لم تثنِ الأحداث الدامية التي شهدتها منطقة الجبل الأحد الماضي، رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية والمغتربين في الحكومة اللبنانية جبران باسيل عن زيارة طرابلس، لكنها فرضت عليه تعديلاً جوهرياً في أجندة الزيارة واللقاءات المقررة، بعد الغضب الشعبي الناجم عن تداعيات زيارة الجبل، ورفض أبناء طرابلس تعريض مدينتهم لتجربة مماثلة.
فبدلاً من أن تحصل الزيارة يوم الأحد، وفق برنامج موسع يشمل سلسلة لقاءات واحتفالات يتوّجها باسيل بعشاء في دارة النائب فيصل كرامي، استعاض زعيم التكتل المسيحي الأكبر في الحكومة والبرلمان، ببرنامج مصغّر في المدينة، فيما وسّع دائرة الزيارة لتشمل عكار وزغرتا، علماً أن باسيل كانت له جولة في زغرتا في وقت سابق.
تأتي زيارة باسيل في إطار سلسلة من الجولات التي يقوم بها على مختلف المناطق اللبنانية، ضمن إستراتيجية سياسية ينتهجها، ترمي إلى تكريس زعامته ليس ضمن طائفته فحسب، إنما على المستوى الوطني، طارحاً تياره السياسي كتيار عابر للطوائف والأحزاب، يساعده في ذلك تحالفه مع "حزب الله"، الذي يغطّي باسيل في كل تحركاته وأنشطته السياسية.
رئاسة الجمهورية
تأتي هذه الإستراتيجية على خلفية أوسع يطرح فيها باسيل نفسه مرشحاً رئيسياً لرئاسة الجمهورية، على الرغم من أن الاستحقاق الرئاسي لا يزال بعيداً، ولن يحلّ قبل خريف 2022، مستفيداً من الدعم اللامتناهي لعمّه رئيس الجمهورية ميشال عون في كل خطواته، بعدما كرّسه وريثاً شرعياً وأوحد له في الزعامة وفي رئاسة التيار، الذي أسسه قبل نحو عقدين ونصف العقد من الزمن.
لكن زيارات باسيل لم تقتصر على المناطق، حيث للتيار حضور فاعل ونفوذ، كما هي الحال مثلاً في بلدته البترون أو قضاء بعبدا، بل توسعت لتشمل مناطق محسوبة تاريخياً على أحزاب وتيارات سياسية أخرى على خصومة مع باسيل. فكانت زيارتان لكل من قضاء بشري، رعين رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ولقضاء زغرتا، عقر دار رئيس "تيار المردة" النائب السابق سليمان فرنجية.
والرجلان منافسان قويان لباسيل في السباق إلى رئاسة الجمهورية. ولكن كليهما رفضا التحدي، خلافاً للزعيم الدرزي وليد جنبلاط. فتركا الزيارتين إلى مناطقهما تمرّ من دون استفزاز، ربما لأن ظروفهما تختلف كلياً عن ظروف زعيم المختارة، الذي يشعر بمحاولات تحجيمه واستهدافه من قبل المحور السوري الإيراني وأدواته في لبنان.
غياب الحلفاء
في أيّ حال، وعلى الرغم من الكلفة الدموية التي تكبّدها الجبل على خلفية زيارة باسيل، فإن ما بعد تلك الزيارة لم يعد كما قبلها. وهذا ما أبرزته زيارة طرابلس، وما ستفرزه أي زيارة أخرى لباسيل في بيئة غير حليفة له. علماً أن الحلفاء حتى في طرابلس تداركوا الوضع وامتنعوا عن أي خطوات أو مبادرات من شأنها أن تثير الاستفزاز في المدينة.
وضمن هذا السياق، يأتي تغيب رئيس "تيار الكرامة" فيصل كرامي عن طرابلس، وامتناعه عن لقاء باسيل هو أو أي فعالية طرابلسية أخرى، كما كان مقرراً. وقد أعلن عن غياب كرامي عن طرابلس في وقت الزيارة. واقتصرت الجولة فقط على زيارة إلى هيئة التيار في معرض رشيد كرامي ولقاء شعبي مختصر، وضمن إجراءات أمنية مشددة جداً شارك فيها الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، حيث سجل انتشار أمني كبير من بلدة شكا (على بعد نحو 10 كيلومترات من طرابلس)، وصولاً إلى المدينة.
وفي هذا السياق، صدرت برقية داخلية عن قوى الأمن الداخلي تفيد بأنه في تاريخ 6 و7 يوليو (تموز) 2019 سيقوم وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل بزيارة إلى الشمال، وبسبب الأوضاع الأمنية الراهنة تُرفع نسبة الجاهزية إلى 100 في المئة في قطعات منطقة الشمال، وذلك اعتباراً من الساعة السابعة من صباح 6 يوليو 2019 وإلى حين انتهاء المهمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدت واضحة عدم رغبة باسيل في استفزاز الشارع الطرابلسي، ذات الغالبية السنية المناصرة لرئيس الحكومة رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري، ولاقاه بذلك الشارع. فلم يتجاوز عدد المتظاهرين المعترضين عليها الـ 50 شخصاً، فيما غابت القيادات الطرابلسية عن السمع وعن الإدلاء بأي موقف يمكن أن يفسر خارج إطاره، فيستدعي تحرّكاً في الشارع. وعزت مصادر شمالية هذا الأمر إلى حرص قيادات المدينة على أن تمرّ الزيارة على خير، فلا تترك أي تداعيات على الجمهور الطرابلسي، في ظل الظروف الدقيقة والحرجة التي تمر بها البلاد عموماً وعاصمة الشمال على وجه الخصوص.
لكن باسيل الذي آثر التهدئة حرصاً على عدم استفزاز الشارع، وجه التحية إلى الحريري، معرباً عن دعمه له، ومدافعاً عن صلاحياته في موقع رئاسة الحكومة، ووجه سهامه نحو رئيس "القوات" جعجع، مستحضراً، كما في الجبل، الخطاب التعبوي في مرحلة الحرب، معيداً نكء جراحها عبر استعادة جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي.
انتهت زيارة باسيل إلى طرابلس على خير، قبل أن ينتقل إلى عكار من ثم إلى رشعين في زغرتا. لكن تداعيات جولاته ستترك بصماتها على المشهد السياسي في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن معظم الفرقاء الذين طاولهم الاستهداف لن يبقوا ساكتين طويلاً.