عاد الحديث في الجزائر عن نظام التقاعد المسبق في قانون التوظيف العمومي، بحيث يلح نواب ينتمون إلى مختلف التشكيلات السياسية في الضغط على الحكومة من أجل إعادة العمل بالنظام ومناقشته على مستوى الغرفة السفلى للبرلمان، معتبرين الأمر مطلباً لعشرات آلاف الموظفين في القطاع الحكومي.
والتقاعد المسبق هو نظام كان يسمح للموظفين في القطاع الاقتصادي بالاستفادة من المعاش شرط أن يكون المستفيد بلغ 50 سنة بالنسبة إلى الرجال و45 سنة بالنسبة إلى النساء وأن يكون اشتغل لمدة 20 عاماً في الأقل.
تم بدء العمل بهذا النظام عام 1997 في ظل ظروف خاصة شهدت حل عدد من المؤسسات وتسريح الموظفين واستمر العمل به إلى ديسمبر (كانون الأول) عام 2016.
ويعتزم النواب تقديم مقترح جدي في شكل مشروع قانون من أجل العودة لتطبيق التقاعد المسبق الذي ينتظره كثير من الموظفين في القطاع الحكومي الراغبين في الاستفادة من هذا النمط للتقاعد والذي توقف العمل به منذ سنوات.
موقف الحكومة عبر عنه وزير العمل يوسف شرفة الذي استبعد العودة لنظام التقاعد النسبي في الوقت الحالي، متحججاً بعدم وجود موارد مالية كافية وكون أولوية الحكومة في الوقت الحالي إنعاش "صندوق التقاعد" الذي يعاني منذ 2013 عجزاً هيكلياً يتجاوز 550 مليار سنتيم (نحو 4 مليارات دولار)".
ولدى تطرقه إلى الوضعية المالية للصندوق، أشار الوزير إلى انخفاض في عدد المشتركين، مبرزاً أن "الصندوق الوطني للتقاعد" يسجل 1.92 مشترك مقابل متقاعد واحد، في حين أن التوازن المالي للصندوق يتطلب خمسة مشتركين مقابل متقاعد واحد.
ويوجد في الجزائر أكثر من 3 ملايين متقاعد (من أصل نحو 44 مليون نسمة)، بحسب "صندوق التقاعد" الحكومي. ومنذ فترة يدعو متقاعدون ونقابات السلطات إلى زيادة المعاشات الزهيدة أصلاً في ظل تدهور القدرة الشرائية والارتفاع المستمر لأسعار السلع والخدمات منذ الموجة الأولى لجائحة كورونا في مارس (آذار) 2020.
مطلب ملح
يقول النائب بالمجلس الشعبي الوطني علي مويلحي في تصريح إلى "اندبندنت عربية" إن مطلب العودة إلى التقاعد المسبق في الجزائر يعبر عن رغبة آلاف العمال الذين ينتظرون اعتماد هذا النظام للاستفادة منه.
وذكر أن هذه المرة الثالثة التي يرفع فيها النواب مطلب العودة لنظام التقاعد المسبق من دون شرط السن إلى الحكومة، وكان رد الأخيرة دائماً واحداً وهو عدم كفاية الموارد المالية لتغطية جميع كلف صندوق التقاعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأفاد مويلحي أن نظام التقاعد المسبق أعيد طرحه قبل شهر في مناسبة مناقشة بيان السياسة العامة للحكومة تحت قبة البرلمان وزوال الأعذار المالية السابقة وانتعاش الخزانة العمومية وملامسة احتياطي النقد الأجنبي سقف الـ50 مليار دولار.
وبخصوص أسباب تمسك النواب بهذا المطلب، أوضح المتحدث أن الأمر يرتبط أساساً بحق فئة كبيرة من العمال في الاستفادة من تقاعد مريح بعد أعوام من العمل، خصوصاً لأصحاب المهن الشاقة، وكذلك تقليص البطالة بتوفير مناصب عمل لفئة الشباب.
وشدد مويلحي على أن النواب متمسكون بمطلب اعتماد نظام التقاعد المسبق مجدداً، مشيراً إلى أن عدد نواب الغرفة السفلى للبرلمان الذين يتبنون المطلب بلغ حالياً 100 نائب، وهو عدد مرشح للارتفاع مستقبلاً وكشف عن أن كتلة النواب ستطرح المطلب مرة أخرى للمناقشة، الثلاثاء المقبل، في المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان( أثناء مناقشة قانون المالية 2023، مضيفاً أن النجاح في تحقيق الهدف متوقف على انضمام مزيد من النواب لتبني المطلب والضغط أكثر على الحكومة لتجسيده في الميدان.
وحامت شكوك حول تعرض "الصندوق الوطني للتقاعد" لعملية استنزاف من طرف ما تسمى "العصابة" خلال العشريتين الماضيتين واستفادة إطارات سامية من تقاعد بمبالغ مالية خيالية أثرت في توازن الصندوق وأدت إلى عجز قارب 4 مليارات دولار.
ولم تتمكن الحكومة من ضبط الأمر على رغم تدخلها في أكثر من مرة للتخفيف من حدة العجز وتمكنت فقط من تقليص الرقم من 700 مليار دينار (5.05 مليار دولار) إلى نحو 500 مليار (3.60 مليار دولار)، لكن أزمة العجز متواصلة في الصندوق بعد أن تجاوزت منح التقاعد مبالغ الاشتراكات المحصلة من العمال النشطين.
نقاش فاعل
يرى رئيس نقابة الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين صادق دزيري ضرورة فتح نقاش بين النقابات والحكومة وكل الفاعلين في شأن نظام التقاعد المسبق.
ويوضح دزيري لـ"اندبندنت عربية" أن "نقابة عمال التربية تدعو إلى فتح نقاش حول ملف التقاعد المسبق ومراجعة قانون التقاعد الذي يتضمن اختلالات عدة تنطوي على إجحاف في حق العمال والموظفين"، وأضاف "لدينا تحفظات على أسباب إفلاس الصندوق وصرف أمواله هنا وهناك، إذ إن الحكومة لم تكشف عن الوضعية المالية الحقيقية للصندوق"، مؤكداً أن العودة للعمل بالتقاعد المسبق "ليست أمراً مستحيلاً، بل تحتاج إلى فتح نقاش مع جميع الفاعلين للوصول إلى حل يعيد العمل بهذا النظام".
من جهته قال الاقتصادي مراد كواشي إن العجز المالي الذي يعرفه "الصندوق الوطني للتقاعد" ليس وليد اليوم، بل هو نتيجة سوء التسيير والاعتماد المفرط على عائدات المحروقات، إضافة إلى تأثير أزمة "كوفيد-19" في تراكم هذا العجز بعد ارتفاع معدلات البطالة بين عامي 2020 و2021، مما يعني تراجع الاقتطاعات من أجور العمال.
وأضاف أن هناك ثغرات في القانون الجزائري، بخاصة في ما يتعلق بأصحاب المناصب العليا في الدولة الذين يستفيدون من معاشات كاملة تعادل الأجور الكبيرة التي كانوا يتقاضونها، وهو ما يعتبره المتحدث إجحافاً في حق بقية العمال الذين ينتظرون حتى عمر 60 سنة للاستفادة من معاشات تغطي 80 في المئة فقط من أجورهم.
وذكر أن "عجز صندوق التقاعد يرجع كذلك إلى انتشار ظاهرة الاقتصاد الموازي غير الرسمي الذي يقدر بمليارات الدولارات، وما يرافقه من عدم التصريح بالعمل وعدم دفع الاشتراكات لدى الضمان الاجتماعي".
ويرى كواشي أن العودة إلى العمل بنظام التقاعد النسبي سلاح ذو حدين، فمن جهة يسمح بضخ طاقات جديدة شابة في الاقتصاد الوطني، ومن جهة أخرى يحمل الدولة أعباء مالية إضافية، موضحاً أن "الدولة حالياً يمكنها تطبيق التقاعد المسبق، لكن في حقيقة الأمر فإن الأريحية المالية غير دائمة بالنظر إلى ارتباط الاقتصاد أساساً بعائدات المحروقات والأوضاع الدولية بشكل عام".
ويبقى التحدي الكبير أمام الحكومة في القيام بإصلاحات مالية عميقة للصندوق عبر تفعيل آلية المراقبة لمعرفة النفقات بكل شفافية.