لن أنسى ما حييت اليوم الذي وطأت فيه قدماي هذا البلد، أنا الطفل الجائع والخائف ذو السنوات التسع. كان طيار بريطاني في سلاح الجو الملكي قد نقل عائلتي إلى بريطانيا على متن طائرته المقاتلة من معسكر الاعتقال في تيريزينشتات (بلدة تيريزين شمال جمهورية التشيك اليوم) في أعقاب تحريره على يد قوات التحالف في مايو (أيار) 1945.
فيما كنا ننتظر داخل مركز استقبال تابع لسلاح الجو الملكي البريطاني ريثما تنتهي إجراءات دخولنا البلاد، أشفق شرطي لطيف علينا أنا وأخوي، وعلمنا أولى كلماتنا بالإنجليزية، كما قدم لكل منا ستة بنسات مع ابتسامة. لا أزال أذكر تلك اللحظة لأنها أول مرة تعامل معنا شرطي يرتدي زياً رسمياً بطريقة غير قاسية.
لم تكن تلك اللفتة الدافئة سوى لمحة عن الاستقبال الرائع الذي لقيته من مواطني هذه البلاد في السنوات اللاحقة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مواطناً بريطانياً فخوراً، وربيت أطفالاً وأحفاداً رائعين، لكن الكرم والقيم التي أثارت شديد إعجابي تتعرض اليوم للتهميش.
إن نجحت الحكومة بتمرير اقتراحاتها الجديدة في موضوع الهجرة من دون تعديلات فمن الأرجح أن يلقى أي شبيه مستقبلي عني، سواء كان فاراً من أوكرانيا أو من الاضطهاد في أي مكان آخر، معاملة مختلفة للغاية.
سوف تمنع عنه الحماية، ويتعرض للتجريم، وقد يرسل حتى إلى مركز اعتقال في رواندا الفقيرة.
شهدت في طفولتي دخول القوات النازية مسقط رأسي في أمستردام وسيرها في الشوارع المرصوفة بالحصى. التحق أبي بالمقاومة الهولندية، ومن موقعه كمحام يهودي محترم أصبح يعمل في إخفاء اليهود، وتأمين وثائق مزيفة تسمح لهم بالهرب من هولندا.
في صباح أحد أيام العام 1942 قبّلنا جميعاً وودعنا متوجهاً إلى مكان عمله ولم أره مجدداً.
أرسلت مع عائلتي إلى معسكر نازي انتقالي قبل أن نحشر في شاحنة مخصصة لنقل المواشي ونرسل إلى تيريزينشتات. لا تغيب عني الروائح الكريهة للروث والبول والعرق والخوف في تلك العربة بحرارتها الخانقة، كما أذكر جيداً شعور الارتياح عندما فتحت الأبواب قبل أن نجد أنفسنا في مكان أسوأ من الخيال. في معسكر الاعتقال. نهش ألم الجوع أحشاءنا وشهدنا معاناة البشر على مستوى عصي على الوصف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمام المشاهد التي تعرضها شاشات التلفزيون خلال الأسابيع الأخيرة لا يسعني إلا أن أتذكر تلك السنوات المريعة. عندما أرى جموع اللاجئين الأوكرانيين المحملين يحملون ما تيسر من أغراضهم القليلة، أتذكر كيف التصقت بأمي فيما انتظرنا ترحيلنا غير مدركين إلى أين نذهب، وما الذي ينتظرنا هناك.
وعندما أسمع عن همجية الجنود الروس تجاه المدنيين في البلدات والقرى الأوكرانية أتذكر القسوة المهولة التي سيطرت على أوروبا عندما كنت طفلاً في أربعينيات القرن الماضي، وما يثلج صدري هو ما يظهره الشعب البريطاني في كل أرجاء البلاد من ود ورحمة، إذ فتح عشرات الآلاف منازلهم لاستقبال العائلات الأوكرانية، لكن الحكومة البريطانية لم ترق إلى مستوى هذا الكرم الشعبي مع ما تفرضه من عراقيل بيروقراطية حمقاء، وليست هذه الإجراءات أسوأ ما في الأمر حتى.
ما يعنيه مشروع قانون "الجنسية والحدود" بشكله الحالي هو أن اللاجئين مثلي، الذين يرغمون على اختيار طرق سير غير قانونية سعياً إلى الوصول لبر الأمان في المملكة المتحدة، سيواجهون عقوبة سجن قد تصل إلى أربع سنوات، ويشكل مشروع القانون هذا انتهاكاً صارخاً لاتفاق اللاجئين الذي أسهمت بريطانيا في وضعه، كما أشارت الأمم المتحدة وكبار القضاة البريطانيين على حد سواء.
يذكر أن اتفاق اللاجئين للعام 1951 أُقر في أعقاب المحرقة اليهودية (الهولوكوست) بهدف الحرص على عدم حرمان أي شخص يهرب من الحرب أو التعذيب أو الاضطهاد أبداً من الحماية لعدم امتلاكه الوثائق المناسبة، وقد أصاب قاض سابق في المحكمة العليا عندما اعتبر مشروع قانون الجنسية والحدود وثيقة قانونية "نافرة"، كما صوت مجلس اللوردات على رفض بعض الأحكام الرئيسة فيها، لكن يبدو أن بوريس جونسون يصر على عدم الاكتراث لمخاوفهم.
إن الحكومة قادرة على التصرف بشكل أفضل، وهذا هو واجبها، حين تعود التعديلات التي وضعها مجلس اللوردات يوم الأربعاء إلى مجلس العموم، فمشروع القانون هذا يشكل إهانة لتقليد عريق يقضي بتوفير الملاذ الآمن لمن يحتاجونه، والذي جعل بلادنا عظيمة.
أعلم علم اليقين بسبب تجربتي الشخصية أن الذين قدمت لهم فرصة لن يظهروا سوى الامتنان، كما فعل كثيرون عند فرارهم من النازيين. كانت الروح الكريمة في ذلك الوقت دلالة على عظمة بريطانيا، أما تمزيق التزاماتنا الدولية فدليل على العكس.
تفخر "اندبندنت" بتاريخ من مؤازرة حقوق المستضعفين الذين يواجهون الأخطار، وقد قمنا بحملة "أهلاً باللاجئين" للمرة الأولى خلال الحرب في سوريا عام 2015، أما الآن وفيما نجدد حملتنا ونطلق هذه العريضة في أعقاب الأزمة الأوكرانية الممتدة، ندعو الحكومة لبذل جهد أكبر وأسرع في سبيل تأكيد إيصال المساعدات.
ستيفن فرانك بريطاني ناجٍ من الـ "هولوكوست".
© The Independent