قبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، كانت روسيا التي تمد أوروبا بنحو 40 في المئة من حاجاتها من الغاز، تراهن على موارد الطاقة التي يتزايد الطلب عليها في أوروبا، لكي تستعيد مكانتها الدولية، لذلك استنفرت كل جهودها للتصدي للتهديدات التي يمكن أن تضرّ بمصالحها بخاصة في ما يتعلق بتوسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "ناتو". وهو ما عدته مهدداً لنزعتها التوسعية التي أسس عليها التاريخ الإمبراطوري الروسي. وقد أسهم ذلك التاريخ في إعادة بعث "المشروع الأوراسي الحضاري" ومهمته التاريخية بتشكيل "الجيوبوليتيك الروسي"، وفق أيديولوجية موجهة للحد من هيمنة قوى العولمة الأحادية الأطلسية برعاية الولايات المتحدة. وبعد توليه الحكم، شكل فلاديمير بوتين لجنة لتحديد هذه الأيديولوجية "الأوراسية الجديدة"، وتستند إلى ضرورة استعادة ما تمّ تغييره في الخريطة الجغرافية لروسيا على مرّ تاريخها.
وفي خضم هذه الأيديولوجية، برز اعتماد الاقتصاد الروسي في العقود الأخيرة على النفط والغاز، وهو ما بدأه الاتحاد السوفياتي بوصفه مورداً كبيراً للغاز الطبيعي منذ سبعينيات القرن الماضي. وتواجه أوروبا كمستهلكة رئيسة للطاقة الآن تحديات جمة تقف في سبيل سدّ حاجتها من الغاز خصوصاً مع دخول فصل الشتاء، الذي سيكون مختلفاً هذا الموسم، بل ستحدّ من تلبية احتياجاتها المستقبلية للطاقة. وشهدت الفترة الماضية ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا بنسبة 54 في المئة منذ عام 2021. ثم ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بعد الهجوم الروسي لأوكرانيا في 21 فبراير (شباط) 2022 بنسبة 70 في المئة، وتجاوز أسعار النفط الخام 105 دولارات للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014. وتتوالى التحديات بفرض العقوبات الغربية التي نتج منها قرار روسيا وقف صادرات الغاز إلى بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ومع قرار المجلس الأوروبي في مايو (أيار) 2022، حظّر أكثر من 90 في المئة من جميع واردات النفط الروسي بحلول نهاية هذا العام، وهو الموعد المقرر لتحرر الدول الأوروبية من النفط الروسي عقب الحرب الأوكرانية، باستثناء موقت للنفط الخام الذي يتم تسليمه عبر خطوط الأنابيب، وليصبح مستقلاً عن جميع أنواع الوقود الأحفوري بحلول عام 2030، اتجهت الدول الأوروبية إلى أفريقيا للبحث عن مصادر بديلة لواردات الطاقة الروسية.
أهمية متفردة
في مايو، طرح الاتحاد الأوروبي استراتيجيته الدولية للطاقة للاستغناء عن الغاز الروسي، وعلى رغم شمولها بنوداً عدة، منها العودة لاستخدام الفحم والإبقاء على محطات الطاقة النووية واستخدام الطاقة المتجددة والكهرومائية، وأن تزيد الواردات من الولايات المتحدة، وأذربيجان مثلاً، إلا أن الاتجاه نحو أفريقيا اكتسب أهمية متفردة. والسبب أن دولها تتميز بإمكان تطوير حقول غاز جديدة مع التزام الدول الأوروبية بالحفاظ على التعهدات بالحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتركيز على مصادر الطاقة المتجددة.
وتعد نيجيريا العضو في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، الأولى أفريقياً والتاسعة عالمياً في امتلاك احتياطات هائلة من الغاز، ويمكنها أن تزود أوروبا بالغاز بخط أنابيبها العابر لصحراء النيجر، وهناك أنغولا والكونغو برازافيل والسنغال والجزائر ومصر وليبيا والمغرب وموزمبيق التي بدأت تصدير الغاز الطبيعي المسال للمرة الأولى إلى أوروبا، منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، وغيرها.
هذا الأمر قد يغيّر الموازين في علاقة القارة الأفريقية بأوروبا التي تشكو على الدوام من أنها غير متكافئة. وهذا الظرف الذي خلقته الحرب الروسية - الأوكرانية، من شأنه أن يهيئ وضعاً جديداً من الاستثمار في مجال الغاز وتمويل مرافق الغاز ليس فقط للتصدير ولكن لفائدة الدول الأفريقية التي تعاني غالبيتها من أزمات اقتصادية. فأكثر من 600 مليون أفريقي لا يحصلون على الكهرباء، وما يقرب من مليار منهم يستخدمون الحطب والفحم النباتي لتدفئة منازلهم وطهي الطعام، كما تعاني من عدم نمو الصناعة، ولذلك سيمكّنها هذا الاستثمار من خلق فرص جديدة ودعم اقتصادها.
ولكن من واقع تزايد الطلب العالمي على موارد الطاقة، ربما يصطدم التوجه الأوروبي نحو أفريقيا بتحديات عدة منها المنافسة من الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند، خصوصاً أن هذه الدول أسست لوجودها في أفريقيا خلال العقود الثلاثة الماضية، وعدم الاستقرار في المناطق المنتجة للطاقة مثل الشرق الأوسط والحاجة إلى المحافظة على تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وقد أثير في قمة المناخ "كوب27" المنعقدة أخيراً في شرم الشيخ أن مساهمة أفريقيا في الانبعاثات ضئيلة مقارنة بغيرها من القارات.
استراتيجية الموازنة
بهذه العلاقة غير المتكافئة بين أوروبا وأفريقيا، والتراجع الأميركي عن الاستثمار النفطي في أفريقيا مع تخوف الولايات المتحدة من أن تحل الصين محلّها بصورة أكبر مما حققته الصين حالياً، وانشغال معظم الدول الأفريقية بمشكلاتها الداخلية، لن يكون ثمة خيار أمام الدول الأفريقية سوى المضي في استراتيجية الموازنة بين الاستثمارات الأوروبية والآسيوية. وقد كانت الدول الأوروبية من قبل تعترض على تنامي الاستثمارات الآسيوية في أفريقيا وذهبت باتجاه حظر أو تقييد الاستثمار في موارد الطاقة الأحفورية بهدف الحد من الانبعاثات السامة والتحوّل نحو الطاقات البديلة. وانطلق الانتقاد الأفريقي وقتها من منظور أن هذه السياسات لا تراعي حاجة الدول الأفريقية إلى موارد الطاقة لدعم اقتصادها النامي، بينما يبدو الوضع الحالي مناقضاً لما ابتدرته الدول الأوروبية قبل الحرب الأوكرانية.
ومن منظور الاتحاد الأوروبي، سيحقق انتقال الطاقة نموذجاً جديداً في السياسة الدولية بما يسهم في رسم خريطة جيوسياسية أكثر توازناً وأقل صراعاً. فالاتحاد الأوروبي في وضع ملائم للاستفادة من هذه العملية، بتقليل اعتماده على الإمداد الخارجي للطاقة من قوى دولية لها اشتراطاتها وطموحها التوسعي مثل روسيا، أو قوى مستغلة مثل الولايات المتحدة التي اتهمت باستغلال أزمة الطاقة، ورفع أسعار الغاز بعد حادث تسرب الغاز في خط أنابيب "نورد ستريم2" تحت بحر البلطيق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لتحقق أكبر قدر من الفائدة في ظل حاجة أوروبا للطاقة.
ولأن الطاقة تأتي بوصفها من الموارد الطبيعية المهمة في صميم الجغرافيا السياسية، بمقدرتها على تعزيز الإيرادات التي تولدها متغيرات أخرى من القوة، مثل القوة الاقتصادية والعسكرية. ستكون فائدة دول الاتحاد الأوروبي مرتبطة بمقدرتها على إحراز مزيد من التقدم في مجالات الاستثمار الرئيسة وتنويعها والابتكار فيها. وبهذا تكون دول الاتحاد الأوروبي أنهت نوعاً من التعاون الاقتصادي المثقل بالشروط في حالة روسيا، وتخفيف نوع من التعاون الموسوم بالتبعية والاستغلال في حالة الولايات المتحدة، بينما ينتج من ذلك شكل جديد من تبعية أفريقيا لها في ظل توقها للاستفادة من هذه الفرصة لتنمية اقتصاداتها.
أمن النفط
قبل التوجه إلى أفريقيا، ظلت تسيطر على الدول الأوروبية مخاوف قديمة بشأن اعتمادها على إمدادات الغاز الروسي بسبب عدم الثقة بين الطرفين، وأن مشاريع الطاقة مثل "نورد ستريم2" ستمنح موسكو نفوذاً سياسياً واقتصادياً في تعاملها مع الدول التي يمرّ بها خط الأنابيب. ودفعت الرغبة في تعزيز أمن النفط أوروبا إلى الدخول في مشروع آخر وهو "مشروع الممر الجنوبي لنقل الغاز الطبيعي" من منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى، ولما لم يعد قابلاً للتطبيق التجاري، تم استبداله بخط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول وهو أصغر حجماً ولكنه يتصل بخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي الممتد من الحدود التركية. ولكن لم يكن المشروع ليلبي الطلب الأوروبي على الطاقة، ولم تستقر الأحوال بالمنطقة.
ومع أن أفريقيا تتمتع بمزايا تجعلها في وضع فريد لتلبية حاجات أوروبا من الطاقة، وخدمة استثماراتها واقتصاد دولها، إذ يتوقع أن يبلغ إنتاج الغاز في القارة ذروته عند 470 مليار متر مكعب بحلول عام 2030، إلا أنه اتضح أن هذا الارتفاع في أسعار الغاز سوف يدفع بالحكومات الأفريقية إلى اعتبار الغاز الطبيعي الكامن في الأرض بمثابة فرصة ذهبية، من دون مراعاة للعواقب البيئية جراء استخراجه وتهديد ثرواتها الطبيعية باستهلاكه ثم نفاده بسرعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعبر خبراء الطاقة بأن "أفريقيا سترتكب خطأ فادحاً إذا اختارت إعطاء الأولوية للوقود الأحفوري على الطاقة المتجددة للاستثمار، خصوصاً أنها تنعم بالطاقة المتجددة الوفيرة في الشمس والرياح". وثار جدل حول ماهية أمن الطاقة الذي تعرفه "وكالة الطاقة الدولية" بأنه "التوافر المستمر لمصادر الطاقة بأسعار في متناول الجميع"، بالتالي، فإن انعدام أمن الطاقة هو عدم توافرها أو شحّها. ولكن في الواقع، فإن هذه الوفرة التي يمكن أن تحققها الدول الأفريقية ستجعل اعتماد البلدان المستوردة عليها كبيراً، بينما تتحمل أفريقيا ودولها المصدرة العبء السياسي والاقتصادي بسبب الضغط عليها لتأمين العرض من الطاقة لمواجهة الطلب عليها.
دبلوماسية الطاقة
وتتجاوز دبلوماسية الطاقة الجهات الفاعلة الحكومية كمزيج معقد من دبلوماسيات أصحاب المصلحة والمنتجين والمستهلكين، ومع أنها تتمحور حول الدولة، ولكنها في الوقت ذاته تستجيب لتحديات الحوكمة العالمية والتعددية القطبية والشبكات متعددة الجنسيات. وتحقق دبلوماسية الطاقة مظهراً إيجابياً من خلال توفير موارد الطاقة وتحسين وضع الدولة وتنميتها في ما يتعلق بتوفيرها أمن الطاقة وتعزيز علاقاتها مع شركائها الدوليين. ولكن من ناحية أخرى، تحمل جانباً سلبياً، إذ يمكن استخدام دبلوماسية الطاقة كأداة للأجندة الخارجية من خلال التأثير على الحكومات وصانعي السياسات.
وبعد تفاقم المشكلات البيئية والتغير المناخي، التزم الاتحاد الأوروبي بأن يصبح أول قارة محايدة مناخياً بحلول عام 2050 بموجب "الصفقة الخضراء الأوروبية"، التي تنطوي على خفض كبير في استهلاك الوقود الأحفوري. وعليه، فإن مستقبل الحصول على الطاقة سيكون بالتركيز على الطاقة البديلة من مصادر متجددة كالرياح والشمس وغيرها من الموارد الطبيعية المتجددة التي تزخر بها القارة الأفريقية، غير أنه يعوقها التمويل والدعم اللوجيستي. كما أنه ستعتري الدول المستوردة المتنافسة عليها خلافات أخرى محل الخلافات القديمة على الطاقة في النفط والغاز. وقبل أن يتم هذا التحول، يبدو أن أوروبا ستجمد التزامها بتقليل اعتمادها على موارد الطاقة تدريجاً، ولكن بعد تجاوز الأزمة الحالية، بتضحيات وصعوبات اقتصادية واجتماعية تتكبدها الدول الأفريقية.