Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 "اعترافات" أغسطينوس مثلت بداية فلسفة العصر الوسيط

 "بيت الحكمة التونسي" ترجمها عن اللاتينية وفيها رسخ الفيلسوف الأفريقي أدباً جديداً

القديس الفيلسوف أغسطينوس (التراث الروحي)

 "أنا اليوم مقدم على أمر لم يسبقني إليه سابق، ولن يلحق به لاحق، أنا مزمع على أن أجلو لإخواني بني الإنسان إنساناً على حقيقته، وفي صميم طينته، وهذا الإنسان هو أنا". بهذه الكلمات افتتح الكاتب جان جاك روسو "اعترافاته"، ليعلن، من خلالها، عن تأسيس نوع أدبي جديد، لم يكن للأدباء عهد به من قبل، محوره الأول "تقديم الإنسان على حقيقته"، الإنسان "في صميم طينته" بلا زيف ولا أقنعة.

هذه "الاعترافات" التي دونها الكاتب الفرنسي لم تكن في الواقع فتحاً أدبياً جديداً، كما ادعى صاحبها وإنما كانت استئنافاً لتقليد مسيحي قديم، يعتبر "الاعتراف"، الذي عده رجال الدين المسيحيون أحد أسرار الكنيسة السبعة، شرطاً للتطهر من الخطايا. فقبل مئات السنين، وبالتحديد في القرن الخامس، كتب القديس أغسطينوس "اعترافاته" التي صور من خلالها رحلته الروحية والوجودية بأسلوب أدبي لافت يجمع بين كينونة الشعر وسيرورة السرد، واصفاً معاناة العبور من حال إلى حال، ومن حياة إلى أخرى.

هذه الاعترافات التي تعد من أهم الأعمال الأدبية والفلسفية والروحية في التراث الإنساني، أعاد ترجمتها عن الأصل اللاتيني، إبراهيم الغربي وراجعها محمد الشاوش، وأصدرها، في طبعة أنيقة، المجمع التونسي للعلوم والآداب بيت الحكمة.

الاعترافات في القديم والحديث

لئن جنح النقاد إلى اعتبار أدب الاعتراف أدباً موصولاً بالحداثة، وحرية الفكر والاعتقاد، لا يزدهر إلا في بيئة منفتحة على قيم العصر الحديث وإنجازاته الفكرية والروحية، فإنهم يستثنون، مع ذلك، بعض النماذج التي ظهرت في العصور القديمة، ويعتبرونها بمثابة إرهاصات أولى لهذا الأدب، أسست له، ووضعت قواعده الأولى. ومن أكثر النماذج التي تتردد على ألسنة النقاد، والباحثين، "اعترافات" القديس أغسطينوس.

هذا الكتاب الذي جاء في شكل مناجاة للخالق يصور، على نحو درامي، عبور الكاتب من مرحلة إلى مرحلة، وانتقاله من تصور للعالم قديم، وتبنيه تصوراً آخر مختلفاً. وعلى عكس كتبه السابقة المفعمة بالتشاؤم والمرارة واليأس جاءت الاعترافات طافحة بالأمل والحب والتفاؤل.

أغسطينوس الأفريقي

هذا الفيلسوف كان يلقب في الأوساط الإيطالية بالأفريقي، وكان فعلاً أفريقياً أصيلاً، يلبس، على عادة أهل أفريقيا الشمالية قميصاً أبيض من الصوف، ويعتمر قلنسوة... وفي لاتينيته نبرة أمازيغية لا تخفى عن السامع.

وقد أشار الفيلسوف إلى تعلمه اللاتينية "بلا خوف ولا ألم" فقد تعلمها، كما يقول "بين ملامسات المرضعات ودعابات الضاحكين الملاعبين ومرحهم. قلت تعلمتها من دون ضغط الحاثين على تعلمها، إذ كان قلبي هو الحاث الوحيد على إبراز أفكاري".

عرف الرجل في بداية حياته بمجونه في العاصمة قرطاج، فقد ظل يختلف إليها لإشباع نهمه الجسدي، كما جاء في "الاعترافات". تعلق، في شبابه، بفتاة أنجب منها ابناً أحبه كثيراً سماه "عطية الله"، لكن أمه مونيكا القوية المتسلطة، طردت الأم والرضيع من البيت وأصرت على أن تزوجه بفتاة من الطبقة الأرستقراطية، فأبى وفاء لقرينته الأولى، وظل قريباً منها، لاهجاً بذكرها، وأهداها عدداً من أعماله الفلسفية. آمن أغوسطينوس في بداية حياته بالفلسفة وتشبع بأفكارها لكنه تخلى عنها، ثم آمن بالمانوية وسرعان ما انتقدها ورفضها بل حارب مؤيديها وطاردهم، مستعيناً برجال السياسة في عصره، وفي النهاية اعتنق المسيحية بعد فترة تساؤل واضطراب.

مات في مدينة عنابة وهي محاصرة من الوندال الذين أصروا على إسقاط الإمبراطورية الرومانية بعد قرون من الازدهار.

كتاب "الاعترافات"

كتبت هذه الاعترافات التي تتكون من 13 كتاباً ما بين العامين 397 و400. يوضح المفكر عبدالوهاب بوحديبة أن العنوان لا ينطبق تمام الانطباق على مضمون الكتاب، لأن هذا الكتاب مزيج من الذكريات والتأملات في شتى معاني الحياة ومشكلات الوجود. ومن أهم صفحات الكتاب التي ترددت كثيراً منذ أقدم العصور، رواية بليغة للحيرة التي انتابته وأقضت مضجعه، ثم وصفه البارع لطرائق الخروج منها "بعد تأرجح مضن بين الشك واليقين وارتكاب الإثم والندم عليه".

اعترف الفيلسوف ببعض الخطايا التي اقترفها وربما بالغ، كما يقول بوحديبة، في تقبيحها ونقلها من مستوى العمل غير الحميد إلى مستوى الخطيئة الماورائية. ومن ذلك حديثه عن سرقته وهو في سن المراهقة، لإجاصات من ملك جاره وكان قطفها، قبل نضجها ولم يكن ينوي أكلها أو بيعها، ولكن نكاية في جاره، كما يقول في المذكرات. "كانت توجد بالقرب من حقل كرومنا شجرة إجاص مثقلة بثمار ليس شكلها بجذاب ولا مذاقها. قصدناها ليلاً لنرجها ونجردها من ثمارها. ثم نلقي بما جمعناه أمام الخنازير، وعلى كل إن أكلنا منها شيئاً، فقد كان ذلك لكون لذتنا في تحريمه".

وتحدث عن مغامراته العاطفية معترفاً بأنه "لم يكن يحب بقدر ما كان يحب أن يحب"، فعلاقته ببعض نساء قرطاج الفاتنات، بعد إغرائهن، لم تتجاوز مستوى الزهو والعبث. وتحدث بإسهاب عن علاقته بفتاة جميلة كانت ثمرتها ابنه "عطية الله". يشير الفيلسوف إلى تلك العلاقة قائلاً "في تلك السنين كانت لي امرأة لم أتعرف إليها في ما يسمى الزواج الشرعي، ولكن جعلني أعثر عليها شوق متشرد، خال من الحصافة، غير أنها مع ذلك، الوحيدة التي حفظت لها الوفاء في المضجع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي صفحات من الأدب الراقي الجميل وصف الفيلسوف جزع أمه وهو يترك قرطاج في اتجاه ميلانو "هبت الريح ونفخت في أشرعتنا، وغاب الساحل عن أنظارنا، حيث كانت أمي تتألم كالمجنونة وتملأ بالنحيب والصراخ أذنيك. كانت تحب حضوري بقربها شأن جميع الأمهات... ولم تكن تعلم ما كنت سأهيئه لها من أفراح بغيابي".

وأجمل ما ينطوي عليه هذا الكتاب تأملات أغوسطينوس في الحب والمحبة والأخوة الإنسانية، إنها تأملات خالدة لا يمكن أن تكبر أو تهرم أو تموت. يقول "كن محباً وافعل ما تريد"، فالحب بوصفه خروجاً من صدفة الذات هو بالضرورة انفتاح على الآخر، هدم لجدران الأنانية، إعطاء الغيرية قيمتها.

 هذا المديح للحب يبسط ظلاله على كل الكتاب، لكن الفيلسوف يفرق بين ضربين من الحب: الحب الأول هو الحب السطحي الذي يدور في حلقة مفرغة، ولا غاية له إلا نفسه، أما الحب الثاني فغايته التعلق بالغير، وهو، بهذه الصفة، خروج من فلك النفس الضيقة وعقد صلة بالآخر.

لقد مثلت الاعترافات، في نظر بوحديبة، الفترة التاريخية التي تأرجح فيها الفكر الإنساني بين العقلانية والتصوف، كما مثلت نهاية التاريخ القديم وبداية العصر الوسيط. فهذا الكتاب يعتبر بمثابة الشاهد على هذا التحول في مسيرة الحضارة الإنسانية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة