لعل من غرائب الأمور التي تتعلق بأدب الكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز أن قراءه ومؤرخي أدبه وسيرته لا يزالون يخوضون حتى اليوم سجالات تتعلق بروايته الكبرى "دافيد كوبرفيلد" المعتبرة الوحيدة القادرة على منافسة روايته الأساسية الثانية "أوليفر تويست" على احتلال المكانة الأولى في ترتيب أعماله من حيث القوة والشهرة. ويدور السجال من حول ما إذا كانت تلك الرواية التي صدرت في وقت متأخر نسبياً عن زمن صدور "أوليفر تويست" وعن "نيكولاس نايكلباي" و"بارنابي ريدج" وقبل دزينة من السنوات من صدور "آمال كبيرة"، رواية أم سيرة ذاتية للكاتب، ومصدر الغرابة أن ديكنز نفسه حسم الأمر قبل نحو مئتي عام، مؤكداً أن "دافيد كوبرفيلد" رواية مستقاة في بعض جانبها من سيرته الذاتية، لكنها ليست سيرته الذاتية تماماً. فكيف كان ذلك؟
سيرة أم لا سيرة؟
الحقيقة أن ديكنز كان في نحو الـ33 من عمره في عام 1845 حين قرر بالفعل أن الوقت قد حان ليكتب سيرته الذاتية. فرواياته الكبرى كانت قد أضحت وراءه وكانت شهرته قد طبقت الآفاق وها هم كثر من قرائه في أنحاء عديدة من العالم، يطالبونه بذلك. وهكذا انصرف خلال السنوات الثلاث التالية إلى كتابة عديد من الفصول منكباً على العمل ببطء يحمل شيئاً من التردد. وفي نهاية الأمر انتصر لتردده وقرر التوقف عن كتابة سيرته بشكل صريح. لماذا؟ لأنه حين وصل إلى الفصول التي يتحدث فيها عن غرامه الأول الكبير في حياته والذي تزامن مع حقبة بالغة الصعوبة من تلك الحياة كان فيها يشتغل عاملاً في مصنع للأحذية ويعيش نفس حياة البؤس التي عيشها لأطفال يصغرونه سناً في روايات أخرى له، هي على أي حال أشهر رواياته وأنجحها. وهنا تضافر لديه عدم رغبته في تكرار حكايات ارتبطت بأبطال آخرين ملأوا تلك الروايات، مع رغبته في الامتناع عن الحديث عن غرامه القديم وربما بطلب من زوجته التي كان يطلب منها قراءة المسودات. وأوقف السيرة عند نقطة لم يعد مقدوره أن يتجاوزها "وقررت أن أمزق كل الأوراق التي كتبتها" كما يؤكد.
صفحات لم تُمزق
لكن صديقه وكاتب سيرته لاحقاً جون فوستر سيؤكد أنه لم يمزق كل الأوراق بل استعمل كثيراً منها في "دايفيد كوبرفيلد" التي لا شك أنها تروي في نهاية الأمر حكاية "مستوحاة" من سيرته "والديل الأكبر على هذا، بحسب فوستر، أن هذه الرواية هي الوحيدة التي تُحكى لنا من طريق راو هو بطلها" حتى ولو كانت في تفاصيل كثيرة منها تبتعد عن سيرة ديكنز المعروفة، التي تفنن كثر في روايتها من جون فوستر خلال حياة الكتاب وبعدها، إلى بيتر آكوريد الذي أصدر عند نهايات القرن الـ20 سيرة لديكنز تعتبر الأكمل والأقوى، واستنكف فيها هذا الكاتب الكبير التركيز على "دايفيد كوبرفيلد" باعتبارها سيرة حقيقية لديكنز بأكثر مما تحتمل. ولكن لا فورستر ولا آكرويد ولا كثر غيرهما فاتهم أن يجدوا في كثير من التفاصيل مرآة لمراحل من حياة الكاتب. وذلك طبعاً بدءاً من مشهد شبه افتتاحي يصور لنا دافيد صبياً صغيراً أرسلته أمه ذات يوم ليقيم فترة لدى أهل مربيته بيغوتي عند شاطئ البحر في يارموث، حيث بلغت سعادته ذروتها وهو يجمع الأصداف ويشارك في صيد السمك وقد نسي حتى أمه الحبيبة التي عهدها حزينة على أبيه الذي مات قبل ولادته هو بأشهر فلم يعرفه أبداً. كانت إجازة رائعة أمضاها خارج عالم الحزن الذي كان يلف البيت. ولكنه حين عاد بعد 15 يوماً، وجد مفاجأة كبيرة في انتظاره: لقد تزوجت أمه خلال غيابه من ذلك الرجل القاسي النظرات الذي كان يراه بين الحين والآخر يزور الأم الأرملة الحزينة مسرياً عنها. وإذ يخبرنا دافيد الذي يروي لنا الحكاية بنفسه بهذا يضعنا على أول درب آلامه في عهدة "أب جديد" فرض عليه ولم يكن هو يحبه على الإطلاق!
حكايات الطفولة نفسها
هكذا، إذاً تنطلق الحكاية لتبدو شبيهة إلى حد ما بحكايات الأطفال الآخرين الذي يحكي لنا ديكنز حكاياتهم البائسة، ولكن مع مرارة وضروب بؤس لا تقارن بها أي حياة أخرى عاشها أي من أطفال معظم روايات ديكنز، حيوات وجهت أشد أسهم الإدانة والانتقاد للطريقة التي كانت تعامل بها الطفولة في إنجلترا النصف الأول من القرن الـ19 وسيكون لها دور كبير في التعديلات التي طالت القوانين الاجتماعية البريطانية من ناحية تعاملها مع ضروب العسف والظلم التي يعامل بها أطفال من دون حماية متروكين لمصائرهم بين أيدي تجار الجوع، عمالاً تحت سن العاشرة وأحياناً تحت السابعة، سواء كانوا أيتاماً أو غير أيتام. ومهما يكن من الأمر وحتى لو أننا لسنا في حاجة لأن نروي حكاية "دايفيد كوبرفيلد" في تفاصيلها، أولاً لأن تفاصيلها تحتاج إلى ما لا يقل عن صفحات، وبعد ذلك لأنها معروفة على الصعيد العالمي سواء من خلال مئات الطبعات الإنجليزية أو من خلال ترجماتها إلى معظم لغات العالم، ثم تحويلها إلى مسرحيات وأفلام سينمائية وتلفزيونية وشرائط مصورة وما إلى ذلك، فإنه لا بد لنا هنا من بعض المؤشرات ومنها للتذكير أن الرواية تتبع على لسان شخصيتها الرئيسة الجزء الأكبر من سنوات حياته منذ طفواته المبكرة وصولاً إلى الزمن المتقد جداً الذي صار فيه كاتباً كبيراً يريد الآن أن يروي حكايته لقرائه بعدما حكى لهم كثيراً عن "أبطال" آخرين.
حكاية الراوي
والراوي الذي هو كما أشرنا غير مرة أعلاه، الشخصية المحورية في الرواية، فقد أباه قبل مولده بستة أشهر فربته أمه الأرملة التي سرعان ما تكشف عن ضعف في شخصيتها ورضوخ لواقعها يكاد هو أن يكون السبب الرئيس ليس فقط في الحياة البائسة التي سيعيشها ابنها الذي سيضطر للكفاح وحيداً حتى يتمكن من تجاوز بؤس طفولته وكآبة صباه، بل كذلك في رحيلها هي نفسها في شرخ صباها بعدما أنجبت لبكرها الراوي من زوجها الثاني بعد فقيدها دايفد كوبرفيلد الأب، مستر ماردستون، أخاً سيكتشف وجوده في وقت ينزامن مع اكتشافه موت أمه وأيضاً بسبب شخصيتها المتخاذلة هي التي لم تتمكن أبداً من حماية دافيد من جور مادستون وتواطؤه مع أخته الشمطاء للاستيلاء على كل ما كان قد تبقى للأرملة المسكينة ومن ثم توجيه الضربات الواحدة بعد الأخرى إلى دافيد الذي سيتمكن على أي حال من تجاوز ذلك كله في بقية فصول الرواية، وذلك رغم أنه عاش بقية عمره مفتقداً من يعتني به محتاجاً إلى حسن التوجيه حتى حين يصبح شاباً ثم رجلاً بالغاً ويعيش زيجتين أولاهما من دورا سبينلو، والثانية من آغنس ويكفيلد، غير أن أياً من تينك الزيجتين لم تعوض عليه حنان أمه وتنسيه ذكريات طفولته البائسة وصباه المر. ما يجعله يبدو بصورة دائمة غير مكتمل النضج مهما كان مقدار التعويض الذي أمنه لحياته على بؤس القسم الأول من تلك الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من التحليل إلى التبرير
ولعل من شأن هذا الجانب التحليلي من الحكاية أن يتحول إلى جانب تبريري إذا افترضنا أن ديكنز إنما حرص هنا ولو بصورة مواربة، على استخدام هذه الرواية كنوع من تبرير متأخر للظلم الذي كان يستشعر في تلك المرحلة التي كتب فيها "دافيد كوبرفيلد" على شكل رواية وقد تخلى عن التعامل معها كسيرة ذاتية له، نوعاً من الحاجة لأن يخبر من حوله، ومن ثم قراءه بأن خيانات زوجية ارتكبها في حق زوجته، وغالباً مع ممثلات من صديقات الطرفين، ليست "خيانات" بل مجرد التعويض على افتقاد للحنان يعيشه منذ الصغر؟ ربما. ففي هذا المجال على الأقل قد يكون في مقدورنا أن نفترض أن تشارلز ديكنز حمل معه إلى قبره أسراراً ما، لكنه ترك في "دافيد كوبرفيلد"، التي تتوسط مساره الإبداعي الذي بدأ قبلها بـ20 عاماً وسيعيش هو 20 عاماً بعدها، ترك علامات على شكل أحجيات كما يفعل عادة كبار المبدعين، لا سيما في تأرجح روايته هذه بين الرواية التخييلية والسيرة الذاتية.