى ما فوق ضرورات التنمية. وفي خضم النزاعات عندما كان "مجلس الأمن الدولي" يفرض قراراته بإيقاع عقوبات على النظم الحاكمة مثلما حدث في حرب دارفور، لم يصر النظام السابق على مطالبة الصين باستخدام حق النقض الدولي (الفيتو)، وكذلك الحال بالنسبة إلى معظم الدول الأفريقية.
وعلى رغم تمكن بكين من الدخول بثقلها في التنقيب عن النفط واستثماره في أفريقيا وأميركا الجنوبية، إلا أنها ظلت غير قادرة على سد حاجتها. ويكاد يكون من المؤكد أن وجود الصين في الشرق الأوسط اليوم أكثر أهمية مما كان عليه من قبل، فهذه المنطقة تمثل الفرصة الذهبية الأخيرة، للحفاظ على معدل النمو الاقتصادي في الصين مرتفعاً بفضل استيراد النفط وممارسة سياسات مرنة للحصول على الطاقة، وزيادة وتيرة التجارة والاستثمار في مجالات أخرى تمتص التذبذب في الطاقة.
علاوة على ذلك يعد الموقع الجغرافي للشرق الأوسط مهماً لمبادرة الصين "الحزام والطريق"، وقد عمقت بكين علاقاتها مع بعض دول المنطقة، وفي مقدمتها السعودية والإمارات العربية المتحدة، وغيرها من دول الخليج. وعلى الجانب الآخر وقعت "اتفاق الشراكة الشاملة" مع إيران العام الماضي لمدة 25 عاماً إذ تضمن أهدافاً طموحة للتعاون. عموماً فإن مصالح بكين الاقتصادية تتوفر في منطقة غرب آسيا، أكثر منها في وسط وشرق آسيا حيث مصالحها الجيوسياسية. وهذا النوع من التعاون العميق مع معظم دول المنطقة، من دون النظر في ما يقتضيه تضارب المصالح يتفق مع توجه بكين لبناء استراتيجية تعاون مستدامة لا يعوقها التنافس ولا العداء بين بعض دول المنطقة، كما لا تحدها تفضيلات دول المنطقة بتعاونها مع الولايات المتحدة.
معادلة النقص
أما ما يقلق بكين فهو المكانة الاقتصادية والعسكرية الأميركية التي تحوز ثقة كبيرة في الشرق الأوسط خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي. وعلى رغم أن هناك تياراً غربياً يروج إلى أن الصين مشغولة بتطوير ترسانتها العسكرية نظراً إلى نفقات العسكرية السنوية للصين، إلا أن ذلك لا يبدو كمعلومات يمكن قياسها والبناء عليها بسبب التكتم الصيني، ولأن بكين لا تحبذ استعراض قوتها في غير منطقة شرق آسيا. وكما توقع استراتيجيون عسكريون أن جيش التحرير الشعبي الصيني يحتاج إلى عقدين من الزمان حتى يلحق بمكانة جيش الولايات المتحدة الحالية، وحينها ستكون أميركا انتقلت بجيشها إلى مراحل أخرى أكثر تقدماً.
ولمعادلة نقصها أمام الإمكانات الأميركية، ولتحقيق نوع من التوازن وإفراد مساحة لها للمنافسة، تعمل الصين على محاور عدة. أولاً طمأنة القوى الدولية والإقليمية على الطابع السلمي لنهوضها الاقتصادي، وثانياً تقود الصين اثنتين من كبرى المنظمات الإقليمية الرائدة هما "منظمة شنغهاي" و"مجموعة تكتل بريكس"، بغرض الاستغناء عن المنظمات الدولية التي ترى وأعضاء المنظمتين أنها تفرض شروطاً مجحفة عليها، ثالثاً بدأت الصين في انتقالها من "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول" إلى انتهاج "سياسة التدخل"، باستثمار بعض النزاعات في منطقة الشرق الأوسط ومواجهة قرارات دولية باستخدام "الفيتو" لكسب مواقع في المنطقة مثلما حدث خلال الأزمة السورية.
بين الاحتواء والعداء
من المحتمل حدوث مواجهة بين العملاقين المتعطشين للنفط، الولايات المتحدة والصين على أرض الشرق الأوسط، قد لا تتعدى نشوب عديد من الخلافات بينهما. وما أسفرت عنه تحركات الصين في الفترة الماضية هو أنها أفردت اهتماماً كبيراً بدول مجلس التعاون الخليجي بخاصة السعودية شريكها الأهم في المنطقة، ويصب في دعم مشروع مبادرة "الحزام والطريق". كما تعتزم عقد قمة الصين والدول العربية (منتدى التعاون العربي الصيني) في ديسمبر (كانون الأول) المقبل الذي تستضيفه السعودية، إضافة إلى القمة السعودية – الصينية والقمة الخليجية - الصينية متزامنة مع زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى الرياض.
قبل عهد جو بايدن الذي اعتمد فكرة تحول الصين لقوة مناهضة للولايات المتحدة، وعندما كان نائباً للرئيس باراك أوباما، كانت واشنطن تعتمد فكرة مراقبة الصعود الصيني. وقد ناقش كتاب أميركيون مسألة العلاقة بين واشنطن وبكين بين الاحتواء والعداء، ووصلوا إلى أن التاريخ يثبت أنه عند ظهور نهضة اقتصادية كبرى لإحدى الأمم فإنه تتبعها رغبة في إظهار القوة والتفوق العسكري، وهو ما عبر عنه صراحة صمويل هنتنغتون أستاذ العلوم السياسية والمنظر السياسي الأميركي بقوله إن "ظهور قوة جديدة يعمل على زعزعة الاستقرار دائماً".