Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بي بي سي": من الماضي إلى الحاضر والمستقبل المبهم

رافقتنا هيئة الإذاعة البريطانية مدة 100 عام – ولا تزال بعض أولى برامجها معنا – ولكن هل ستستمر هذه المؤسسة الوطنية إذا ألقت بها الحكومة لتكون تحت رحمة قوى السوق

مئة عام من الـ"بي بي سي" (غيتي/ بي بي سي)

كيف للمرء أن يلخص 100 سنة من تاريخ هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)؟ عادة ما نشعر بأنها جزء راسخ من مكونات بلدنا مثل الشاي أو الطرق السريعة أو حتى الأوكسجين. كيف يمكن شرح هذا؟ وهي تغيرت ونمت نمواً هائلاً على مر العقود، إلا أنها ظلت لفترة طويلة القوة الثقافية لبريطانيا وأولى طرق تواصلنا مع العالم الخارجي ومع أنفسنا. وهذا الحضور المطلق عينه هو الذي جعلها عرضة لخطر التعامل معها على أنها من المسلمات، سواء من جانب الجمهور البريطاني أو حتى من جانب القائمين عليها.

ولم يكن الأمر بهذه الصورة دائماً بطبيعة الحال. حين إطلاقها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1922، كانت هيئة الإذاعة البريطانية المحدودة كياناً مختلفاً. وفي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) افتتحت الهيئة بثها للمرة الأولى في اليوم السابق للانتخابات العامة. في اليوم التالي بثت "بي بي سي" نتائج الانتخابات التي نجح فيها حزب المحافظين بالاحتفاظ بالسلطة مع تحقيق حزب العمال قفزة نوعية متخطياً الليبراليين ومتحولاً إلى منافس المحافظين الأبرز. (بالطبع كان هذا قبل فترة طويلة من إطلاق برنامج "بي بي سي" الشهير "مؤشر الاتجاهات" Swingometer [الذي قام بتحليل نتائج الانتخابات]).

يقول ديفيد هيندي وهو منتج سابق في "بي بي سي" ومؤلف كتب من بينها كتاب "بي بي سي: تاريخ شعب"، "عام 1922، كان بإمكاننا فعلاً رؤية الأساس لما تعتبره بي بي سي مشروعاً ثقافياً وليس مجرد تكنولوجيا فحسب، بل مجموعة من الأفكار في شأن كيفية تحسين حياة الناس. لقد كان الأمر يستند إلى رؤية ثقافية وأخلاقية."

لربما كان عام 1922 هو تاريخ ميلاد "بي بي سي"، لكن كثيرين يرون أن عام 1926 هو العام الذي بلغت فيه رشدها. آنذاك، أدى إضراب عام نظم دعماً لعمال مناجم الفحم إلى توقف الصحف، وبين عشية وضحاها أصبحت "بي بي سي" ضرورية لأي شخص يرغب في متابعة الأخبار. وفي نهاية ذلك العام، جرى حل شركة الإذاعة البريطانية وإصلاح هيكلها لتصبح كما نعرفها اليوم. غير أن الإضرابات وتغطية "بي بي سي" لها أثارت تساؤلات جديدة عن مهمة الهيئة. يقول هيندي: "من الواضح أنها لحظة يمكننا فيها رؤية جوانب ضعف بي بي سي في مواجهة تهديد الاستيلاء الحكومي، ويمكننا أيضاً أن نرى بي بي سي تتصرف بحذر وتغير التغطية الإخبارية رداً على هذا التهديد. بالتالي تمكنت بي بي سي من النجاة والبقاء. لكن هذا يكشف أيضاً أن للحكومة سلطة مطلقة للهيمنة عليها في حالات الطوارئ الوطنية".

أين مضت "بي بي سي" منذ ذلك الحين؟ بدأت خدمة تلفزيون "بي بي سي" بشكل رسمي عام 1936 بعد بضع سنوات من البث التجريبي من الطابق السفلي لدار الإذاعة، وتراوحت برامجها من مسلسل الرسوم المتحركة ميكي ماوس إلى تغطية مراسيم تتويج الملك في مايو (أيار) 1937، علماً أن القناة ظلت مغلقة طوال فترة الحرب العالمية الثانية. وأثبتت الحرب قدرتها على إحداث تحول ليس فقط في نشر ما تنتجه "بي بي سي" الآخذة في التوسع في مختلف أنحاء العالم آنذاك، بل أيضاً في تمكينها من تبني هوية أكثر عالمية مع قدوم اللاجئين الأوروبيين وغيرهم من المهاجرين إلى لندن وبدئهم العمل فيها. وعندما استأنفت "بي بي سي" بثها التلفزيوني، حيت المذيعة ياسمين بلاي المشاهدين بقولها: "مساء الخير للجميع، ‫كيف حالكم؟ هل تذكرونني؟"

مع دخول بريطانيا النصف الأخير من القرن، حل الازدهار تباعاً مكان تقشف زمن الحرب وهو ما كانت له تداعياته الخاصة على "بي بي سي". وربما كان هذا جلياً في ازدهار سوق أجهزة التلفاز المنزلية. وشاهد تتويج الملكة إليزابيث عام 1952 أكثر من 20 مليون شخص في المملكة المتحدة وحدها. (أنا متأكد من أنك كنت سترى وجوهاً مصدومة إذا أخبرت أي شخص ممن كانوا يشاهدون ذلك أنه بعد 70 عاماً ستتشارك الملكة نفسها شاشة "بي بي سي" مع نسخة أنتجت بواسطة الكمبيوتر من شخصية الدب بادينغتون الكرتونية).

لكن التلفاز لم يكن قد سيطر بعد. واصلت محطات الإذاعة التابعة لـ"بي بي سي" الابتكار، إذ شهدت الأربعينيات وأوائل الخمسينيات إطلاق عدد من أفضل المسلسلات الإذاعية. ويعتبر برنامج "أقراص الجزيرة الصحرواية" Desert Island Discs الذي أطلق عام 1940، وبشكل لا يصدق إلى حد ما، لا يزال واحداً من أهم سلسلة مقابلات المشاهير في العالم حتى يومنا هذا. بينما بدأ عرض مسلسل "الرماة" Archers و"العرض السخيف" The Goon Show عام 1951، مما يثبت أن "بي بي سي" يمكن أن تكون بارعة على حد سواء في إنتاج الدراما المتزنة، كما في الكوميديا الجريئة.

في خمسينيات القرن الماضي بدأت "بي بي سي" بإفراد جناحيها على صعيد البث التلفزيوني من خلال برامج مثل "تجربة كواترماس" (1953) The Quatermass Experiment، الاقتباس اليتيم لـ"ألف وتسعمئة وثمان وأربعين" (1954) أو المسلسل البوليسي الدرامي "الشرطي ديكسون من قسم دوك غرين" Dixon of Dock Green، وفي الوقت ذاته أثبت المسلسل الكوميدي "نصف ساعة هانكوك" (استمر من 1954 إلى 1961) Hancock's Half-Hour، تأثيره الكبير في تطوير ما سيصبح لاحقاً الكوميديا التلفزيونية الحديثة. كذلك بدأ ديفيد أتنبره حياته المهنية التي دامت سبعة عقود منتجاً للوثائقيات المعنية بالطبيعة وكان محورياً في إنشاء وحدة التاريخ الطبيعي في "بي بي سي" عام 1957.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبمرور السنين واصلت "بي بي سي" إضفاء تنوع أكبر على برامجها. أصبح أتنبره مراقباً في "بي بي سي 2" عام 1965 وتمت ترقيته إلى مدير عام للبرامج بعد أربع سنوات. وكان تعيين السير هيو كارلتون غرين مديراً عاماً عام 1960 إيذاناً بعهد جديد من الإصدارات الطموحة والمثيرة. يقول هيندي: "يؤسس غرين لفكرة أن بي بي سي يجب أن تنتظم في بعض الأحيان في مضايقة الناس"، مضيفاً "قال لموظفيه ’إذا لم تضايقوا الجمهور أو تزعجوهم في بعض الأحيان فأنتم لا تؤدون عملكم على أكمل وجه‘".

وبعد فترة وجيزة من اشتهارها باسم تلفزيون "بي بي سي"، تغير اسم خدمة تلفزيون "بي بي سي" السابقة إلى "بي بي سي 1" عام 1964 تزامناً مع إطلاق "بي بي سي 2". قدمت القناة الجديدة منصة برامج كانت لجمهور متخصص بعض الشيء، بدءاً من المسرحيات التلفزيونية الديستوبية مثل "عام الألعاب الأولمبية الجنسية" The Year of the Sex Olympics إلى الأفلام الوثائقية مثل الحضارة Civilisation أو الأفق Horizon. في تلك الأثناء كانت القناة الرئيسة لهيئة الإذاعة البريطانية تزداد قوة، إذ جلبت حقبة الستينيات برامج بما في ذلك "زد كارز" Z - Cars، و"كان ذلك الأسبوع الذي كان" That Was the Week That Was، وبرنامج "توب أوف ذا بوبس" Top of the Pops، و"عالم الغد" Tomorrow's World، و"عودة كاثي" Cathy Come Home، و"سيرك مونتي بايثون الطائر" Monty Python' s Flying Circus و"جيش أبي" Dad’s ArmyK، إضافة إلى ذلك، برنامج الخيال العلمي الذي لم يخل من الحماقة طبعاً وهو "الدكتور هو" Doctor Who.

وفي السبعينيات بدأت "بي بي سي" التنازع مع حكومة حزب العمال التي طرحت للمرة الأولى فكرة إلغاء رسوم الاشتراك السنوي وجرى قطع التمويل. على رغم ذلك قدم ذلك العقد عدداً من أفضل مسلسلات "بي بي سي" المحبوبة ومن بينها: "اختبار الصافرة الرمادية القديمة" The Old Grey Whistle Test و"الحساء" Porridge و"هل تتم خدمتك؟" Are You Being Served و"أبراج فولتي" Fawlty Towers و"طرق الرؤية" Ways of Seeing و"ليست أخبار الساعة التاسعة" Not the Nine O'clock News و"تلة غرينج" Grange Hill و"وقت الأسئلة" Question Time. وخلف الكواليس بالطبع كانت الشركة أيضاً تتعرض لتلطيخ السمعة بسبب حالات الإساءة الجنسية الشنيعة التي لم تكشف للعلن إلا بعد عقود.

"هناك مرتان فقط على ما أعتقد تعرضت فيهما بي بي سي لتهديد وجودي فعلي" جين سيتون

كان عهد مارغريت تاتشر صعباً للغاية، فقد كانت الحكومة المحافظة اليمينية المتشددة تتصادم في كثير من الأحيان مع "بي بي سي". وتقول جين سيتون المؤرخة الرسمية لـ"بي بي سي": "هناك مرتان فقط على ما أعتقد تعرضت فيهما بي بي سي للتهديد لوجودها الفعلي. في المرة الأولى السيدة تاتشر التي كانت في الواقع نوعاً ما تدعم بي بي سي. وجاءت تاتشر بنظرية مفادها بأن بي بي سي كانت إذاعة تتلقى الدعم الحكومي فعلاً، بالتالي سيكون أداؤها أفضل إذا ذهبت إلى السوق".

كما دقت حرب جزر فوكلاند إسفيناً بين حكومة تاتشر و"بي بي سي". ويقال إن مقدمي الأخبار تلقوا تعليمات بالبقاء محايدين أثناء النزاع وتحاشي استخدام الضمائر مثل "نا" في وصف القوات البريطانية. وادعت تاتشر في مذكراتها أن "بي بي سي"، إلى جانب قناة "آي تي في" ITV، كانتا "تساعدان العدو" في الإبلاغ عن تحركات القوات البريطانية.

ومع ذلك انهارت حجة تاتشر بعد نشر تقرير بيكوك عام 1985. واشتمل التقرير الذي أعدته لجنة بناء على طلب تاتشر على استعراض استشاري لتمويل "بي بي سي". غير أن اللجنة وخلافاً للتوقعات خلصت إلى أنه لا ينبغي إلغاء الرسم السنوي واصفة إياه بأنه أقل "الخيارات سوءاً".

ولطالما كان هناك تنوع يستدعي الإعجاب في برامج "بي بي سي" غير الإخبارية. ولطالما امتازت "بي بي سي" بقدرتها على عرض بعض العروض السيئة من الدرجة الأولى، وبالطبع استمر عرض البرنامج الترفيهي "المنستريل الأسود والأبيض" The Black and White Minstrel Show بشكل صادم لمدة 20 عاماً لينتهي لسبب ما في وقت ليس بعيداً عام 1978. لكن "بي بي سي" كانت أيضاً موطناً للكوميديا التي لا تضاهى) أفسحت عروض مثل "أبراج فولتي" Fawlty Towers المجال لإنجازات لاحقة مثل "المكتب"  The Office  و"في قلب الحدث" The Thick of It). وبرامج الدراما الرائدة مثل ("الأولاد من بلاكستاف" Boys from the Blackstuff لمؤلفه آلان بليدسديل و"رؤوس تتكلم" Talking Heads لمؤلفه آلان بينيت و"المحقق الطرب" Singing Detective لمؤلفه دينيس بوتر).

لطالما كانت "بي بي سي" على علاقة شد وجذب مع المحطات التلفزيونية الخارجية. وأصبحت الانتاجات الأميركية مثل المسلسلين "كوجاك" Kojak و"ستارسكي  وهاتش" Starsky and Hutch ضروريات أساسية في السبعينيات، لكن الجماهير طالبت ببرامج محلية أكثر. وبمرور السنين ظلت "بي بي سي" منفذاً أساسياً لمتابعة عدد من أفضل المسلسلات الأجنبية من الدراما الأميركية مثل "ذا واير" The Wire أو "رجال مجانين" Mad Men إلى أفلام الإثارة الاسكندنافية مثل "القتل" The Killing.

خارج هذا، أظهرت "بي بي سي" نفسها أيضاً على أنها الأفضل في كل شيء من الرياضة إلى الأفلام الوثائقية إلى الفعاليات الموسيقية. كان هذا التنوع مذهلاً بمنتهى الصراحة. ومن غير المفهوم بأي منطق تقريباً أن عرضاً مثل المسلسل الكوميدي الإيرلندي "أبناء السيدة براون" Mrs Brown's Boys، الذي وصفته صحيفة "اندبندنت" ذات مرة بأنه "مروع جداً لدرجة أنه من المؤلم جسدياً أن تتابعه حتى النهاية"، يمكن أن يبث في أسبوع وفي الأسبوع التالي يعرض المسلسل الكوميدي البريطاني "سيارة ستيوارت لي الكوميدية" Stewart Lee's Comedy Vehicle. لو فعلت ذلك أي شبكة تلفزيونية أخرى لكانت اتهمت بعدم معرفة جمهورها. لكن هذا هو الأمر برمته: جمهور "بي بي سي" هم كل الناس تقريباً.

ولربما يكمن مفتاح الصيت الدائم لـ"بي بي سي" في استمراريتها التي لا مثيل لها إلى حد كبير. وقد استمر عرض عدد من العروض الأكثر شعبية اليوم لعقود. وتحمل سلسلة علم الفلك "السماء في الليل" The Sky at Night الرقم القياسي لكونها أقدم برنامج يقدمه المقدم نفسه في تاريخ التلفزيون وهو من تقديم السير باتريك مور منذ بثه للمرة الأولى في 24 أبريل (نيسان) 1957 حتى 7 كانون الثاني (يناير) 2013. "مباراة اليوم"Match of the Day، "بانوراما"Panorama، "إيست إندرز" EastEnders، "هل لدي أخبار لك" Have I Got News for You. جميعها من مسلسلات "بي بي سي" التي أصبحت جزءاً حياً ومتطوراً من الثقافة وهي عروض ترعرعت جميع الأجيال المتعاقبة على مشاهدتها وتمكنت من الاستفادة منها.

هذا لا يعني أن كل شيء كان يسير على ما يرام. فقد تحملت "بي بي سي" نصيبها العادل من الفضائح على مر السنين، وهذا متوقع وإلى حد ما في حالة مؤسسة إعلامية بحجمها الضخم الذي تصعب السيطرة عليه. ولكن لم يتوقع أحد ما ظهر في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، عندما تبين أن المقدم المخضرم جيمي سافيل الذي توفي منذ عام مضى كان شخصاً بغيضاً ومولعاً بالجنس مع الأطفال أثناء وجوده تحت رعاية "بي بي سي". وأثيرت التساؤلات حول تحقيق لـ"نيوزنايت" Newsnight الذي زعم بأن "بي بي سي" طمست القصة. يقول هيندي، "كانت العملية برمتها صادمة للغاية. كان الأمر كما لو كانت بي بي سي تلتهم نفسها. حين ترى أن برنامج ’بانوراما‘ بدأ يحقق في نيوزنايت، فأنت تدرك أن بي بي سي في ورطة".

"فرضت حكومات المحافظين تقييدات شديدة على القدرات الحالية لبي بي سي" توم ميلز

على رغم أنها بلا شك أسوأ وصمة لحقت بسمعة "بي بي سي"، إلا أن فضيحة سافيل كانت أبعد ما تكون من كونها الشيء الوحيد الذي زعزع الثقة بـ"بي بي سي" خلال السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2018 شهدت المؤسسة انحدار ثقة الجمهور بها من 75 إلى 55 في المئة (وفقاً لرويترز)، على رغم أنها لا تزال مصدر الأخبار الأكثر موثوقية في البلاد.

وشهدت الانتخابات التي جلبت المحافظين إلى السلطة عام 2010 ضغطاً على "بي بي سي". وتبدو المسألة أيديولوجية بالنسبة إلى كثير من المحافظين. في عام 2004، شدد مركز أبحاث يديره دومينيك كامينغز (مستشار نافذ لحزب المحافظين قبل سقوطه المخزي في منتصف الجائحة) على ضرورة أن "يقوض" اليمين البريطاني مصداقية "بي بي سي" معتبراً إياها "العدو اللدود" للحزب.

ويقول هيندي "بخاصة منذ عام 2019، كان هناك مكون فكري ينتقد بي بي سي لكونها جزءاً من ’النخبة الليبرالية في المدن‘ وما إلى ذلك، وهذه على ما أعتقد محاولة لإبعاد الجمهور عن بي بي سي. ولذا أعتقد بأن المناخ السياسي في السنوات الأخيرة هو حقاً، مرة أخرى، مناخ سام لبي بي سي للتعامل معه".

وقد مارس المحافظون ضغطاً هائلاً على "بي بي سي" مع خطط لإلغاء رسوم الترخيص من المقرر تماماً أن تدخل حيز التنفيذ في غضون خمسة أعوام. وبحسب ما يوضحه توم ميلز مؤلف كتاب "بي بي سي أسطورة القطاع العام" The BBC: Myth of a Public Service "فإن انخفاضاً هائلاً قد حدث في دخل بي بي سي في وقت تتزايد مشاهدة الجمهور للمحتوى عبر الإنترنت وعند الطلب. يتطلب التكيف مع هذا التحول التكنولوجي دعماً سياسياً كبيراً ولكن الحكومات المحافظة التي يقودها المحافظون لم ترفض دعم مثل هذا التغيير فحسب، بل فرضت تقييدات شديدة على القدرات الحالية لبي بي سي".

والمشكلة هي أن الاستراتيجية التي اختارتها "بي بي سي" يمكن وصفها على نطاق واسع بالاسترضاء وليس المقاومة. طوال فترة تزعم جيريمي كوربين حزب العمال، انتقدت شخصيات يسارية "بي بي سي" بسبب ما افترضت أنه تحيز في تغطيتها. وكان من بين أهم الشكاوى تلك المتعلقة بالمقابلة التي أجراها أندرو نيل عام 2019 قبل الانتخابات مع كوربين والتي شهدت خضوع زعيم حزب العمال لاستجواب هجومي لاذع في حين لم يظهر بوريس جونسون في البرنامج في الطرف المقابل. وعام 2016، أجرى باحثون من "تحالف إصلاح الإعلام" Media Reform Coalition تحليلاً كمياً للتغطية الإخبارية التلفزيونية ووجدوا أنه خلال عام أعطت "بي بي سي نيوز" منتقدي كوربين ضعف وقت البث الذي منحته لمؤيديه وأولت أهمية أكبر بكثير للقضايا التي يفضلها منتقدوه.

يقول ميلز، "على رغم أن بي بي سي تغيرت كثيراً في السنوات المئة الماضية إلا أن توجهها السياسي لم يتغير تقريباً بالقدر الذي قد نتوقعه. لا تزال الشبكة موجهة بشكل ساحق نحو أولئك الموجودين في السياسة الرسمية وحولها. وكذلك نحو الوايتهول [الحكومة] ووستمنستر [البرلمان]، بما في ذلك جماعات الضغط وصحافيوهم ومراكز البحث والمستشارون السياسيون والخبراء وما إلى ذلك. ومع تحول السياسة إلى اليمين حذت بي بي سي حذوها".

يقول ميلز إن المسألة تقتضي "تحولاً جذرياً للغاية في الهيكل التنظيمي لبي بي سي"، إضافة إلى "الدعم السياسي الكبير" لاستعادة ثقة كثر من الشباب اليساريين. ويتابع "هذه المجموعة من الناس محجوبة بشكل أساسي عن النظام السياسي الرسمي، وهذا يعني أن مصالحهم ووجهات نظرهم غير ممثلة بشكل جيد في أخبار بي بي سي وبرامج الشؤون الحالية. إذا جمعت ذلك مع التحولات في عادات استهلاك وسائل الإعلام، فهي قنبلة موقوتة لشرعية بي بي سي."

بالنسبة إلى "بي بي سي" فإن مشكلة تأمين جذب انتباه الشباب تنطوي على شقين، ليس أيديولوجياً بل لوجستياً أيضاً. وتأتي أزمة "بي بي سي" الحالية في وقت أصبح مستقبل البث التلفزيوني ككل في مهب الريح. في حين أن إدارة جون بيرت في التسعينيات كانت مثيرة للجدل من نواح عدة، إلا أنها شهدت قيام "بي بي سي" باستثمارات بارعة عبر الإنترنت بغية "التحصين المستقبلي" للمؤسسة إلى حد ما.

"من الطبيعي أن تخوض بي بي سي مواجهات... لأنها ملك لكم. لا أنتقد أخبار سكاي نيوز، لأنها لا تخصني" جين سيتون

لا يزال كثير مما تنتجه "بي بي سي" حيوياً وله شعبية عالمية حتى في أوساط الشباب. تستمر أفلام أتنبره الوثائقية الطبيعية في بلوغ ذروة جديدة مع كل سلسلة جديدة، كذلك كانت عروض مثل "فليباغ" Fleabag  و"بيكي بلايندرز" Peaky Blinders نجاحات تجارية هائلة في جميع أنحاء العالم. ولا شك في أن قلة من الناس فقط لا يذكرون التغطية الشاملة المذهلة التي قدمتها "بي بي سي" للألعاب الأولمبية لعام 2012. ويقول هيندي "هناك كثير من الطرق المختلفة للعودة لـبي بي سي، بالنسبة إلى أولئك الذين يقولون ويتصرفون كما لو أن بي بي سي ليست جزءاً من حياتهم".

وتقول سيتون "بالطبع ستخوض بي بي سي مواجهات. بالطبع سوف يلومها الجميع. جزئياً لأن في وسعكم لومها، لأنها ملك لكم. أما أخبار سكاي نيوز فلا أنتقدها، لأنها لا تخصني".

ليست "بي بي سي" بطبيعة الحال سوى كيان يواجه انعدام اليقين في بلد حيث يبدو أن عدم اليقين والفوضى يحكمان كل مجال من مجالات الحياة العامة. بينما تستعد المملكة المتحدة لدخول شتاء قاس، هناك احتمال أن تكون "بي بي سي" مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. وتقول سيتون "انظروا إلى بي بي سي أثناء الجائحة. لقد ازداد جمهور الراديو. وبينما نستعد للدخول في الشتاء، هل سيكون من المفيد أن نخبركم ما إذا كنتم ستحصلون على أي كهرباء؟ أو ما تفعل حين يكون ابنك على جهاز التنفس الاصطناعي؟ أشك في أن الحكومة بدأت التفكير في هذه الأمور حتى الآن. لذا سنحتاج إلى هذا النوع من الخدمة العامة".

ومع تأهب حزب العمال على ما يبدو للفوز الساحق في الانتخابات المقبلة، هناك سبب للتفاؤل الحذر بأن رسوم الخدمة ستبقى وستستمر "بي بي سي" في التكيف ومتابعة البث. بيد أن المشكلات أعمق من مجرد حكومة واحدة. مئة سنة ربما تصنع لوحة جميلة، ولكن السؤال هو ما مصير "بي بي سي" مستقبلاً.

© The Independent

المزيد من ثقافة