كان الرئيس أيزنهاور يقول "لكي تحل مشكلة كبرها" وهذا ما يبدو من الدروس التي تعلمها الرئيس فلاديمير بوتين. إسقاط رجله الرئيس ألكسندر يانوكوفيتش بثورة "الميدان" في كييف دفعه إلى تحريك تمرد مسلح في دونباس لمعاقبة الأوكرانيبن. وعجز المتمردين عن السيطرة الكاملة على دونباس قاده إلى حرب أوكرانيا تحت عناوين عدة أولها "حماية" المتمردين الناطقين بالروسية و"تحرير" المنطقة من "إرهاب النازيين الجدد". هزيمة الجيش الروسي في منطقة خاركيف رد عليها باستفتاءات شكلية وضم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا إلى روسيا. سلاح الغرب الذي حشره في زاوية عسكرية صعبة دفعه إلى العمل على وضع أوكرانيا والغرب في زاوية جيوسياسية حادة عبر سلخ 20 في المئة من مساحة البلد هي الأغنى. وما كان عنوانه "الحرب مع الغرب" صار "الحرب على الغرب". فليس في الغرب، بحسب الخطاب الأخير لبوتين، سوى الشر السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي. شيء يشبه الخطاب الإيراني عن "الشيطان الأكبر". وشيء من السخرية بالعقل عبر الادعاء أن ضم مناطق من أوكرانيا إلى روسيا هو في إطار الشرعية الدولية والقانون الدولي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن بوتين على حق في بعض انتقاداته للغرب، لكن الصحيح أيضاً أن البديل الذي يقدمه الرئيس الروسي تحت عنوان "عالم ما بعد الغرب" ليس جذاباً، لا في استخدام القوة في العلاقات الدولية ولا في نظام الرجل الواحد القوي الذي لا يتحمل رأياً آخر حتى من الموالين له قبل المعارضين. فمن المفارقات أن يدعم سيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا "محور الممانعة" الذي تقوده إيران ويرفض ويقاتل السيطرة الإسرائيلية على فلسطين والجولان. والغريب أن يتصرف اليسار في المنطقة كأن الاتحاد السوفياتي حي وبوتين يصحح التجربة الاشتراكية، في حين أنه يدير نوعاً من "نظام الشلة" الرأسمالي في إطار مافيوي.
ذلك أن ما ينقص الاتحاد الروسي ليس مزيداً من الأرض ولا الحاجة إلى ممر استراتيجي إلى بحر أزوف. وإذا كان بوتين يعيد المشكلات إلى انهيار الاتحاد السوفياتي ويرفض إعادته إلى الحياة، فإنه يمارس جيوسياسياً طموحات القياصرة ويغامر عسكرياً بما لم يقدم عليه قادة الاتحاد السوفياتي ويهدد بالسلاح النووي الذي رفض خروتشوف المواجهة مع كينيدي به في أزمة الصواريخ الكوبية وأزمة برلين. ومن "البروباغندا" المضحكة حديث بوتين عن إرادة الغرب في "تفتيت الاتحاد الروسي وتحويله إلى شعوب متحاربة" وحتى لإنهاء روسيا. فلا أحد يستطيع إنهاء دولة كبرى متجذرة تاريخياً في أوراسيا مثل روسيا، لكن بوتين يقول بالممارسة العملية إنه يستطيع إنكار وجود أوكرانيا وضم أجزاء منها.
وما أكثر الرهانات على حرب واحدة. الرئيس فولوديمير زيلينسكي يراهن على "ولادة أوكرانيا من جديد" وقبول "الناتو" انضمامها إليه وهو أمر صعب جداً. بوتين يراهن، لا فقط على "روسيا الجديدة" بل أيضاً على ولادة "عالم جديد"على يد موسكو في المعركة مع الأحادية الأميركية. والرئيس جو بايدن يراهن ومعه قادة أوروبيون على "هزيمة استراتيجية" لروسيا تخرج بوتين من الكرملين، لكن التحدي أمام الغرب صار أكبر بكثير. فالرئيس باراك أوباما لم يفعل شيئاً مهماً بعد أن ضم بوتين شبه جزيرة القرم، وقال لمعاونيه إن هذه منطقة نفوذ لروسيا كما هي المكسيك بالنسبة إلى أميركا. وإذا بقي رد فعل الغرب على ضم أربع مناطق أوكرانية في حدود تقديم السلاح والمال إلى الجيش الأوكراني للدفاع عن أرضه، فإن بوتين سيزيد من السخرية بالغرب. ولا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع "الناتو" أن يبقى خارج المواجهة المباشرة كما يكرر الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، ولا إن كان ما يراه بوتين في ضم المناطق فرصة للتفاوض وإنهاء الحرب هو فعلاً كذلك أو بداية مرحلة أخطر في الحرب يصعب على الغرب الحفاظ على الدور غير المباشر فيها، لكن الكل يعرف أن العالم تغير بأكثر مما تصور أهل الحرب.