بعد القبض عليها في يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلنت السلطات الفيدرالية في الولايات المتحدة عن أن حكماً بالسجن 20 عاماً صدر في حق مواطنة أميركية تدعى إليسون فلوك إكرن، بعد اعترافها بتدريب عشرات النساء والفتيات في سوريا لصالح تنظيم "داعش" المصنف في قوائم الإرهاب الأميركية.
وقال مكتب المدعي العام الفيدرالي في المقاطعة الشرقية بولاية فرجينيا، في بيان صحافي، الأسبوع الماضي، إن ليلى، ابنة إكرن، اتهمت خلال جلسة استماع والدتها بارتكاب انتهاكات جسيمة، بما فيها التحرش الجنسي بها، وإجبارها على الزواج من مقاتل من "داعش" عندما كانت تبلغ 13 سنة.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" بأنه وبعد سنوات من إعلان الولايات المتحدة النصر على تنظيم "داعش" في سوريا، إلا أن التداعيات والأضرار التي تسبب بها التنظيم ما زالت تعاش في أماكن بعيدة مثل أوفربروك وهي بلدة صغيرة في ولاية كانساس، مشيرة إلى أن قصة ليلى تؤكد عمق تلك الندوب، وتذكر بأن المعاناة القاسية في سوريا لم تقتصر على الشرق الأوسط فقط.
وروت ليلى إكرن، البالغة من العمر الآن 20 سنة، قصتها لأول مرة علناً الأسبوع الماضي، أمام محكمة في ولاية فيرجينيا الشمالية، حيث حكم على والدتها بالسجن 20 عاماً. واستذكرت ليلى، معاناتها مع المعاملة السيئة التي تعرضت لها من والدتها، واتهمتها في خطاب للمحكمة بالتحرش الجنسي بها.
من جانبها، أنكرت فلوك إكرن (42 سنة)، التي ظهرت أمام المحكمة مرتدية حجاباً أسود، وقميصاً أخضر مكتوباً عليه "سجينة"، إساءة معاملة ابنتها، أو إجبارها على الزواج وهي قاصر، مدعية أن ذلك كان قرار ليلى، وعبرت في الوقت نفسه عن "ندمها الشديد" على قراراتها.
غررت بزوجها واستغلت أسرتها
كشفت "نيويورك تايمز" بعد الحكم تفاصيل إضافية عن فلوك إكرن التي ولدت في ولاية كانساس، قبل أن تتحول إلى حياة الإرهاب، متنقلة بين ليبيا وسوريا وتركيا والعراق، إلى أن أصبحت قائدة كتيبة نسائية في تنظيم "داعش".
وأفادت الصحيفة بأن فلوك إكرن نشأت في مزرعة مملوكة لعائلتها منذ أكثر من قرن، تغطي مساحة تزيد على 36 ألف متر مربع في مدينة لورانس بولاية كانساس، حيث التقت زوجها الأول في عام 1996، وأنجبت منه طفلين، غابرييل وألينا، قبل أن ينهار زواجهما، وينفصل الزوجان في عام 2002. ويتذكرها طليقها بأنها كانت "محتالة"، في حين يصفها ابنها البكر بأنها "وحش".
وفي عام 2002، اعتنقت فلوك إكرن الإسلام، بينما كانت تدرس البكالوريوس في جامعة كانساس، ثم تزوجت من فولكين إكرن، وهو طالب أجنبي يتحدر من عائلة غنية في تركيا، وأنجبا معاً خمسة أطفال، منهم ليلى التي تتهم والدتها بإساءة المعاملة، واستغلالها وتزويجها وهي قاصر.
ولا تذكر وثائق المحكمة تفاصيل كافية لتحديد الشرارة الأولى التي أطلقت العنان للتطرف الفكري الذي عصف بحياة فلوك إكرن، وأخرجها من بلدة هادئة في الغرب الأوسط في الولايات المتحدة، لتعيش بين المعارك والنيران، وتحت رحمة الغارات الجوية في مناطق الصراع في الشرق الأوسط.
إلا أن صديقة سابقة لها تدعى إيمي فاروق ذكرت لـ"نيويورك تايمز" بأن فلوك إكرن "اعتنقت ببطء أيديولوجية داعش، وكانت لديها موهبة في تعلم اللغات". وأضافت "كانت وسيلة لها للشعور بأنها مهمة، ولديها هدف". وذكرت فاروق التي التقت فلوك إكرن في عام 2001 أن الأخيرة عملت معلمة في المدرسة الإسلامية في مدينة كانساس الكبرى.
ويقول بعض أفراد أسرتها إن فلوك إكرن غررت بزوجها الثاني، وغرست في عقله أفكاراً متطرفة، قبل أن تنتقل الأسرة إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث وجد ابنها البكر من زواجها الأول غابرييل نفسه مجبراً على مغادرة مصر، للعيش مع والده بعد معاناته الضرب وسوء المعاملة.
وانتقلت الأسرة بحلول أواخر عام 2011 إلى ليبيا، حيث ترسخ سعيها الدؤوب لتجنيد الشباب، ورغبتها في تنفيذ هجمات عنيفة، بحسب ابنتها ليلى. وتجسدت هذه الرغبات في خطة والدتها لتحويل إحدى المدارس إلى مركز تدريب عسكري للفتيات، على أمل أن يتمكن زوجها من إقناع جماعة "أنصار الشريعة" في ليبيا بتمويل المبادرة، وهو ما رفضه التنظيم. وقالت ليلى إن التدريبات التي صاغتها أمها شملت مشاهدة مقاطع فيديو تصور جنوداً أميركيين يعتدون جنسياً على نساء عراقيات.
دورها في هجوم بنغازي
في أعقاب هجمات 2012 التي أودت بحياة أربعة أميركيين في المجمع الدبلوماسي الأميركي في بنغازي، ساعدت فلوك إكرن في مراجعة وتلخيص الوثائق المسروقة من المجمع، قبل تقديمها إلى جماعة "أنصار الشريعة"، المصنفة إرهابياً في الولايات المتحدة.
وبعد رفض تنظيم "أنصار الشريعة" رغبتها في إنشاء كتيبة عسكرية للفتيات، أجبرت فلوك إكرن عائلتها على الانتقال إلى سوريا، وذلك بين أواخر عام 2012 وأوائل 2013، حيث انضمت إلى صفوف "جبهة النصرة"، إحدى فروع تنظيم "القاعدة"، التي أصبح زوجها مترجماً رئيساً لها.
وعاشت السيدة الأميركية وأسرتها في مصنع مهجور في أطراف حلب، وأثناء إقامتها هناك، طرحت على جبهة النصرة فكرة إنشاء كتيبة نسائية، إلا أن مقترحها قوبل بالرفض، مما دفعها إلى ترك التنظيم والسفر إلى تركيا، مع ابنتها ليلى التي أصيبت بحمى التيفود. وتقول ليلى إن والدتها لم تأخذها إلى تركيا لتلقي الرعاية الطبية إلا بعد أن وجدت فرصة لتأمين المال من عائلة زوجها، الذي بقي في سوريا، يعمل مع تنظيم "داعش"، حيث ترقى وأصبح مشرفاً على تدريب القناصين.
وبعد رحلة محفوفة بالأخطار أثناء عبور الحدود إلى تركيا، حيث الحقول المليئة بالألغام، اتجهت فلوك إكرن إلى السفارة الأميركية في العاصمة التركية أنقرة، لاستخراج جوازات سفر جديدة لعائلتها. ويذكر تقرير للخارجية الأميركية أن إجابات فلوك إكرن حول أنشطة زوجها في بنغازي أثارت شكوك مسؤولي السفارة.
"داعش" حقق حلمها
بعد تركيا، انتقلت فلوك إكرن وعائلتها إلى الموصل العراقية في عام 2015، وكلفت من قبل تنظيم "داعش" متابعة شؤون الأرامل اللاتي قتل أزواجهن، لكنها لم تلبث أن عادت وعائلتها إلى سوريا، حيث قتل زوجها إكرن في غارة جوية أثناء عملية استطلاع تحضيراً لهجوم إرهابي.
وفاة الزوج أجبرت فلوك إكرن على الزواج من أحد مقاتلي "داعش" في عام 2015، في محاولة لكسب نفوذ سياسي في التنظيم بهدف تأسيس كتيبة نسائية بحسب رواية ابنتها. وبالفعل تحققت رغبة الأميركية، وبدأت تدريب النساء في الرقة بسوريا على استعمال بنادق "AK-47"، والقنابل اليدوية والأحزمة الناسفة، في وقت كان طموحها هو مهاجمة الولايات المتحدة، واستهداف مركز تسوق، وكلية في إحدى ولايات الغرب الأوسط.
وتتالت لاحقاً بحسب "نيويورك تايمز" زيجات فلوك إكرن، إذ تزوجت رجلاً بنغلاديشياً يعمل لصالح "داعش"، كمتخصص في طائرات الدرون، ثم ارتبطت بزعيم في جيش التنظيم كان مسؤولاً عن الدفاع عن الرقة، ولقي حتفه في إحدى المعارك.
ابنتها أطاحتها
قصة إطاحة فلوك إكرن بدأت مع هروب ابنتها ليلى من الرقة في خريف عام 2017، وتوقفها عند نقطة تفتيش في بلدة الباغوز شمال شرقي سوريا، تديرها "قوات سوريا الديمقراطية". لاحقاً ذلك العام، ظهرت ليلى في مقابلة مع شبكة "سي بي أس" الأميركية من دون الكشف عن هويتها، حيث قالت إنها من كانساس، وإن والدها أجبرها على المجيء لسوريا، مناشدة والدتها التواصل معها. ولخصت ليلى البالغة من العمر 15 سنة آنذاك الظروف المأسوية التي عاشتها في زواجها من أحد مقاتلي "داعش" الذي قتل في غارة جوية، وهي حامل منه.
وفي محاولاتها اللاحقة للعثور على والدتها، أنشأت ليلى حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي، ونسقت مع مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، الذي تعقب محادثاتهما، التي بدأت في ديسمبر (كانون الأول) 2020، بعد أن بعثت الأم لابنتها رسالة عبر تطبيق مراسلة مشفر، قالت فيها "أنا خائفة أيضاً، أتساءل عما إذا كنت أتحدث إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، لا أعرف. هل يمكنك من فضلك الإجابة برسالة".
وبعد أيام، راسلت ليلى والدتها لتطمئنها بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي ليس لديه أي اهتمام بها، لترد الأخيرة بالإشارة إلى أنها تقوم بـ"عمل رائع"، وأنها فخورة بها، مضيفة بأن ابنتها "ستعود ذات يوم إلى سوريا". وتواصلت الأم مرة أخرى، لتقول لابنتها إن والدها توفي من أجل "قضية عادلة"، وحثتها على "عدم الشعور بالندم".
وفي صيف العام الماضي، اعتقلت قوات مجهولة في سوريا فلوك إكرن بحسب "نيويورك تايمز"، قبل أن يلقي الـ"أف بي آي" القبض عليها في يناير، ويعيدها إلى الولايات المتحدة.
مأساة الطفل المتبنى
مع تعدد الزيجات وانتقالها من جماعة إرهابية إلى أخرى، تركت فلوك إكرن ضحايا كثراً، منهم طفل متبنى، و11 طفلاً أنجبتهم، قتل اثنان منهم في سوريا، هما زيد البالغ من العمر خمس سنوات، وآخر رضيع. وفي حين يعيش أحد أبنائها في تركيا، ويحظى ستة آخرون بالرعاية في دور الحضانة في ولاية فرجينيا، فإن ابنتها الكبرى ألينا لا تزال مفقودة.
وأثناء التحقيق معها، ذكرت فلوك إكرن بأنها تملك طفلاً بالتبني، وأن إكرن هو الأب، إلا أنها أخفت عن المحققين حقيقة أكثر كآبة وفق وثائق المحاكمة، وهي أن والدي الطفل الحقيقيين قتلا في تفجير انتحاري في سوريا، بعد أن صادقت فلوك إكرن أم الطفل المتبنى، وغررت بها لتنفيذ الهجوم. وعندما امتنعت بسبب حملها، أقنعتها بأنها سوف تتبنى طفلها وتعتني به لو نفذت الهجوم.