حتى وإن كانت المسرحية آريان منوشكين من أبوين روسيين أنجباها في فرنسا بعد استقرارهما فيها، فإنها دائماً ما اعتبرت نفسها فرنسية الهوية والهوى، وهي التي كانت لها ومنذ عام 1964 واحدة من أهم المساهمات في إعادة إحياء المسرح الفرنسي، بل تحديداً المسرح الشعبي الفرنسي عبر الفرقة التي بادرت إلى تكوينها في ذلك الحين مع عدد من رفاقها تحت اسم "مسرح الشمس"، وهي فرقة ربما تعتبر من أطول الفرق المسرحية عمراً وأكثرها إنتاجاً في تاريخ المسرح الفرنسي، بل حتى أكثرها غرابة، حيث إن الصيغة التعاونية التي انطلقت بها كانت طوال ما لا يقل عن ثلثي قرن صيغة حقيقية فرضتها آريان التي كنت تجدها حيناً مخرجة "ديكتاتورة" لعمل مسرحي ثم تجدها بعد أيام عاملة تقطع تذاكر المتفرجين عند الباب. ولسوف تقول آريان لاحقاً إن هذه الصيغة التعاونية إنما تعلمتها في الخارج، حيث إن الخارج سيكون دائماً جزءاً من تكوينها وتكوين "مسرح الشمس". فهي درست أول صباها في أوكسفورد لتنضم سريعاً إلى "الجمعية الدرامية في جامعة أوكسفورد"، مما وجهها باكراً إلى العمل المسرحي. ومن ناحية ثانية لن تنسى آريان أبداً أن النجاح الأكبر الذي حققه أي عمل مسرحي شاركت فيه إنما كان أيضاً في الخارج، في إيطاليا وتحديداً في مدينة ميلانو حيث عرضت و"مسرح الشمس" تحت رعاية "البيكولو تياترو" واحداً من أنجح العروض في حياتها وحياة الفرقة، "يجب على الثورة أن تقصر همها على الوصول بالسعادة إلى الكمال" وهو عنوان مقتبس من قول لسان جوست أحد زعماء الثورة الفرنسية. وكانت المسرحية عن هذه الثورة وكان ذلك في عام 1970 على مسرح البالاديو التابع لاستاد مدينة نابولي الرياضي أمام حشود قدرت بألوف كثيرة. ومع ذلك مددت العروض إلى ضعف ما كان متفقاً عليه، مما عنى أن ذلك النجاح لدى الإيطاليين فاق يومها نجاح العروض الأولى للمسرحية في فرنسا.
لكل واحد دوره
في ذلك الحين كانت الفرقة في موسمها السادس. وكانت آريان منوشكين قد بدأت تبرز كمخرجة تؤمن بالعمل الجماعي، لكن ذلك لم يمنعها من أن تعتبر حالة نادرة في عالم المسرح. فالحال أنه وعلى عكس ما هو حاصل في السينما والفنون التشكيلية، لئن كان القرن العشرون قد فتح الأبواب واسعة لتكثيف حضور المرأة في مهن لم تكن تهضم ممارستها لها، فإن المسرح كإخراج ظل عصياً على حضور المرأة، على الرغم من وجود أعداد كبيرة من فرق تقودها النساء في شتى أنحاء العالم، لكن "أرستقراطية" المهنة ظلت وقفاً على الرجال بحيث يندر أن يطالعنا وجه نسائي يتولى الإخراج في الفرق الكبرى الراسخة، ناهيك بأن تاريخ المسرح نفسه ومنذ المسرح الإغريقي ندر أن أفادنا عن امرأة وصلت إلى تلك المسؤولية الرفيعة. ومن هنا كانت آريان منوشكين حالة نادرة، بل لعلها الاسم الأنثوي الوحيد الذي يمكنه الوقوف إلى جانب داريو فو أو بيتر بروك أو جيرزي غروتوسكي من دون أن نصل إلى الحديث عن ستانيسلافسكي أو بيسكاتور أو مييرهولد وصولاً إلى فيلار وروجيه بلانشون وغيرهم من الكبار الذين جعلوا الإخراج المسرحي فناً راسخاً في القرن العشرين.
القوة الخفية
والحقيقة أن أسلوب العمل الجماعي كوليد لربيع مايو (أيار) 1968 هو القوة الخفية التي كمنت خلف المكانة الفريدة التي تمكنت هذه الفنانة من أن تجعلها لنفسها من خلال تكريس أكثر من ثلثي قرن من حياتها لهذا الفن. وهي تقاليد عرفت كيف تحافظ عليها بل تنميها عاماً بعد عام على الرغم من العواصف والأهواء التي عصفت بها وبالفرقة، عواصف وأهواء لم تمنعهما من إنتاج ما يقرب من 50 عملاً ضخماً حقق معظمها نجاحات لم يتمكن من تحقيقها أي مسرح آخر، مع الحرص على أن يكون مستوى العروض أعلى من المتوسط وصولاً إلى ذرى لا تنسى. وفي معظم الحالات، إن لم يكن كلها، طغى على اختيارات العروض طابع انتقائي يتنوع في التراوح بين النهل من أعظم أعمال الريبرتوار العالمي والاشتغال على مواضيع وحبكات يقوم أعضاء الفرقة بالاشتغال عليها ابتكاراً وكتابة وحتى آخر أيام العرض بشكل جماعي اختارته آريان منذ البداية. فعلى الرغم من أنها بالنسبة إلى "العالم الخارجي" تعتبر الروح والعقل المحركين للعمل، فإنها لا تحظى بأية امتيازات ونادراً ما حدث لها أن فرضت رأيها على الجميع. فهنا في مسرح الشمس كل المواقع والمهام متساوية وكذلك المرتبات. وهي قواعد لم تتغير وإن كانت قد أزعجت في بعض الأحيان عدداً من الأعضاء المتعاقبين فما لبثوا أن ابتعدوا من دون أن يقلبوا الطاولة على رأس آريان، بل حتى كان يحدث لهم أن يشكلوا فرقاً منافسة فتعيرهم آريان ليالي يقدمون فيها أعمالهم في "الخرطوشية" القديمة المتاخمة لغابة فنسان في شرق باريس، أي القاعة التي استقرت فيها فرقة مسرح الشمس منذ عقود ولا تزال. ومهما يكن لا بد من الإشارة إلى أنه لئن لم تكن آريان وحدها المؤسسة بل كان إلى جانبها من يعتبرون اليوم "أولاد الشمس" حتى وإن رحل بعضهم وتركها البعض الآخر، فإن آريان هي الوجه الأبرز حتى اليوم وهي تدنو من الـ84 من عمرها. ولعل ما لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن آريان ما زالت حتى الآن المناضلة التي كانتها في شبابها، حيث يحدث لها كثيراً أن تشارك في تظاهرات ضد العنصرية كما تشارك في احتلال بيوت تسكن فيها المشردين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كأننا في حضرة تاريخ المسرح
ولكن أين المسرح في هذا كله؟ حاضر تماماً من شكسبير إلى بريخت، ومن موليير إلى مسرح الغضب الإنجليزي، ومن أمهات المسرح الإغريقي إلى أعمال حديثة معادية للفاشية كـ"مفيستو" لكلاوس مان وأعمال عديدة من توقيع هيلين سيكسو الكاتبة المعروفة التي تعتبر من الداعمين الكبار لمسرح الشمس. والطريف أن ما يقدمه مسرح الشمس قد يكون عملاً حميمياً مثل مسرحة "المطبخ" لأرنولد ويسكر، وقد يكون استعراضاً مقتبساً من جول فيرن ورواياته الخرافية – العلمية، وقد يكون "طرطوف موليير" أو "ماكبث شكسبير" أو حتى "العصر الذهب" كمثال على تلك الأعمال الإبداعية الجماعية التي قد تخطر فكرتها في سطر يدونه واحد من أصغر أعضاء الفرقة سناً فتلتقطه آريان وتناقشه علناً مع أكبر عدد ممكن من الأعضاء فيتخذ القرار باعتماده مشروعاً مقبلاً، يكون على كل أعضاء الفرقة أن يفكروا في تطويره. ولقد كانت تلك هي الطريقة التي اتبعت بالنسبة إلى نحو دزينة من عروض ضخمة كانت من بنات أفكار أعضاء فرقة الشمس، ولكن العمل ضمن نطاق هذا الأسلوب لم يقتصر على الإنتاجات المسرحية، بل شمل ما خاضته الفرقة وآريان منوشكين في سياقها من مشاريع سينمائية، تبدت على أية حال في نهاية الأمر أشبه بأن تكون عروضاً سينمائية مصورة. غير أن واحداً من النقاد الأكثر إنصافاً لم يفته أن يقول ملاحظاً "يبدو لي أن أسلوب ومنهج مسرح الشمس في معظم أعماله ومنذ البداية كان ينتمي إلى لغة السينما بقدر انتمائه إلى لغة المسرح"، مما يجعلنا هنا نتحدث عن نوع خاص جداً من المسرح الشامل، المسرح الذي يضافر بين الموسيقى الحاضرة بوفرة في إنتاجات هذه الفرقة الاستثنائية والسينما، من دون أن ننسى إطلالته المدهشة على أنحاء أخرى من العالم من طريق استعراضات يابانية المنحى أو كمبودية الموضوع أو هندية المناخات، ومن اللافت أن معظم العروض من هذا النوع الأخير تدين كثيراً للشراكة الفكرية التي أمنتها الكاتبة هيلين سيكسو لمسرح الشمس، الفرقة التي لا بد من الإشارة إلى عملين أولين قدمتهما، أولهما قبل تكونها وهو استعراض "جنكيز خان" (1961) ليضع اسم آريان منوشكين لأول مرة كمخرجة مسرحية، والثاني مسرحية للروسي مكسيم غوركي بعنوان "البورجوازيون الصغار" (1965) حددتا منذ البداية الخط الفكري – التاريخي الذي سيكون خط آريان و"فرقتها" لعقود طويلة تالية لم يعرف الهدوء خلالها إليه سبيلاً. وبقي أن نذكر هنا بأن آريان منوشكين نالت كثيراً من التكريمات ولا سيما في اليابان، وهي التي تقول دائماً "لقد وجد المسرح لكي يروي حكايات حقيقية، حكايات خيالية لكنها حقيقية. والمسرح حين يروي حكاية حقيقية ومهمة لا يكون شاهداً على التاريخ بل مساهم في صنعه".