Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في مصائر التسوية المقبلة بالسودان

لا بد من تنازل الأحزاب عن ممارسة أي دور حكومي وتنحي قائد الجيش عن أي سلطة عسكرية

قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان (أ ف ب)

فيما ترشح، عبر وسائط مختلفة، أخبار بقرب الوصول إلى تسوية بين فرقاء السياسة السودانية، لا يعكس واقع الحال الذي تتجه إليه هذه التسوية اليوم قوةً لفعل الثورة السودانية، أقله بسبب غياب تحالف جديد يجمع قوى الثورة. وإذ لا يبدو أن هذا قد حصل، فإن الثغرات التي ستنجم عن غياب هذا التحالف هي التي ستفضي إلى تسوية موشومة بضعف ما وأساسي، سيكون هو العلامة التي تطبع التسوية المقبلة. هذا لا يعني بطبيعة الحال، أن الوضع لن يكون أحسن حالاً مما هو عليه اليوم، إذ لم يعد هناك شيء في هذا الوضع السيء جداً الذي نجم عن انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لكن في الوقت ذاته ثمة إشكالات كثيرة تكمن في غياب الفهم الموضوعي لتحديات الثورة جرَّاء السياسات القاتلة والنتائج الكارثية على السودان التي خلفتها ممارسات نظام المؤتمر الوطني. وهي إشكالات سيعني إنكارها أو عدم الاعتراف بها تحت أي ستار طهوري أو أيديولوجي - كما يفعل الشيوعيون - خصماً من قوة الثورة وتأثيرها، كما أن الاعتراف بها بحياء ومراوغة، من دون تمليك الناس الحقائق الموضوعية الصلبة حيالها، وهي حقائق صادمة، نجمت عن تلك الأوضاع المؤسفة التي خلفتها سياسات المؤتمر الوطني التي رهنت السودان عبر صفقات وديون لأطراف إقليمية ودولية، سيكون ضعفاً استراتيجياً ينبغي ألا تقع في مزالقه قوى الحرية والتغيير.

ونتصور أن في خلفية الاتفاق بشأن هذه الأوضاع التي تحتاج إلى وعي سياسي متقدم ومختلف، تكمن الاختلافات والمزايدات التي ستشغل الواقع السياسي والنقاشات التي ستجري حوله زمناً طويلاً.

مكاشفة الشعب باستحقاقات التسوية

كثيرون من الثوار لا يدركون أن الكوارث التي خلَّفها نظام الإسلام السياسي على مدى ثلاثين عاماً والسياسات الإخوانية الفاسدة التي باعت مقدرات الوطن ونهبته عبر ممارسات المؤتمر الوطني، إنما هي جزء من استحقاقات لآخرين في الإقليم والعالم، لا تسقط بالتقادم ولا بد من تسوية عقلانية سياسية لها. فهذا أمر لا تنفع معه المكابرة ولا التستر. ولا بد لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) أن تصارح جماهير الثورة بالحقائق التي تتصل بوجوب الممارسة العقلانية في تصفية آثار ما خلفته مجازفات الرعونة السياسية لممارسات المؤتمر الوطني طوال ثلاثين عاماً. ومن ذلك، استحقاقات وديون لدول إقليمية وازنة، لا يمكن تجاوز استحقاقاتها إلا بتدابير سياسية معقلنة، وإلا بمد شبكات تعاون دولي وإقليمي لتصفية ذلك الإرث المزمن من الاستحقاقات بأقل الخسائر ومن دون أي التفاف أو  تستر على الشعب أو مراوغة من تمليكه للحقائق الصادمة، رضوخاً للابتزاز المجاني الشعاراتي الذي يسوق له الشيوعيون بعدمية سياسية منقطعة النظير!

في ضوء ما ذكرنا آنفاً، نتصور أن التسوية السياسية للوضع السوداني هي بحكم الأمر الواقع، لا بد أن تتدخل فيها أجندات إقليمية ودولية. والمشكلة هنا لا تكمن في أن مثل هذه التسوية هي بالضرورة تسوية خاسرة، وإنما تكمن في القدرة على الحد من الممارسات العدمية التي يقع فيها الوضع السوداني بين حدين أقصيين هما أولاً تصرف العسكر حين أجهضوا المرحلة الانتقالية برعونة بالغة الغباء في يوم 25 أكتوبر 2021، من ناحية، والمزايدات الشعاراتية للشيوعيين ومن يتأثر بهم من لجان المقاومة؛ وثانياً ما يؤدي إلى وقوع قوى الثورة في استقطاب يكون خصماً على قوتها وتوحيدها في مركز موحد وتحالف كبير لا بد منه في أي شروط ضامنة لنجاح مشروع الثورة.

الجميع يدرك أن القوى السياسية السودانية، بما فيها المكون العسكري، تتراوح بين ارتهان ما لتأثيرات قوى خارجية والتخبط في خطاب شعاراتي كاذب ومضلل كالذي يرفعه الشيوعيون ومفاده أن السودان اليوم يمتلك كل مقومات نهوضه وحده من دون مساعدة الآخرين. وهذا بطبيعة الحال شعار طوباوي تكذبه الوقائع في يوميات السياسة السودانية.

هكذا، على مدى عام، عجزت القوى الثورية عن إسقاط الانقلاب الهش تحت ضغوط استقطاب خادع، وعن رؤية المصير السياسي للوطن من خلال وعي متقدم ومركب لإشكالات الواقع السوداني، وهو وعي إن وجد من يؤمنون به على ذلك النحو قد لا يجد من بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)  من يحاول - تحت ضغط المزايدة - التهرب من استحقاق مواجهة الشعب السوداني بالحقائق الصادمة التي لا بد من طرحها للنقاش وتنوير الناس بطبيعتها مخلفات مؤذية من مخلفات الممارسات السياسوية الضارة لنظام الإخوان المسلمين طوال ثلاثين عاماً.

شفافية التسوية

بالتأكيد أن التسوية المقبلة التي رشح أنها ستخرج مرضيةً للجميع لا تخلو من ضغوط على جميع القوى السياسية السودانية وجميع الأطراف من خلال قوى دولية تملك أوراق ضغط كثيرة على جميع الفاعلين في الساحة السياسية السودانية. وفي هذا الصدد، ربما تختلف المصالح بعد ذلك حيال بعض القضايا الشائكة والمعقدة، فتتكشف عقبات أخرى أمام مسار المرحلة الانتقالية، وقد تنتهي إلى مآل شبيه بالمآل الذي أصبح عليه الوضع الانقلابي في 25 أكتوبر 2021.

من المهم في مثل هذه التسويات التي تأتي بعيداً من أجواء الزخم الثوري، كما كان الوضع في اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019، وعلى خلفية انقسام عمودي بين قوى الثورة أن تكون هناك شفافية واضحة للذين يتولون السلطة. ونعتقد أن شخصاً مثل الدكتور عبدالله حمدوك يمكن أن يكون مناسباً للاضطلاع بمهمة رئاسة حكومة مستقلة، على أن تتم مكاشفة الشعب بالحقائق الصادمة لمخلفات الواقع السياسي لنظام الإخوان المسلمين. وفي تقديرنا أن رجلاً مثل حمدوك - الذي هو بطبيعته شخص مستقل وزاهد بالسلطة - لا يعوزه من حيث الإمكان والقدرة أن يصارح الشعب السودان بتلك الحقائق التي ستنبني عليها التسوية والمصالح الإقليمية والدولية التي تتداخل في عملية التسوية (كان حمدوك قد صارح الشعب السوداني ذات حوار بأن 81 في المئة من الاقتصاد السوداني هو خارج ولاية وزارة المالية، وفي قبضة الجيش عبر شركاته العملاقة). لذلك، من المهم إدارة نقاش وورش عمل حول التحديات التي ستواجه التسوية المرتقبة من مكاشفة صريحة بتعقيدات الوضع السوداني وإشكالاته المعقدة التي تقتضي عملية جراحية معقدة وبالغة العمق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حان الوقت الذي ينبغي فيه أن يكون منظور السياسيين السودانيين المستنيرين منظوراً قائماً على المكاشفة والمصارحة مع هذا الشعب، لأن أي تستر تحت ضغوط شعارات عدمية قد يمنع من توضيح تلك الحقائق - على سبيل المزايدة - سيكون سيراً في الاتجاه الخطأ. لا تحتاج الثورة السودانية إلى مراهقين وطوباويين، بل تحتاج إلى رجال متخصصين وواقعيين، يدركون حجم الورطة التي وقعت فيها البلاد تحت ظل حكم المؤتمر الوطني لثلاثين عاماً، ويدركون حجم الخراب الذي خلفه ذلك التجريب السياسوي الخطير للإسلاميين، كما يدركون أن المجتمع الإقليمي والدولي ليسا جمعيات خيرية، ولكنهم في الوقت ذاته يؤمنون بأن مقدرات السودان وخيراته تحتاج إلى حكم رشيد وإدارة ذكية لحكومة تكنوسياسية مستقلة يمكنها أن تحدث الفرق الجوهري الذي يخرج بالسودان من هذه الوهدة السحيقة التي ينحدر فيها بسرعة.

وإذا كان هناك طوباويون - مثل الشيوعيين - يعتقدون بإمكانية نجاح الثورة من خلال بيانات الرفض، ويظنون أن صيرورة الثورة في القرن الحادي والعشرين وعهد ثورة المعلوماتية والاتصال، هي ذاتها الصيرورة التي نجت بها الثورات الكلاسيكية في القرن العشرين فإنهم واهمون.

ضرورة تنحي البرهان

مرور هذه التسوية في تقديرنا لا بد أن يحكمه شرطان: تنازل الأحزاب السياسية جميعها عن ممارسة أي دور حكومي في المرحلة الانتقالية لصالح حكومة تكنوسياسية، وتنحي قائد الجيش عبدالفتاح البرهان عن أي سلطة عسكرية، لأن وجوده حتى على رأس المجلس العسكري المصغر والمرتقب سيشكل خطورة على مصير المرحلة الانتقالية. ففي النهاية، حتى لو صار مجلس السيادة كله من المدنيين، وأصبحت الحكومة حكومة تكنوسياسية، وتم تكوين المجلس التشريعي، ليس هناك أمان من إعادة إنتاج مأزق الانقلاب، لأنه - في كل حال - ستكون القوة العسكرية للجيش تحت يده. الأمر الذي لا تخلو معه مخاطر حقيقية من انقلاب الرجل على سلطة المرحلة الانتقالية، مرةً أخرى. إن أقل ما يجب أن يعكس اتساقاً موضوعياً وأخلاقياً لقائد الجيش مع نفسه هو أن يتقاعد ويترك أمر قيادة الجيش إلى شخصية معروفة بتوجهاتها الوطنية وميولها الديمقراطية.

إن إلقاء نظرة واحدة على المآل الذي أصبح عليه الشعب السوداني عبر الدمار والخراب الذي سمم حياته لثلاثين عاماً، تحت ظل حكم الإخوان المسلمين، وجعل منه شعباً صابراً على أوضاع مزرية وبالغة الحرج حيال مطلق ممكنات الحياة البسيطة وهي أحوال لا يمكن لأي شعب غير الشعب السوداني في العالم أن يصبر عليها، تدعو كل سياسي حصيف إلى إعمال العقل والرؤية - قبل كل شيء - بحثاً عن تدبير خلاص ممكن وسريع ينقذ هذا الشعب.

وفي ضوء هذه المعطيات، لا شك في أن التسوية السياسية المرتقبة كلما نجمت عن انقسام عمودي في الشارع الثوري سينعكس ذلك ضعفاً على طبيعة تلك التسوية، لكن الوضع بعد الانقلاب يقتضي خروجاً إلى التسوية بحدود دنيا من التوافق تنقذ البلد من حافة الهاوية!

المزيد من تحلیل