خلال العامين الماضيين ظهرت بين الحين والآخر بعض إنتاجات منصة "نتفليكس" ذات الشعبية مثل "إميلي في باريس وأشياء غريبة وأوزارك"، لكن كل هذا لا يضاهي مسلسلاً سياسياً أيقونياً مثل "التاج، The Crown" الذي غاب سنتين منذ عرض موسمه الرابع في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وها هو يعود مجدداً وسط ترقب وحماس وأمنيات، ليعيد للمؤسسة بعضاً من هيبتها وهيمنتها على سوق الدراما التلفزيونية.
في نسخة جوائز إيمي هذا العام كان حضور "نتفليكس" مصاحباً لكثير من الجدل والضيق بعد حصول لي جونغ جاي بطل مسلسل "لعبة الحبار" على جائزة أفضل ممثل، وسط نبرة عالية من الاستهجان، فكثير من المتابعين رأوا أن هناك نجوماً كانوا أحق بهذا التكريم، وأن انتشار المسلسل الكوري وشهرته لا يعنيان أبداً أنه عمل متكامل، لكن الوضع كان مغايراً تماماً في ما يتعلق باستقبال المتخصصين والجمهور لمسلسل مثل "التاج"، رهان "نتفليكس" الرابح دوماً.
سر الدراما السياسية
بالطبع الأمر يكون دائماً مختلفاً حينما يدخل "التاج" أية منافسة، حيث يحظى العمل الذي كتبه بيتر مورغان وتدور قصته حول أسرار العائلة الملكية البريطانية بتقدير واحترام كبيرين، نظراً إلى جودته الفنية العالية ولنجاح صناعه في التوفيق بين ما هو درامي وفني من دون مبالغة مخلة بالوقائع التاريخية، وبدا واضحاً تشوق الجماهير لمتابعة ما يجري داخل القصر الملكي على مدار عقود، حيث تعيش العائلة التي تتوارث العرش خلف أسوار عالية، ووفق تقاليد صارمة لا يظهر منها في نشرات الأخبار سوى القشور.
كما ارتفعت نسبة متابعة المسلسل بمعدل 800 في المئة عقب وفاة الملكة إليزابيث الثانية عن 96 سنة الشهر الماضي، وبات في قائمة الأكثر مشاهدة في دول عدة، ويستعرض العمل سيرتها ومسيرتها انطلاقاً من حفل زواجها بالأمير فيليب في نوفمبر عام 1947.
وفي نوفمبر المقبل سيتجدد الموعد مع العمل الذي بدأت "نتفليكس" خطتها الترويجية له، حيث يعد بمثابة دجاجتها التي تبيض ذهباً ويعيد إليها دوماً البريق الذي يخفت بين حين وآخر بحكاياته السياسية الجاذبة واللافتة، بعد الانحدار المأسوي الذي مر به "بيت البطاقات House of Cards" المسلسل الذي كان قد صنع مجدها في هذه الناحية، وذلك بعد خمسة مواسم مهمة انطلقت منذ عام 2013، حيث سقط سقوطاً مدوياً في موسمه السادس الذي عرض عام 2018، بعد اتهامات الاعتداء الجنسي التي طالت بطله كيفن سبيسي، فقد استبعد من العمل بعد أن أبدع في تقديم شخصية البطل فرانك أندرود السياسي الانتهازي الذي يصل إلى البيت الأبيض على أنقاض كثير من الجثث وبالتلاعب والاحتيال وتجاوز القوانين.
مسلسل الجوائز الرفيعة
إذاً العمل الذي ترشح لما يقرب من 300 جائزة رفيعة فاز منها بأكثر من 130 بمختلف فئاته، وبينها إيمي وغولدن غلوب وجوائز نقابة ممثلي الشاشة، يأتي مرة أخرى في الشهر المفضل لدى جهة الإنتاج لانطلاق الحلقات الجديدة، التي بلغت حتى الآن أربعين حلقة موزعة على أربعة مواسم، والمؤكد أنه يشكل قيمة خاصة جداً لدى مؤسسة البث الإلكتروني التي لا تزال من الأكثر شعبية على الرغم من التهديدات.
وفي الوقت الذي عبر فيه المشاهدون عن حماستهم لاستكمال متابعة تلك الحالة، خرج بيتر مورغان، مبدع القصة، ليشير إلى أنه على الأرجح سيوقف المسلسل عند موسمه السادس الذي يجري تصويره حالياً احتراماً للملكة الراحلة، دون أن يفسر ما الذي يقلل من تقدير الملكة إذا استمر في سرد حكاية العائلة التي يتابعها الجمهور بشغف، بل إن عدداً من أفراد الأسرة أيضاً لم يخفوا اهتمامهم بالعمل، وبينهم كاميلا باركز الملكة القرينة وزوجة الملك تشارلز الثالث، إذ التقت في وقت سابق من هذا العام الممثلة إميرالد فينيل التي قدمت شخصيتها، فيما زوجها كان قد أبدى غضبه من طريقة ظهوره في العمل مشدداً على أنه لا يشبه الشخصية الدرامية على الإطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد صرحت الممثلة فانيسا كيربي التي لعبت دور الأميرة مارغريت في الموسمين الأول والثاني أنها سمعت من بعض المعارف أن الملكة إليزابيث الثانية كانت معجبة بالعمل، كما أن حفيدة الملكة الأميرة يوجين قالت بشكل صريح إنها تشعر بالفخر حينما تشاهد الحلقات كذلك.
على الجانب الآخر هناك امتعاض واضح لدى باقي أفراد الأسرة بسبب التفاصيل التي ظهرت على الشاشة، وبينهم الأمير ويليام، بخاصة ما يتعلق بالأجزاء التي تتعرض لسيرة والدتهما الراحلة ديانا، وهو أمر بات معتاداً للغاية منه ومن شقيقه الأمير هاري، حيث إن لديهما حساسية شديدة في ما يتعلق بصورة والدتهما في الإعلام، وكان قد أبديا غضبهما من التعرض لأزمة والدتهما الجسدية والنفسية التي تم التركيز عليها في فيلم "سبنسر" لكريستين ستيورات، وقد يعود الأمر إلى نظرتهما إلى الإعلام عامة وأنه تورط بشكل أو بآخر في زيادة معاناة أميرة ويلز الراحلة، لا سيما في ما يتعلق بالملابسات التي أحاطت بمقابلتها التلفزيونية الشهيرة مع مارتن بشير على تلفزيوني "بي بي سي" عام 1995.
وكانت أوليفيا كولمان التي جسدت شخصية الملكة في الموسمين الثالث والرابع قد أشارت إلى أنها سألت الأمير ويليام عن مدى متابعته للعمل فأجاب حينها بالنفي.
موسم عصيب
وعلى رغم أن الموسمين الأول والثاني يعدان من أقوى مواسم العمل حتى الآن، ويتمتعان ببصمة شاعرية ورؤية واضحة للمخرج ستيفن دالدري، لكن بعض الهنات التي ظهرت مع الموسمين الثالث والرابع لم تكن ذات تأثير كبير، بالتالي ظل المسلسل محتفظاً بقيمته الدرامية، واختلف عن غيره من أعمال تاريخية بها مبالغات أو تبدو مثل حصة تاريخ جافة، حيث ظهرت شخصيات "التاج" بطريقة طبيعية للغاية مقارنة مع حساسية مواقعهم، كما حظيت شخصية الأمير فيليب بجماهيرية كبيرة، حيث بدا في الحلقات مرحاً وسريع البديهة ولديه اهتمامات متجددة طوال الوقت، وعلى رغم حرصه على البروتوكول الملكي لكنه كان يستمتع بكسره في بعض الأوقات، مما أضفى على لقطاته أجواء من الطرافة والمشاكسة يفتقدها القصر الصارم في قواعده.
الدراما تصاعدت بالطبع مع ظهور الأميرة ديانا في الموسم الرابع، حيث جسدتها أيما كورين، وتابع الجمهور بوادر القصة الحزينة بينها وبين الأمير تشارلز الذي أدى دوره جوش أوكونور، وخلال أسابيع قليلة سيشاهد محبو العمل ذروة تلك الدراما في الموسم الخامس، حيث تتولى إليزابيث ديبيكي تقديم دور الأميرة المحبوبة سيئة الحظ، بينما سيجسد شخصية الأمير تشارلز دومنيك واست، وتقدم إميلدا ستونتون شخصية الملكة إليزابيث الثانية، وجوناثان برايس دور الأمير فيليب، وذلك خلال حقبة التسعينيات وأوائل الألفية، وهي فترة دسمة سياسياً وواجهت فيها الأسرة عواصف شتى، كما شهدت تراجعاً كبيراً لأسهمها.
مسلسل "التاج" عمل مضمون النجاح يحمل خطة واضحة لخلط الروائي بالحقيقي، وعلى الرغم من المحاكاة الواضحة للأحداث الحقيقية، لكن صناعه لم ينكروا أبداً استناده إلى كثير من الخيال وليس توثيقياً كما يتصور البعض، ومع ذلك لم يمنع هذا الاعتراف سيل الانتقادات التي يواجهها باعتباره يبالغ في الخيال ويلصق بالشخصيات تصرفات وأفعالاً لم تحدث مما يضر بصورة العائلة الملكية، وأيضاً قد يسهم في التضليل بخاصة في ما يتعلق بالأجيال الجديدة التي قد تستقي منه المعلومات على أنها مسلم بها، وهو ما استند إليه وزير الثقافة البريطاني أوليفر دودن قبل عامين، حينما طالب "نتفليكس" بأن تضع تنويهاً في الحلقات يذكر الجمهور بأنها خيالية، لكن المنصة لم تلتفت إليه.