على خطى أجدادهم الفراعنة، اعتاد الشعب المصري توثيق رحلاته للحج عبر رسم الجداريات على جدران المنازل، لتوثيق الرحلة الربانية الأهم في حياة المسلم، لتصبح جداريات الحجاج على مدار 200 عاماً الأخيرة، فناً إسلامياً ذا أصول فرعونية، تدرس في كليات الفنون الجميلة.
وتتزين أغلب شوارع مدينة القرنة بالبر الغربي في محافظة الأقصر (جنوب مصر) بجداريات الحج، التي يحرص الأهالي على عدم إزالتها حتى ولو جرى تجديد المنزل كاملاً، لتصبح بمثابة الوشم الثابت على الجسد، مما يعكس اعتزاز الأهالي البسطاء بتلك الرحلة المباركة إلى بيت الله الحرام وأجوائها.
الفنان الطيب النجار، أحد أشهر رسامي جداريات الحج بمحافظة الأقصر، قال لـ"اندبندنت عربية"، إنه يمارس هذا الفن منذ 50 عاماً، ولم يستطع الاعتزال على الرغم من تقدم السن به، بسبب ارتباط الأهالي القوي بهذا الفن المبهج، على حد وصفه، وكذلك قلة الرسامين العاملين به.
وأضاف النجار، أن الأهالي في أغلب قرى ومدن صعيد مصر ينظرون لهذا الفن على أنه ضرورة حتمية لتوثيق الرحلة الأهم في حياة الحاج على جدران وواجهات المنازل الخارجية، لتصبح تلك الجداريات بمثابة إشهار للمارة والجيران والأهالي بأن صاحب المنزل قد زار بيت الله الحرام وأصبح حاجاً له، ليفوز بلقب جديد، وهو "الحاج فلان".
تجسيد الطقوس
"هانيالك يا حاج، مكتوبالك يا حاج، أمانة عند النبي تبلغ سلامي يا حاج"، بهذه الأغاني الأشعبية التي ينشدها الأهالي تجري عملية رسم جداريات الحج وسط أجواء من البهجة والفرح تعكس التعلق الفطري للأهالي البسطاء في الصعيد بالحج.
قال عبد الرحيم البعيري، نجل أحد الحجاج لهذا العام، إن فرحة أسرة الحاج لا تكتمل إلا بتصميم ورسم جداريات الحج، التي هي بمثابة الإشهار داخل القرية والمدينة بأن صاحب المنزل قد ذهب لأداء رحلة الحج، ومن طقوس رسم الجدارية توزيع المشروبات والحلوى على المارة وسط أجواء الأغاني الشعبية، بعد ذلك يعود الحاج عقب الانتهاء من أداء المناسك إلى منزله ليجد جدارية الحج بمثابة هدية له من أسرته، ليبدأ الجميع في تقديم التهاني له أمام الجدارية.
عن مراحل تنفيذ جدارية الحج، ذكر النجار، "تبدأ بتمهيد جدران المنزل الخارجية ومعالجة الثقوب والحفر والانحناءات بها ثم تبيضها بلون الخلفية، لتبدأ بعد ذلك عملية تجسيد مناسك الحج والبهجة على جدران المنزل، فأول ما يجري رسمه على الجدران هو الكعبة المشرفة وجبل عرفات من جهة والمسجد النبوي الشريف من الجهة الأخرى، من أحد أطراف المنزل أرسم مظاهر بهجة خروج الحاج من منزله في مصر، وسيلة المواصلات التي سيذهب بها إلى الأراضي المقدسة، سواء أكانت طائرة أو باخرة".
وأشار النجار إلى أنه يجري توثيق حالة البهجة والفرح التي تطغى على أسرة الحاج عبر رسم توزيع المشروبات والرقص بالخيول والجمال والتحطيب التي ما زالت موجودة إلى الآن في عديد من القرى.
ونظراً إلى التطور الكبير في عالم الألوان والرسم، أوضح النجار أنه يستخدم أكثر الألوان ثبوتاً على الجدران التي تقاوم أشعة الشمس لتثبت أطول فترة ممكنة، لافتاً إلى أنه عقب رسم الجدارية يزينها بالآيات القرآنية والأحاديث النوية الشريفة، التي تحدثت عن فضل فريضة الحج، ومن أسفلها يكتب اسم الحاج ولقبه وعام رحلة الحج بالتاريخ الميلادي والهجري، مشيراً إلى أن الجدارية عقب الانتهاء منها تصبح بمثابة بانوراما توثيقية مختصرة لرحلة الحج وطقوسها وبهجتها.
وناشد النجار وزارة الثقافة المصرية تدشين مشروع وطني لتوثيق جداريات الحج القديمة في منازل صعيد مصر، لتسهيل عملية تدريسها في كليات الفنون الجميلة، خشية اندثارها خلال السنوات والعقود المقبلة.
جذور فرعونية
قال أحمد البدري، وهو مرشد سياحي وباحث في علم المصريات، إن جداريات الحج بمثابة امتداد أصيل في الأقصر بين الأجداد الفراعنة وأحفادهم، حيث كان المصري القديم يحرص على توثيق الطقوس الدينية على جدران المعابد ومظاهر بهجتها بالتفاصيل الكاملة، لافتاً إلى أن جداريات الحج تحمل الروح المصرية الأصيلة في البهجة والتدين الوسطي البسيط.
وأضاف البدري أن جداريات الحج الكثيرة والمنتشرة على واجهات المنازل تجذب أنظار السائحين خلال زيارتهم لمنازل البر الغربي بالأقصر، ودائماً ما يتوقفون لالتقاط الصور معها، كما يحرص المرشدون السياحيون على تعريفهم بقصة الجداريات وطقوسها.
عبرت سيمون جوني سائحة إيطالية عن إعجابها بجداريات الحج وما ذكر لها عنها من المرشد السياحي بأنها بمثابة جرافيتي لتوثيق الرحلة المقدسة للمسلم، مشيرة إلى أن تلك الجداريات لها عبير يجمع بين الماضي والحاضر، فهي تشبه إلى حد كبير جداريات معبد الكرنك والأقصر وأبو سمبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توثيق أميركي
بادر الكاتب الأميركي أفون نيل، بمشاركة المصورة آن باركر، في توثيق ودراسة جداريات الحج بصعيد مصر بداية التسعينيات في كتاب "رسومات الحج: فن التعبير المصري عن الرحلة المقدسة"، ويضم الكتاب 197 صفحة من القطع الكبيرة والصور التي يضمها لجداريات الحج كتعبير تشكيلي عن رحلة الحج.
ويلاحظ أفون نيل محرر الكتاب من فحص الجداريات القديمة، التي تضم مشاهد من الرقص والتحطيب وتوزيع الشربات، احتفالاً بأداء الفريضة، أن جداريات الحج بمثابة مناسبة اجتماعية مبهجة ليس للحاج فقط، بل لأسرته وجيرانه.
وذكرت المصورة الأميركية آن باركر، أن فكرة الكتاب جاءت حينما كانت مسافرة بالقطار من العاصمة المصرية القاهرة إلى محافظة أسوان بأقصى جنوب مصر عام 1985، ولمحت عبر النافذة رسماً من نوعية جداريات الحج فجابت من أجل تصويرها عديد من المدن والقرى المصرية وحتى المجمعات الزراعية المعزولة على امتداد النيل، لافتة إلى أنه "بعد أن تعرفت على القوة الدافعة وراء هذه الرسومات، لم أقدر على مقاومة نداء تعريف العالم الخارجي بها، لقد اقتنعت بأنها فن شعبي له تاريخ استثنائي".