لا أنكر أن المكوّن المسيحي في الشخصية العربية المعاصرة يستحق الاهتمام، خصوصاً أن عروبته تسبق دخول الإسلام إلى المنطقة، كما أن مسيحيي "الشام" و"العراق" هم امتداد لدولتي "الغساسنة" و"المناذرة"، فهم "عرب أقحاح"، ولقد أبديت دهشتي ذات مرة لصديقي الأردني الأستاذ الجامعي المعروف د. مصطفى حمارنه متسائلاً: إن لك ابنة عم كانت تدرس معي في "لندن" وهي مسيحية أردنية فكيف بك أنت مسلم الديانة؟! وهل العائلة منقسمة بين الدينين؟! فضحك كثيراً، وقال: من أدراك أنني مسلم؟ إنني مسيحي أباً عن جد، فقلت له: وماذا عن اسم مصطفى؟ قال: بل أزيدك من القصيد بيتاً فابن عمي اسمه عمر، ولنا في العائلة من كان اسمه محمد، فهذا الاسم الكريم كان مستخدماً في حالتين أو ثلاث في الجاهلية قبل الإسلام، ونحن امتداد لعروبتنا، ولا تأثير للدين في هويتنا.
يومها أدركت أن الأمر مختلف، فالمسيحيون المصريون، الذين نطلق عليهم مجازاً كلمة (أقباط) -للتدليل على ارتباطهم بالأرض المصرية- هم من أصول ليست بالضرورة عربية، لكنهم نطقوا العربية لغة أولى بعد قرنين من الفتح الإسلامي عندما جاءت الدولة الفاطمية، ومارس بعض خلفائها ضغوطاً على المصريين عموماً والأقباط خصوصاً، وأن الكثيرين منهم اعتنقوا الإسلام حين أصبحت اللغة العربية هي لغة الدواوين ولغة الشارع ولغة المنزل، من يومها تعرّبت مصر، وأصبحت جزءاً من الكيان القومي، الذي تبدو هي في وسطه دولة مركزية محورية، لذلك فإنني أقول هنا إنه ليس كل عربي مسلماً، كما أنه ليس كل مسلم عربياً، وذلك رغم أن المساحة المشتركة بين العروبة والإسلام هي مساحة واسعة، لأن الدين الحنيف حمل العروبة إلى شعوب قبلت الدين والثقافة معاً، بينما شعوب أخرى قبلت الدين وتحفّظت على الثقافة، والذي يتابع عصور الفتوح الإسلامية سوف يتأكد من هذا المعنى، ولعل بلاد فارس هي مثال لقبول الإسلام دون ثقافته العربية، لكن الكل يدرك أن "القرآن الكريم" نزل بلسان عربي، وأن الوحي جاء تكريماً للغة الضاد، وإعلاء لقدرها منذ البداية، ولعلي أطرح هنا بعض المحاور المتصلة بهذا الموضوع:
أولاً: إن المسيحيين العرب كانوا دائماً في طليعة الحركات القومية كما كانوا رواداً -سواء في الوطن أو في المهجر- لقضايا العروبة والإحياء القومي والإحساس بالمضمون المشترك، الذي يجمع كل من تكون لغتهم الأولى هي العربية، ولو تذكّرنا الأسماء التي شاركت في تشكيل الهُوية العربية في الداخل وفي الخارج فسوف نجد أن المسيحيين العرب يحتلون مساحة كبيرة بينهم، وفي ظني أن لذلك دافعاً نفسياً، إذ إن إحساسهم بأنهم غير مسلمين يدفعهم إلى التعلق بالقاسم المشترك الأكبر، وهو العروبة، بل إن القضية العربية الأولى، وهي القضية الفلسطينية عرفت قيادات من أمثال "جورج حبش" و"نايف حواتمة" وغيرهما، كما أن الأحزاب العروبية عرفت أيضاً أسماء لعل أشهرها "ميشيل عفلق" أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي وفيلسوفه الأول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً: إن أقباط مصر -وهم يشكلون أكبر تجمع مسيحي في دولة عربية- كانوا ولا يزالون يعتزون بلسانهم العربي وثقافتهم القومية، بل إن منهم من قال إنه مسيحي الديانة، مسلم الشخصية، عربي الثقافة، وهم الذين يبلغ عددهم ما يصل إلى خمسة عشر مليوناً، يندمجون تماماً في الحياة المصرية بسبب أصولهم الضاربة في أعماق التاريخ، التي تجعلهم يتحدثون دائماً عن جذورهم الفرعونية، وعلى الرغم من بعض الأحداث الطائفية والتراشق الديني من فترة إلى أخرى، فإن الأمر الذي لا جدال فيه والمستقر في وجدان الجميع هو أن الدين لله، والوطن لكل أبنائه، ولقد أقام الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي مسجداً جامعاً في العاصمة الجديدة للبلاد، وبنى معه أيضاً كاتدرائية كبرى تعزيزاً للروح المشتركة والولاء الوطني الواحد.
ثالثاً: ما زلت أتذكّر ما قرأته أثناء دراستي الدكتوراه في "جامعة لندن" مع مطلع سبعينيات القرن الماضي عن زيارة "مكرم عبيد" باشا لمدن "الشام" بدءاً من "فلسطين" و"لبنان" وصولاً إلى "سوريا"، وكيف زار "يافا" و"عكا" و"حيفا" و"بيروت" و"دمشق"، مؤكداً عروبة الأقباط مزيلاً ذلك اللبس الذي كان يطفو على السطح من حين إلى آخر بالإشارة إلى الأقباط، باعتبارهم تجمعاً مصرياً لا ينتمي إلى العروبة، ولقد لعب البابا الراحل "شنودة الثالث" دوراً عظيماً في تأصيل هذه النقطة، وتأكيد عروبة الأقباط بمنطق العيش المشترك والثقافة الواحدة حتى أطلق عليه الجميع (بطريرك العرب)، كما كان البابا شنودة الثالث داعماً للقضية الفلسطينية بشكل غير مسبوق، إذ سمحت له ثقافته الواسعة كصحفي سابق وضابط احتياط في الجيش المصري ودارس متعمق للتاريخ في أن يشير دائماً إلى العروبة كأحد روافد المكون القبطي في مصر.
رابعاً: إن إسهام المسيحيين العرب في دعم اللغة العربية أمر اشتغلت به الأديرة، فاحتوى بعضها كنوزاً من المخطوطات وأمهات الكتب في الفكر العربي بل والثقافة الإسلامية، ولذلك فإن العرب يلتقون جميعاً حول لغتهم دون النظر إلى دياناتهم، بل إن هناك كثيراً من المسيحيين العرب يحفظون أجزاءً كبيرة من القرآن الكريم للاسترشاد بها في أحاديثهم، فضلاً عن المساعدة في التمكين لفصاحة اللغة وروعة البيان، وهناك طرفة شهيرة عن "مكرم عبيد باشا" المحامي والسياسي الشهير مرة أخرى حين كان يترافع أمام المحكمة في إحدى القضايا الكبيرة، مسترشداً بآيات من القرآن الكريم، فداعبه القاضي المسلم قائلاً (أومؤمن أنت يا مكرم باشا بما تقول؟) فرد عليه (لكنني متأكد من أن المحكمة تؤمن به)، هكذا كانت لباقة المحامي الكبير الذي يحترم الإسلام، ويعتبره مصدر ثقافته رغم أنه مسيحي الديانة.
خامساً: لقد لعب المسيحيون العرب دوراً كبيراً في الربط بين العالمين العربي والإسلامي في جانب، وبين الغرب المسيحي اليهودي في جانب آخر، فكانوا بمثابة قناة التواصل بين الجانبين، وتمكنوا من تقديم صورة طيبة، خصوصاً أن شهادتهم أمام الغرب لا تبدو مجروحة، لأنهم يلتقون معه في الديانة، لكنهم لا ينتمون إليه بالقومية، فكان دورهم بناءً وشريفاً في كثير من المراحل، ولذلك استأنس بهم عدد من ملوك وأمراء ومشايخ العالم العربي، فعمل المسيحيون في البلاط السعودي، وفي أجهزة الدولة الكويتية والإماراتية والبحرينية والقطرية والعمانية دون أدنى التفات إلى دياناتهم، فلقد انصهر الكل في واحد، ونظرنا نحن المسلمين إلى المسيحيين العرب باعتبارهم شركاء في الحضارة العربية الإسلامية بقدر كبير لا يمكن إنكاره، حتى إن الخلفاء المسلمين في الدول المختلفة استوزروا عدداً منهم، بل كان هناك أيضاً وزراء يهود، خصوصاً في الدولتين العباسية والفاطمية، فتاريخ المنطقة في مجمله لا يعرف التعصب إلا بفعل فاعل أو تدخل أجنبي.
إن المسيحيين العرب كانوا ولا يزالون وسوف يظلون مصدر تنوع ثقافي وفكري، وإضافة إيجابية إلى حضارات المنطقة، وتأكيد على رحابة الفكر واتساع دائرة التسامح والإحساس المشترك بأن الدين لله والوطن العربي لجميع أبنائه.