جاء سقوط صاروخ أسفر عن مصرع مواطنين بولنديين داخل الأراضي البولندية المتاخمة للحدود الأوكرانية ليميط اللثام عن إحدى الحوادث التي كادت تشعل نيران "حرب عالمية ثالثة" على حد تعبير الأوساط السياسية والإعلامية في العاصمة الروسية، فما إن كادت تخفت أصداء خطاب الرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى المشاركين في "قمة العشرين" بجزيرة بالي الإندونيسية، محاولاً فيه تصعيد أوار المواجهة مع روسيا وحشد مزيد من الجهود لطردها من المحافل والمنظمات الدولية، حتى سارع إلى توجيه اتهاماته إلى موسكو بقصف الأراضي البولندية في أعقاب الضجة التي تعالت على أثر سقوط الصاروخ، ولم تكن الجهات المعنية توصلت بعد إلى إثبات صلة الجانب الروسي بهذه الحادثة.
وعلى رغم تعجل وزارة الدفاع الروسية إصدار بيانها الذي نفت فيه أية صلة لروسيا بالأمر، وأن "جميع الضربات التي وجهتها القوات المسلحة الروسية ضد الأراضي الأوكرانية كانت على مسافة لا تقل عن 35 كيلو متراً عن الحدود الأوكرانية - البولندية"، سارعت وزارة الخارجية البولندية إلى استدعاء السفير الروسي في بولندا لتطالبه بـ "تفسير تفصيلي" وسط "أجواء عدائية" على حد وصف المصادر الروسية الرسمية التي قالت إن اللقاء لم يشهد حتى "التصافح بالأيدي".
وتناقلت وكالات الأنباء المحلية والعالمية كل هذه الأخبار التي تضمنت أيضاً ما أعلنه بيتر مولر المتحدث الرسمي باسم الحكومة البولندية حول وضع بعض وحدات القوات المسلحة البولندية في "حال تأهب قصوى"، وعقد قادة دول "مجموعة السبع" الكبار وعدد من دول "الناتو" اجتماعاً طارئاً على هامش قمة "مجموعة العشرين"، في وقت وجهت كثير من المصادر الغربية وفي الصدارة منها القيادات الأوكرانية، اتهاماتها إلى روسيا.
واللافت في هذا الصدد أن ما صدر عن القيادة الأوكرانية ومعها قيادات بلدان البلطيق من بيانات وتصريحات كانت الأكثر حدة بما تضمنته من مفردات تطالب بسرعة إنزال أقصى العقاب بروسيا، وتطبيق المادة الخامسة من ميثاق حلف "الناتو" والتي تنص على "أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف يوفر حمايته من قبل جميع الأعضاء الآخرين".
وسارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى توجيه رسالة إلى شعبه وشعوب العالم يقول فيها "لقد وقع اليوم حدث طالما حذرنا منه منذ فترة طويلة"، مؤكداً أن "الإرهاب لا يقتصر على حدود الدولة الأوكرانية، وأن الصواريخ الروسية ضربت بولندا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحول بخطابه إلى الشعب البولندي ليؤكد استعداد بلاده لدعمه والوقوف إلى جانبه في معركته مع الإرهاب بقوله، "إن الإرهاب لن يحرر الناس وروسيا تضع نفسها في مواجهة مع العالم. روسيا ترهبنا وكل من تستطيع الوصول إليه". وخلص زيلينسكي أنه وبلاده سيواصلان العمل وبذل كل الجهود اللازمة للحيلولة دون ذلك.
غير أن الجانب البولندى وبعد فترة لم تطل كثيراً عاد ليخفف من غلوائه واتهاماته حين أعلن على لسان رئيس الجمهورية موقفاً آخر، إذ نقلت المصادر عن الرئيس البولندي أندريه دودا تصريحاته حول أنه "لا توجد لدى وارسو أية معطيات أو أدلة تشير إلى أن الصاروخ الذي سقط في شرق البلاد أطلقه الجانب الروسي"، في حين كشف عن توقعاته حول أن يكون الصاروخ أوكرانياً.
كما أعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي "أن بولندا لا تجد دليلاً على الحاجة إلى تطبيق مادة بميثاق الحلف في شأن إجراء مشاورات عاجلة في حال الأزمات، إذ إن معظم الأدلة التي جمعناها حتى الآن تشير إلى أنه ربما لن يكون تطبيق هذه المادة ضرورياً"، مشدداً على أن بولندا لديها هذه الأداة طوال الوقت وهي "تتحقق من الشروط المسبقة لاستخدامها".
موقف الناتو
من جانبه أعلن الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبيرغ أنه "لا تأكيدات على أن إطلاق الصاروخ على بولندا كان متعمداً، ولا على أن روسيا تنفذ أعمالاً ضد الحلف، كما أن المعلومات تشير إلى إطلاق صواريخ دفاع جوي أوكرانية".
وكشف ستولتنبيرغ عن أن "الناتو" لا يزال يحتفظ بخطوط اتصال مع روسيا، وإن عاد ليحمل روسيا المسؤولية في النهاية عن سقوط الصاروخ الأوكراني في بولندا، لأنه "لو لم يكن هناك صراع لما حدثت هذه الحادثة"، على حد تعبيره.
وفي هذا الصدد حرصت المصادر الرسمية الروسية على التحلي بكثير من ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الدخول في ما وصفه مراقبون روس كثر بـ "المهاترات السياسية والإعلامية"، والتركيز على ما تقوله مصادر "الكرملين" ووزارتا الخارجية والدفاع.
إشادة بالموقف الأميركي
وكان المتحدث الرسمي باسم "الكرملين" دميتري بيسكوف سارع إلى الإعلان أنه لا علاقة لبلاده بهذا الحادثة، فيما ندد بردود الأفعال التي قال إنها "صدرت عن مسؤولين كبار واتسمت بما وصفه بالهستيرية، وهي التصريحات التي تبدو في مضمونها تلميحاً يرقي حد التصريح، وإشارة إلى ما سارع الرئيس الأوكراني زيلينسكي إلى الإدلاء به بكل ما تضمنه من اتهامات إلى روسيا، وما طالب به من إجراءات ضدها من جانب المجتمع الدولي.
على أن المسؤول الروسي لم يغفل في هذا الصدد الإشادة بموقف الجانب الأميركي وما اتسم به من "ضبط للنفس" على حد تعبيره.
وكانت موسكو الرسمية التزمت كثيراً من "ضبط النفس" في ما صدر عنها من تصريحات على ضوء ما توافر لديها من معلومات مؤكدة حول أن الصاروخ "أوكراني الهوية"، ولم يمض كثير من الوقت حتى جنحت الأجواء نحو "العقلانية" التي تبدت أولى ملامحها في ما صدر عن الرئيس الأميركي جو بايدن من تصريحات تقول إن "المعلومات الأولية تدحض هذه الفرضية، ولا أريد أن أقول هذا حتى يكتمل التحقيق، لكن من غير المحتمل أن يكون هذا الصاروخ قد تم إطلاقه من روسيا".
وأضاف الرئيس الأميركي أنه سيتابع هذا الأمر لمعرفة الظروف الدقيقة لحادثة الصاروخ في بولندا، ثم بعد ذلك يتم تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها.
ونقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن مسؤولين أميركيين تصريحاتهم التي أكدوا خلالها أن "المعطيات الأولية تشير إلى أن الصاروخ الذي سقط في بولندا أطلقته القوات الأوكرانية لاعتراض صاروخ روسي"، كما سارع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين إلى الاتصال بنظيره البولندي لمناقشة الوضع الأمني الحالي على طول الجناح الشرقي لحلف "الناتو" والتقارير في شأن سقوط صواريخ على الأراضي البولندية.
وقالت المصادر الغربية إن الوزير الأميركي طمأن نظيره البولندى، مؤكداً التزام الولايات المتحدة الصارم بالدفاع عن بولندا واستعداد "البنتاغون" لمساعدتها في أي تحقيق، كما اتفقا على التنسيق الوثيق مع حلفائهما في "الناتو" في شأن الخطوات التالية.
من المستفيد؟
إزاء كل ذلك وعلى ضوء ما بات مؤكداً حول عدم صلة روسيا بهذه الحادثة جملة وتفصيلاً، انطلقت الأصوات الروسية لتؤكد أن ذلك يصب في غير مصلحة موسكو، وأن البدهية القانونية لدى تقصي أسباب أية حادثة تقتضي معرفة وإثباتاً "لمصلحة من؟"، مطالبة كل الأطراف المعنية بالبحث عن المستفيد الأول وربما الوحيد من تأجيج نيران الشكوك والاتهامات ضد روسيا.
وتوقفت كل الأقلام والأصوات عبر البرامج المرئية والمسموعة عند توجيه أصابع الاتهام إلى الجانب الأوكراني، كما جنحت نحو تفسير ما يجري في الداخل الأوكراني من صراع حول مسار السياسات الأوكرانية، والموقف مما يطرحه المجتمع الدولي من ضرورة وقف إطلاق النار والتحول نحو المحادثات.
وثمة من يقول في موسكو إن هناك في أوكرانيا من يرى أن "الوقت حان لمنح الدبلوماسية فرصة لحل الصراع"، بصرف النظر عن مواقف من ينسبونهم إلى "الصقور" بين صفوف النسق الأعلى للسلطة، وذلك ما تحاول أطراف في الإدارة الأميركية طرحه في صدارة مطالبها وتوصياتها إلى الرئيس الأوكراني زيلينسكي من خلال كثير من الرحلات المكوكية إلى العاصمة كييف، ومنها ما يقوم به مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان من اتصالات ولقاءات.
وكان سوليفان بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية اقترح على زيلينسكي "التفكير في مواقف تفاوضية واقعية"، في إشارة إلى عدم عقلانية ما يطرحه من شروط سبق واستعرضتها "اندبندنت عربية" في تقريرها السابق من موسكو، بما فيها ما يتعلق باستعادة شبه جزيرة القرم.
الدبوماسية في الشتاء
ونقلت وكالة "نوفوستي" الروسية أخباراً مفادها أن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين أثار هذه القضية خلال لقائه الأخير الذي جرى مع نظيره الأوكراني دميتري كوليبا على هامش أعمال "قمة رابطة دول جنوب شرقي آسيا" (آسيان) في العاصمة الكمبودية، مؤكداً أن "لدى كييف الفرصة لاتخاذ القرار في شأن توقيت ومضمون مفاوضاتها مع الجانب الروسي"، وإن أشار بحسب البيان الصادر عن الخارجية الأميركية في هذا الشأن إلى "أن موعد ومحتوى أية محادثات يظل قراراً أوكرانيا".
ونقلت مصادر روسية في السياق ذاته عن السفيرة الأميركية لدى "الناتو" جوليان سميث أن "الولايات المتحدة تأمل في بدء مفاوضات حول أوكرانيا في المستقبل"، معيدة إلى الأذهان ما سبق أن قاله الرئيس الأميركي جو بايدن حول أن "القتال في أوكرانيا يجب أن ينتهي بالتوصل إلى اتفاق".
وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي كشف عن قناعة مماثلة بما قاله في ختام لقائه مع قائد القوات الأوكرانية فاليري زالوجني من أنه "قد تكون هناك فرصة للدبلوماسية في الشتاء"، على اعتبار أنه "في فصل الشتاء يمكن للخط الأمامي أن يستقر"، وانطلاقاً من ضرورة "اغتنام الفرصة" وبدء المفاوضات عندما يكون من الممكن تحقيق السلام.
وأوضح المسؤول الأميركي "أن النصر لا يمكن تحقيقه بالوسائل العسكرية" مما يستوجب معه التوجه إلى "وسائل أخرى".
ذلك موقف يبدو أن الإدارة الأميركية باتت أقرب إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، وهو ما تتسابق الصحف الأميركية إلى الكشف عنه تباعاً، ومن هنا نتوقف عند ما تناولته كاترينا فاندن هوفيل على صفحات "واشنطن بوست" بقولها إنه "يتوجب على الدول الغربية أن تبدأ عملية التفاوض مع روسيا لإنهاء الصراع في أوكرانيا".
وإذ أشارت إلى أنه "ربما حان الوقت لمنح الدبلوماسية فرصة لحل الصراع"، فقد عادت الكاتبة الأميركية لتؤكد أن "استمراره بعد الوضع في خيرسون لن يؤدي إلا إلى مزيد من الوفيات والأضرار غير الضرورية لكلا الجانبين، وسيكون له أيضاً تأثير خطر على العالم الخارجي"، وتلك تصريحات ثمة من يقول في موسكو إنها تبدو على غير وفاق مع ما يطرحه الرئيس الأوكراني زيلينسكي ومن يقف إلى جانبه من "الصقور" الذين يتطلعون إلى خوض سباق الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2024.