حينما نتحدث عن علاج السرطان، يبدو منحنى التقدم المحرز طويلاً وبطيئاً وتراكمياً. شهد هذا الحقل الطبي إنجازات طبية كثيرة خلال المسيرة نحو إيجاد علاجات مناسبة، لكن قلة منها أحدثت تحولات مهمة. إذا ما خضت في أحاديث مع أطباء أورام الذين يتعامل معظمهم مع الأمر بقدر كبير من الواقعية من دون أي مبالغة، ستجد أنهم لن يغالوا أبداً في توقعاتهم. لا حل سحرياً، بل لن نملكه أبداً، وفق رأيهم.
ولكن بعد مضي أكثر من 50 عاماً على إعلان الغرب للمرة الأولى "حربه ضد السرطان"، أخذت الإنسانية تجني من جهودها سلالاً تفيض بالثمار.
تسجل معدلات البقاء على قيد الحياة لدى مرضى سرطانات الثدي والبروستات والجلد مستوياتها الأعلى على الإطلاق. وحاضراً، يعيش المصابون بأشكال غير قابلة للشفاء من المرض عمراً أطول بالمقارنة مع السابق. وكل ورقة بحثية جديدة تكشف للعلماء أي عقبات تتعين إزالتها كي يقهروا السرطان وفق ما ينبغي.
كذلك سيسارع الخبراء إلى القول إن أمامنا حتماً درباً طويلاً نقطعه، ولكن بفضل التقدم المستمر في العلم الحديث، الذي يمد لنا يد المساعدة في محاربة السرطان خطوة بعد أخرى، بدأ يرتسم مسار واضح للمضي قدماً نحو مواجهة ذلك المرض الشديد التعقيد.
في الأشهر الأخيرة، توارد كلام عن لقاحات جديدة مهمتها تدريب الجهاز المناعي على تدمير سرطان البنكرياس، وعلاج مناعي يكشف النقاب عن خلايا متحورة لدى مرضى سرطان المستقيم، فيصير تدميرها أكثر سهولة على دفاعات الجسم، فضلاً عن أدوية تبطئ نمو خلايا الثدي السرطانية التي كان يعتقد سابقاً أن علاجها مُحال.
وحاضراً، يعتقد معظم أطباء الأورام أن الانتصارات الحقيقية ضد السرطان تصنع فعلاً، معززة الآمال في أنه يوماً ما في المستقبل القريب، لن يعود المرض حكماً بالإعدام على ملايين المرضى.
ولكن، في الحقيقة، "لا أعتقد أننا بلغنا هذه المرحلة بعد، ولكن أعتقد أننا لا ريب على المسار اللازم"، وفق الدكتورة خوانيتا لوبيز، الباحثة السريرية في "معهد بحوث السرطان".
على المنوال نفسه، يبدو متفائلاً الدكتور سام غودفري، كبير مديري قسم المعلومات البحثية في "مركز بحوث السرطان في المملكة المتحدة" Cancer Research UK. وفي هذا الصدد، يشير غودفري إلى أننا "نملك قدراً كبيراً من الكفاءة التقنية، وقد حققت تقنيات كثيرة قفزات إلى الأمام، ويبدو كأننا حصلنا أخيراً على ما يكفي من معرفة وتكنولوجيا تتماشيان مع طموحنا في إطاحة المرض".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطراداً، ثمة كثير من الحماسة المتزايدة التي تتركز حول النهج الدقيق جداً والمصمم على نحو يراعي خصوصيات كل حالة على حدة، الذي صار في مقدور العلماء والأطباء اعتماده الآن في علاج الأنواع المختلفة من السرطان.
وبحسب الدكتورة استشارية في الأورام الطبية في "مستشفى رويال مارسدن"، ناورين ستارلينغ، "لقد بدأنا في تقسيم المرض إلى مجموعات متفرعة عدة التي تضم مرضى ربما يحتاجون إلى أساليب تختلف باختلاف كل مريض منهم، فيما نبتعد عن اتباع نهج واحد لجميع الحالات".
استكمالاً، تسود قناعة بأن كل سرطان يختلف عن نظيره، حتى في السرطانات من النوع نفسه. لدى كل مريض، يظهر المرض ويتغذى متوسلاً مجموعة مختلفة من الطفرات التي تختبئ أو تتملص من الجهاز المناعي بطريقتها الخاصة.
سيبحث أطباء الأورام الآن عن علامات جينية معينة في مقدورها، مثلاً، تبيان إذا كانوا في مواجهة فئة فرعية نادرة ومحددة من السرطان، فئة مسؤولة عن إصابة نسبة ضئيلة من المرضى، لكنها قد تبدو قابلة للعلاج.
خذ مثلاً دراسة نشرت أخيراً، وقد تماثل المرضى المشاركون الـ12 فيها كلهم، الذين كانوا يكابدون سرطان المستقيم، للشفاء بعد أن تناولوا علاجاً مناعياً تجريبياً يسمى "دوستارليماب" dostarlimab.
لقد وصفت تلك النتيجة بأنها تاريخية، إذ أفاد أحد العلماء الذين وقفوا وراء ذلك البحث إن هذا الإنجاز "يشكل سابقة من نوعها في تاريخ السرطان"، ما يعني أن المرضى لن يضطروا إلى الخضوع لجراحة يكون من شأنها أن تترك تأثيرات سلبية عميقة على الحياة، وتعطل وظيفة الأمعاء غالباً.
وفي غمرة الإثارة التي أحيطت بهذه الدراسة، تجاهل كثر أن جميع المرضى الـ12 في الدراسة يعانون أوراماً ذات طفرة جينية تعرف باسم "عوز إصلاح عدم التطابق" (اختصاراً MMRd)، التي تلاحظ لدى مجموعة فرعية تضم نحو 5 إلى 10 في المئة من مرضى سرطان المستقيم.
في العادة، يكون مرضى هذه الأورام أقل استجابة للعلاجين الكيماوي والإشعاعي، ما يفاقم الحاجة إلى الاستئصال الجراحي لأورامهم.
ولكن، نتيجة الطفرات من نوع "عوز إصلاح عدم التطابق" يكون الورم أكثر هشاشة أمام الجهاز المناعي في الجسم، خصوصاً عند تعزيزه بعامل آخر يتمثل في العلاج المناعي، الذي تمثل في تلك الحالة بدواء "دوستارليماب"، الذي يعمل من طريق الكشف عن الخلايا السرطانية التي لم تكن ملحوظة في أوقات سابقة.
وبحسب الدكتورة ستارلينغ، "في مستطاع السرطان أن يخفي نفسه عن جهاز المناعة لدينا، وثمة عمليات ودارات مختلفة تقود إلى التملص من جهاز المناعة، ولكن العلاج المناعي يسعى إلى جعل هذا الورم مرئياً أكثر بالنسبة إلى جهاز المناعة، على نحو يسمح له بمهاجمته وتدميره".
أفضى هذا النوع من العلاج إلى تحسن كبير في النتائج الصحية بالنسبة إلى بعض أسوأ أنواع السرطانات. قبل 20 عاماً، اعتبر الورم الجلدي الخبيث المسمى "ميلانوما" Melanoma [أحد أخطر أنواع سرطان الجلد] غير قابل للعلاج، بل كان المرضى يموتون عادةً في غضون تسعة أشهر من تشخيص المرحلة الرابعة من ذلك السرطان، بحسب الدكتورة ستارلينغ. وحاضراً، بفضل أدوية العلاج المناعي المختلفة التي طورها خبراء على مر السنين، تكتب النجاة لـ50 في المئة من أولئك المرضى.
حاضراً أيضاً، يخوض الباحثون الآلاف من الدراسات السريرية بغية تسخير قوة العلاج المناعي في استغلال نقاط الضعف لدى للسرطان. في حالة "عوز إصلاح عدم التطابق"، لوحظ أن تلك الطفرة موجودة في 4 في المئة من سرطانات القولون المتقدمة، و4 في المئة من سرطانات المعدة، و2 في المئة من سرطانات البنكرياس، و4 في المئة من الأورام الصغيرة في المعدة، وفق الدكتورة ستارلينغ.
تثير هذه الحقيقة احتمالاً مفاده أن عناصر العلاج المناعي على شاكلة "دوستارليماب" ربما تعطي فاعلية واسعة النطاق، حتى إذا اقتصر ذلك على نسبة صغيرة من المرضى. على المستوى العالمي، في حال تحديد مجموعات فرعية أكثر من المرضى ومعالجتهم بهذه العلاجات الناشئة، سيتراكم، وإن ببطء، عدد الأشخاص الذين لن يزهق السرطان أرواحهم.
في ذلك الصدد، يرى الباحث الرئيس للمجموعة ومدير البحوث المساعد في "معهد فرانسيس كريك"، البروفيسور جوليان داونوارد، إن "الدراسة التي تتناول [سرطان المستقيم] تظهر إلى أين ستؤول هذه العلاجات. من المبكر بعض الشيء أن نقول إننا سنحصل على النتيجة عينها في كل مرة نعالج فيها مريضاً باستخدام هذا النوع من الأدوية، ولكن في الأقل يعتبر هذا مؤشراً قوياً على أن هذه الأدوية ستعطي تأثيراً كبيراً حقاً".
بالطبع، العلاج المناعي ليس الحل بالنسبة إلى كثير من المرضى، وما زال لغزاً السبب وراء استجابة بعض أنواع السرطانات لهذا العلاج أو عدم استجابتها. وفي إشارة إلى الغموض الكبير الذي تتسم به هذه النقطة تحديداً، يرى الدكتور ريتشارد سيمكوك، مستشار إكلينيكي وطني في شركة "ماكميلان"، إن "ثمة جائزة نوبل في انتظار من يملك إجابة شافية".
في سياق متصل، يشير بحث إلى أن فاعلية الدواء رهن بموضع الورم، وأوجه تداخل الجهاز المناعي مع الورم الخبيث في تلك المنطقة. ثمة أجزاء في الجسم يشار إليها باسم "الصحارى المناعية" immune deserts، بمعنى أنها تعاني نقصاً في الخلايا المناعية القاتلة اللازمة لمكافحة نمو السرطان. ويضاف إلى ذلك أن الاختلافات الجينية التي يستند إليها الورم نفسه، تؤدي دوراً رئيساً في المعركة ضده. حتى التكوين البكتيري لدى المريض له تأثيره الخاص، وفق ما يعتقد به.
وبحسب الدكتور سيمكوك،"ندرك الآن أن السرطان الذي يصيب الجانب الأيسر من القولون مثلاً، يستجيب لبعض العلاجات بشكل مختلف عن نظيره الذي ينشأ في الجانب الأيمن من القولون. يتمثل أحد التحديات الرئيسة في تحديد أي مرضى سيستفيدون أكثر من العلاج الأنسب".
في تطور متصل، يحضر "العلاج الموجه" Targeted therapy بوصفه وسيلة أخرى في الصراع ضد السرطان، وقد صار بفضل العلم الحديث، أكثر دقة وفاعلية. يصب هذا العلاج تركيزه على السرطان نفسه، وليس على الجهاز المناعي، ويستهدف عادةً مفاتيح خلايا وبروتينات تنخرط في تنظيم عمليتي الانقسام والتكاثر في الخلايا الطبيعية. وحينما يضطرب تنظيم هاتين العمليتين في تحقيق النتيجة المرجوة، يحدث نمو غير منضبط [سرطاني].
ثمة دراسة جديدة قدمت في الاجتماع الأخير الذي عقدته "الجمعية الأميركية لعلم الأورام السريري" ("أسكو" Asco) في شيكاغو، وقوبلت بحفاوة بالغة من الحضور. وقد ركزت تلك الدراسة على الوعد الذي يحمله أحد هذه الأنواع من الأدوية، ويسمى "تراستوزومب ديروكستيكان" trastuzumab deruxtecan، أو "أينهيرتو" Enhertu.
ثمة تطور مواز يتعلق بمن يعانين سرطان الثدي في مرحلة انتشاره خارج المكان الأول للورم الخبيث. في العادة، كانت السرطانات الفرعية المنتشرة تواصل تفاقمها على الرغم من خضوع المريضات لجلسات من العلاج الكيماوي القاسي. وفي المقابل، استهدف "أينهيرتو" الخلايا السرطانية بدقة تماثل الليزر، مبطئاً نمو الورم ومطيلاً عمر المريضات إلى حد نادر جداً في تلك الحالة المتقدمة من سرطان الثدي.
وبالتالي، توقفت الأورام عن النمو طوال 10 أشهر تقريباً، لدى 373 مريضة تناولن "تراستوزومب ديروكستيكان"، بالمقارنة مع خمسة أشهر لدى 184 مريضة تلقين علاجاً كيماوياً تقليدياً.
وتفصيلاً، يستهدف الدواء جين يسمى "هير 2" HER2. ويتولى هذا الجين صنع بروتين من نوع يوجد على سطح خلايا الثدي كلها. ويشارك في نمو الخلايا الطبيعية وتكاثرها وإصلاحها، لكن ذلك الجين قد يتحور ويفرط في عمله، ما يسهم في توليد السرطان وانتشاره، [تذكيراً، السرطان هو نمو منفلت لنوع واحد من الخلايا أو مجموعة صغيرة منها، على حساب بقية التراكيب الطبيعية كلها]. ويمثل ذلك التحور طفرة شائعة جداً في سرطان الثدي وسرطانات أخرى، وبالنسبة إلى من يحملون في أجسامهم مستويات عالية من "هير 2"، يتوفر فعلياً عدد من الأدوية التي تجدي نفعاً في علاج هذه الحالة.
أما بالنسبة إلى المرضى الذين يحملون عدداً قليلاً من الخلايا المصابة بإفراط في "هير 2"، فتبقى هذه الأدوية عديمة الفاعلية. ولكن، يبدو أن دواء "أينهيرتو" كفيل بأداء هذه المهمة، إذ يحتوي ذلك الدواء على جسم مضاد يبحث عن البروتين الذي يصنعه "هير 2"، ويتعاون مع عقار كيماوي يتسرب إلى الخلية السرطانية نفسها، ما يؤدي إلى قتلها. وبعد ذلك، ينتقل "أينهيرتو" إلى الخلية السرطانية التالية.
واستطراداً، تطاول تأثيرات هذا البحث ما هو أبعد من سرطان الثدي و"هير 2"، إذ تفتح الباب الآن أمام استهداف تشوهات جينية أخرى في الخلايا السرطانية التي لا تحوي أجسام المرضى سوى عدد قليل منها.
ويصف البروفيسور داونوارد هذا العلاج بـ"النافع جداً"، مضيفاً أن علاجات أخرى، على غرار اللقاحات المتزايدة ضد السرطان، تبشر بالخير إنما ما زالت بعيدة بعض الشيء عن أن يكون الحصول عليها متاحاً وتصنيعها ممكناً.
ويضرب البروفيسور داونوارد مثلاً بلقاح جديد يستخدم تقنية "الحمض النووي الريبوزي المرسال" ("أم آر أن أي" mRNA) [إشارة إلى التقنية التي استخدمت في صنع لقاحات كورونا. وتذكيراً، تحتوي نواة الخلايا نوعين أساسيين من الأحماض هما المرسال و"الحمض الناقص الأوكسجين" الشهير باسمه المختصر "دي أن أي" DNA]. وعلى غرار لقاح كورونا، يعمل لقاح السرطان المصنوع بتنقية "الحمض المرسال" على تدريب جهاز المناعة في الجسم كي يصبح قادراً على قتل خلايا سرطان البنكرياس.
في دراسة أخرى كشفت عنها "الجمعية الأميركية لعلم الأورام السريري"، لم يعاود السرطان نصف المرضى الملقحين بعد مضي 18 شهراً على التطعيم المصمم للحيلولة دون ظهور الأورام مجدداً بعد الخضوع للجراحة. على الرغم من كون سرطان البنكرياس أحد أكثر أنواع السرطان فتكاً، إذ يزهق أرواح 90 في المئة من المرضى في غضون عامين من التشخيص، لم تشهد معدلات البقاء على قيد الحياة في صفوف مصابي سرطان البنكرياس أو الإنجازات العلاجية في هذا المجال، أي تحسن طوال عقود.
ومع ذلك، يؤشر البحث الأخير إلى توفر سبيل لتحقيق تقدم، إذ صمم اللقاح المشار إليه آنفاً كي يتماشى مع حال كل مريض بعينه، وذلك باستخدام الشفرة الوراثية الخاصة بـ"الحمض النووي الريبوزي المرسال" الموجود في أورامهم.
بعد حقن اللقاح، يحفز الجسم إنتاج بروتينات مماثلة لتلك الموجودة على سطح الأورام، ما يولد استجابة مناعية في الجسم، [المقصود أن جهاز المناعة يصبح قادراً على صنع أجسام مضادة تلتصق بتلك البروتينات، فـ"ترشد" الخلايا المناعية القاتلة كي تسدد ضربتها إلى تلك الخلايا السرطانية].
وضمن الإطار نفسه، يجدر تذكر أن جهاز المناعة يتضمن خلايا من نوع "تي" T cells تتولى التهام وتدمير أي خلايا سرطانية تحمل تلك البروتينات السطحية نفسها. وتبقى خلايا "تي" في مجرى الدم بعد الخضوع الجراحة، ما يمنع السرطان من التفشي. من بين 16 مريضاً أخذوا اللقاح، علماً بأنه اشتمل على ثماني جرعات منفصلة، تولدت لدى نصفهم استجابة مناعية فاعلة، ولم يعاود السرطان الظهور لديهم طوال فترة الدراسة.
كذلك تشرح الدكتورة لوبيز أن المشكلة تكمن في أن استراتيجية التطعيم هذه "المصممة بعناية للقضاء على السرطان عند كل مريض على حدة" تتطلب وقتاً طويلاً وتتسم بالتعقيد، ويستغرق إنتاج اللقاح اللازم لمريض واحد نحو أربعة أسابيع. أضف إلى ذلك أنها "مكلفة جداً"، وفق كلماتها، ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان ممكناً توفير هذا العلاج عبر هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية "("أن أتش أس" NHS).
وتضيف الدكتورة لوبيز، "الخلايا المناعية التي يتولى اللقاح تدريبها لا تجد طريقها أحياناً إلى داخل السرطان، وحتى إذا دخلت، فإنها في الواقع قد لا تقضي على السرطان".
وفي الوقت نفسه، يرى البروفيسور داونوارد أن المدة اللازمة لتحديد مدى إمكانية استخدام اللقاح من أجل الوقاية، قد تمتد إلى زمن يتراوح بين 10 و20 عاماً، على غرار ما حصل مع لقاح فيروس "الورم الحليمي البشري"، الذي ساعد في تحقيق تراجع كبير في معدلات سرطان عنق الرحم لدى النساء.
ومع ذلك، على غرار علاجات أخرى كثيرة، يفتح هذا النهج الباب أمام تطورات إضافية من شأنها أن تقود، لاحقاً، إلى ثورة حقيقية في جهود علاج السرطان وعلاجه.
لكن التصدي للمرض رهن أكثر بمعالجته أو إطالة عمر المريض، وسرعة تشخيصه أيضاً. ووفق ما سيخبرك أي طبيب أورام، كلما رصدنا السرطان بشكل أسرع، ازدادت فرص البقاء على قيد الحياة.
بينما يحوز علم الوراثة النصيب الأكبر من الاهتمام اليوم، ينهض علماء السرطان ببحوث ترمي إلى استخدام هذه التقنية في رصد أنواع مختلفة من المرض.
وفق الدكتور سيمكوك، "تطلق الأورام أثناء نموها وانقسامها وتغيرها كميات صغيرة مما تحتويه أنويتها من الحمض الوراثي الشهير "دي أن أي" إلى مجرى الدم. يسعنا الآن البحث عن تلك الأجزاء الدقيقة من الـ"دي أن أي". في متناولنا جزيء يعادل مغناطيساً عملاقاً للعثور على تلك الإبر متناهية الصغر في أكوام من القش".
مثلاً، هنالك اختبار للدم يسمى "غاليري" Galleri، وقد دخل مرحلة التجارب لدى هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا. ويهدف "غاليري" إلى اكتشاف قطع الـ"دي أن أي" التي تتسرب من أنوية خلايا السرطان. وقد تمكن من رصد ما يربو على 50 نوعاً من السرطانات لدى أشخاص لا يشكون أي أعراض، ذلك "أن الطريقة الأفضل لعلاج مصاب بالسرطان تكمن في رصده مبكراً"، وفق الدكتور سيمكوك.
ومع ذلك، إذا أثبت اختبار "غاليري" نجاحه، فسيثير أسئلة وتحديات جديدة أمام أطباء الأورام، بحسب الدكتور سيمكوك. "اكتشفت أن لديك دليلاً في خلاياك على الإصابة بالسرطان، ولكن عندما نتبع الخطوات المعمول بها عادة لرصد السرطانات، ولا نجد شيئاً، ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى المريض؟ كيف نتابعه؟ وكيف نعالج السرطان في هذه المرحلة المبكرة؟".
إن التطورات التي شهدناها خلال العقود الخمسة الماضية، ستدعم العلماء للعثور على إجابة عن تلك الأسئلة في نهاية المطاف. ومع ذلك، ثمة عقبات أخرى لا بد من التغلب عليها أيضاً. يعرب البروفيسور داونوارد عن قلق يعتريه، خصوصاً حيال احتمال نشوء "مقاومة الأدوية" drug resistance في المعركة ضد السرطان، وكيف أن من شأنها أن تقوض التقدم الذي أحرزناه ضد المرض.
ووفق البروفيسور داونوارد، إن "المشكلة التي تطل برأسها دائماً عي أن السرطانات، خصوصاً السرطانات في المراحل المتقدمة، تميل إلى أن تكون غير مستقرة جينياً، وتولد تالياً طفرات كثيرة، يجد بعضها طرائق للالتفاف حول العلاج. طالما استخف الناس بمشكلة السرطان المقاوم للعلاج".
وبينما تحسن أداء العلم الحديث في علاج سرطانات موضعية في مراحل غير متقدمة كثيراً، ما زالت خياراتنا العلاجية ضد الأشكال المنتشرة من المرض محدودة، إذ يشير البروفيسور داونوارد إلى أنه "حينما تنتشر الأورام في الجسم، يتعين عليك التخلص من عدد كبير جداً من الخلايا السرطانية. وما يتبقى منها ينزع إلى تطوير مقاومة للأدوية".
على نحو مماثل، ما زلنا عديمي الحيلة في مواجهة أشد الأمراض فتكاً بالأرواح، على شاكلة سرطانات البنكرياس والرئة والدماغ. يبقى التقدم المحرز ضد تلك الأشكال السرطانية ضئيلاً. ويخشى بعض العلماء من أن الفجوة في معدلات النجاة بين أنواع السرطان الأشرس من جهة والأكثر قابلية للعلاج من جهة أخرى، لن تزداد إلا اتساعاً في السنوات المقبلة.
ومع ذلك، ثمة إنجازات كثيرة نستمد منها الراحة والأمل. لقد قطعنا شوطاً طويلاً في مكافحة الأمراض الأكثر تعقيداً التي واجهها البشر على الإطلاق. وقياساً إلى السنوات الخمسين الماضية، سيحمل المستقبل على الأرجح آمالاً وإمكانات أكثر.
فيما لا يتصور العلماء أن لحظة استنارة مباغتة ستتمخض عن اكتشاف علاج شامل، يسود اعتقاد أنه سيصار إلى تفكيك دفاعات السرطان تدريجياً حجراً تلو آخر، في سياق تمسي فيه العلاجات مصقولة أكثر وتتسم بدقة أكبر وتصبح أكثر ابتكاراً من أي وقت مضى. وبخطى تئيدة لكنما بثبات، سيعكف العلماء، وفق رأيهم، على إضعاق قوى السرطان إلى أن ينتفي التهديد الذي يمثله حاضراً.
في المحصلة، ربما تكون النجاحات التي نشهدها الآن صغيرة، لكنها "الخطوة الأولى" نحو إنجاز أكبر بأشواط، كما يعتقد الدكتور غودفري، مضيفاً، "إنها تشبه ربما الخطوات الأولى التي شهدناها حينما بدأ استخدام العلاج الكيماوي. لعلها بدايات نقلة نوعية تعبر بنا إلى المرحلة التالية".
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 04 يوليو 2022
© The Independent