Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بين حبال الماء" لروزا ياسين حسن… حين تكتب الأفلام رواية

البطل المنفي بين التخييل السينمائي والمأساة السورية

الروائية السورية روزا ياسين حسن (اندبندنت عربية)

في التاريخ الحميم لما بين الرواية والسينما سنّت كبريات شركات الإنتاج مع دورٍ للنشر سنن التقليد التجاري الغربي في تحويل الأفلام إلى روايات. وفي الذاكرة من كثير فيلم "الرجل الثالث" (1949) الذي حوّله كاتب السيناريو غراهام غرين إلى رواية بالعنوان نفسه في السنة التالية. كذلك هو فيلم "2001 أوديسا الفضاء" (1968) الذي كتب له السيناريو أرثر سي كلارك مع المخرج ستانلي كوبريك، وحوّله كلارك إلى رواية في السنة نفسها.

قبل ذلك، وبعده، كان ما أخذت السينما من الرواية، أكبر وأثرى من العكس. وها هي في هذا "العكس" الروائية السورية روزا ياسين حسن، تجرب في سبيل آخر من سبل "العكس" في روايتها "بين حبال الماء" (دار ممدوح عدوان 2019).

ينهض بنيان هذه الرواية على شخصيات وأخيولات سينمائية من عشرات الأفلام الأجنبية. واللعبة الكبرى هنا هي التماهي بين الشخصية المحورية في الرواية وساردها تموز المر، وبين شخصية فيلمية ما. أما المراح السردي للعب فشطره الأكبر يقوم في دبي التي قصدها تموز ليجمع من المال ما يمكنه من حلمه: دراسة السينما في كوبا. ومن أجل ذلك عمل في مطعم ماكدونالدز قبل أن يقفز إلى سدّة في شركة نوكيا، وبعدها في شركة سوني أريكسون. وعبر ذلك تكون الدروب إلى الحلم الكوبي قد تعرجت وتراجعت حتى تزلزل سوريا زلزالها، فيحمل تموز الكاميرا إليها ليصنع الفيلم/ الحلم.

مما قبل دبي، وفيها، يبدو كأنْ لا عمل لتموز إلا مشاهدة الأفلام. وفي سرده لزمن دبي، يستحضر من ماضيه السوري نشأته، وبخاصة الجد المسحور بالسينما المصرية، والذي عمل في بيروت. وسيعمر زمن دبي بقصة الجد مع المتمردة سميحة ومع حبيبته هاجر، وبقصص تموز مع جمهرة ممن تجمعهن به ليالي وملاهي دبي، وكذلك قصص العامل البنغلاديشي والصديق أشرف...

منذ أول فيلم رآه تموز "المهر الأحدب"، وبفعل الأفلام التي كان الجد يصطحبه من القرية إلى سينما المدينة ليراها، كانت شخصيات الأفلام تسكن الفتى. وفي عشقه المراهق لرشا يحسب أنهما في فيلم "البحيرة الزرقاء". وعقب إبعادها عنه يعزم على الانتحار، ويرى فيلم "الساعات" الذي تملأ فيه فيرجينيا وولف جيوبها بالحجارة لتغرق.في دبي تستغرقه مشاهدة الأفلام على الكومبيوتر مما يعده أيشع من خيانة الحبيبة، فيتوحد مع الصبي جون في فيلم برغمان "الصمت"، ويحلم أنه جندي لكوروساوا في فيلم "أحلام". ويتوحد مع بوبي كوبر ومع النسر في فيلم "استدارة للوراء". وبتأثير الفيلم يغادر العالم الذي هو فيه ولا ينتمي إليه: عالم ماكدونالدز. ويمضي أسابيع رهين الغرفة والأفلام. وكان المطعم قد نسج بينه وبين الصينية الموظفة سكارليت، ومعها صنع ما يعده فيلمه الخاص في التيبيت.

"طعم الكرز"

في فيلم "طعم الكرز" قرر الانتحار بمغادرة الغرفة إلى العالم القذر مجلجلاً: "سأخرج إليكم أيها الآسنون الراكدون كمستنقع، المسيجون برتابة قاتلة، اللاهثون وراء التوافه التي تشبهكم". وفي هذا العالم يقوده وكيل السيجار في المنطقة أشرف الوراق، وتحضر شخصية فاروق الشامي الذي يجمع بين توحش رأس المال وجنون الفن. وسوف تتراجع مشاهدة تموز للأفلام بالاطّراد مع استغراقه في أحضانهنّ وقصصهن: مليكة الأوزبكية المطلوبة من جماعة متشددة في فيرغانة الأفغانية، جوليا التي تتحول إلى ماريا براون من الفيلم الألماني "زواج ماريا براون"، وياسمينا المغربية التي يماهيها مع كاترين تراميل – أدت دورها شارون ستون – في فيلم "غريزة أساسية"، كما يتماهى هو مع المحقق، وأخيراً وليس آخراً: نسكورين التي يساعدها على الفرار من العالم السفلي، حيث الفتيات سبايا الموت.

في فيلم "السماء فوق برلين" يتماهى تموز مع داميل، وصديقه أشرف الذي مات، مع كاسيل، ويحلم بأنهما فوق المول يتأملان هذا الجحيم البشري: دبي. كذلك يتماهى تموز مع هواردبيل من الفيلم الأميركي "شبكة"، ويتماهى أشرف مع ماكس شوماخر، محذراً تموز من السقوط في العالم المرذول، فيصرخ تموز أن ما من أمم ولا شعوب، بل نظام مقدس هائل من الدولارات والشركات باتت هي أمم العالم، والعالم هو البزنس، وتموز قرر ألّا يبقى خارج هذا العالم. وهكذا لم تعد شخصيات الأفلام تراوده، ولم يعد التخييل يعينه على الحياة، بل صار يحيا كممثل هوليودي وبطل خارق.

في نهزات قليلة "ينظّر" تموز أو يتعالم، فيثقل على السلاسة التي وسمت الرواية في تحديها الخطر والكبير لتسريد المعلومة السينمائية بخاصة. ومن تلك النهزات شروح فاروق الشامي عن السيجار، وحديث تموز عن السينما ككائن أسطوري مستقل ومعتد بنفسه، وما يحدّث به جده عن تغير مفهوم الجمال، ليس في بيروت وحدها، مثلما تغيرت رؤيتنا لمفاهيم وقيم وأفكار، فاستعاضت الحداثة عن الرقة والغموض في الجمال قديماً بالجمال الصارخ الوحشي الذي تبدو أمامه أشبه بفأر. ومن نصيب (الحكاية) من ذلك ما يقرره تموز وهو يصغي إلى حكاية جوليا من أن الإنسان نتاج حكايته "وما مصائرنا إلا نتاج حكاياتنا"، كذلك ما يقرره من أننا والحكايات شيء واحد، فنحن نشبهها، وربما هي تشبهنا. وهنا ينبق السؤال المحيّر لتموز عن السر الذي يجعل كل عاهرة التقاها تحكي له حكايتها. فهل يكون السرّ في نفجةٍ في بطولته الروائية؟ وهل يتصل بهذه النفجة أن مدونة الأفلام في الرواية، والتي كان لكل منها هامش يعيّن الجنسية والمخرج والتاريخ، شكت أحياناً من الاستعراض والحشد؟

من الأحلام السينمائية التي راودت تموز، حلمه بأن يصنع فيلماً عن غرفة (كراكيب - أشياء) جده، أو فيلماً عن قلعة قريته ، أو فيلماً عن عسكري منشق حارب ست سنوات في سوريا في "هذه الحرب الحقيرة". وإذا كان وقوعه في الفخ الهوليودي كما سمى زمنه في دبي، قد بدّد الأحلام، فها هو، بعد عشر سنوات، يوقظه فيلمٌ من غفلته، تتظاهر فيه شعوب المنطقة ضد حكامها، و "هذا ضرب من الخيال لا تبدعه إلا السينما". إنه فيلم الزلزال السوري الذي سيجعل تموز بعد سنة يعود إلى سوريا مع الكاميرا، ليصنع ما حلم به من الأفلام، فيرحب به صديقه "الثائر السلمي" يوسف الصديق: "أهلاً بك في هذا الجحيم". وعبر ثلاث سنوات تالية تتلاحق المشاهد التي يشبهها تموز بفيلم رعب هيتشكوكي، فيرمح من ريف حماة حيث يتماهى بالنقيب في فيلم "القيامة الآن"، إلى إعزاز حيث تخلى يوسف الصديق عن سلميته وحمل السلاح، إلى ريف حمص حيث يتماهى تموز مع الفتى طارق النويري من فيلم "بيروت الغربية". أما في ريف دمشق فيصير تموز كريس تايلور الذي يدور في أدغال فيتنام في فيلم "السرية" هاتفاً: كل الحروب متشابهة تدور حول شهوة السلطة وتستعر بالفقراء والمهمشين، أو هاتفاً بأن ذاكرة البشرية ذاكرة مقيته من الحروب.

سيناريو روائي

تتحول الرواية إلى سيناريو إخراجي وهي تقدم ثلاثة سكريبتات، فتقدم لحظات شتى من الحرب السورية التي يعلن تموز أن لا مكان فيها لبطء التصوير السينمائي، ولا مكان لترف التقنيات المدهشة، ولا لإبداع المخرجين. وفي السكريبت الثاني لا يبدو سلام الخارج من معتقلات النظام مقنعاً إذ يدفعه إلى الانتحار إدقاع المكان الذكوري من جسد أنثى!

بعد انعطافة السيناريو الإخراجي تعود الرواية لتتابع مصرع يوسف وهرب تموز إلى تركيا، حيث تحاول الرواية أن تكتب فصول اللجوء والتهريب والغرق في البحر، بعدما حاولت أن تكتب فصول الحرب، والسؤال يلهب تموز: "لِمَ علينا أن نهرب من سطوة حرب قذرة، من وحشية النظام إلى سطوة أمراء حر، إلى سطوة حفنة من المهربين؟". ولا تغيب السينما عن هذا الختام، ولكن بأدنى بكثير مما سبق، فتموز يرى أطفال اللاجئين المنتظرين للتهريب شخصياتٍ في الفيلم الكردي "السلاحف". وعندما ينقلب القارب في البحر يتماهى تموز مع جاك الفرنسي في فيلم "الأزرق الكبير". وقد فقد تموز حقيبته وكاميراه وما صوّر في سوريا، كما دفع بامرأة وطفلها إلى الغرق لينقذ نفسه من تشبثها به، فحاول الانتحار، لولا الزعيم الهندي الأحمر تشيف برومدين من فيلم "طيران فوق عش الوقواق".

للتقنيات السينمائية في الرواية سيرة لا تفتأ تكبر وتتعمق، كما في روايات شتى، عربية وأجنبية، حيث المتواليات الصورية والمونتاج وعدسة الزوم... وقد جاءت رواية "بين حبال الماء" بتجربة مميزة جديدة على هذا المستوى، كما على مستوى التجربة الروائية لروزا ياسين حسن.

المزيد من ثقافة