Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حوار ثري بين العقل واللاعقل في "عينا عنزتي" لإريك دي روزني

الراهب الذي اكتشف وجود "سادة الليل" في أفريقيا وانخرط في نشاطاتهم

إريك دي روزني خلال إحدى جولاته في أفريقيا (موقع الدراسات الأنثروبولوجية الفرنسية)

من ناحية مبدئية، ليس ثمة ما يجمع بين اختيار الفرنسي إريك دي روزني أن يكون راهباً يسوعياً،  وما يعبّر عنه في واحد من أهم الكتب التي وضعها في حياته الحافلة، بل في واحد من الكتب الأنثربولوجية التي تُعتبر في فرنسا، كما في أوروبا عموماً، كلاسيكية، لا سيما في ابتعادها عن الفكر اليسوعي بحد ذاته، ابتعاد النقيض عن النقيض. ولكن دي روزني حين تم اختياره ليقوم بالتبشير الديني في أفريقيا، كان يعرف سلفاً أن أي تبشير ديني هناك سيكون عليه أن يدنو بأكثر ما يمكن من تقاليد تلك الشعوب التي عاشت مئات السنين على سجيتها. غير أنه لم يكُن يتصور بالطبع أن ذلك الدنو سيكون شاملاً بالنسبة إليه، لا سيما حين سيترك ذلك الإرث الثقافي الفكري الغريب والمعنون "عينا عنزتي"، الكتاب الذي أصدره الباحث والناشر جان مالوري في سلسلته "أرض البشر" التي أصدرت طوال ما يقرب من ثلثي القرن من الزمن، بعض أهم الكتب في تاريخ النشر الإثنولوجي الفرنسي، وصولاً إلى كتب للأب اللبناني سليم عبو والكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم إلى جانب آخرين، من بينهم كلود ليفي سترواس وفكتور ساغالان. و"عينا عنزتي" الذي أصدرته السلسلة عند بدايات عام 1900 ويُعتبر كلاسيكياً اليوم، حتى إن كان من النادر لليسوعيين أن يبدوا رضاهم عنه، يكاد يتموضع ولو مواربة بين رواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد، وبين ذلك الفيلم الغريب الذي حققه الفرنسي جان روش قبل عقود، يصوّر فيه حياة أفارقة منفصمة بين نهارهم العادي الذي يمارسون فيه أعمالهم العادية في المدينة، وبين ليل يتحوّلون فيه إلى "سكان أصليين" يمارسون السحر والطقوس العتيقة بحيث بالكاد يمكنك التعرف إلى واحد منهم ولو كان رفيقك المقرب.

مقاربة اللاعقل بعقلانية مفرطة

وفي الأحوال كافة، يبدو "عينا عنزتي" أقرب إلى فيلم روش منه إلى رواية وايلد وعلى الأقل انطلاقاً من كونه يغوص في الواقع الذي عايشه دي روزني بنفسه وعلى الأقل طوال الأعوام الطويلة التي عاشها في دوالا، عاصمة الكاميرون، مبشراً ومختلطاً بالسكان في سبيل تبشيره، فإذا بهم يمارسون عليه ذلك التأثير العميق الذي يكرّس مئات الصفحات للحديث عنه بكل جدية في هذا الكتاب. فمن أين يأتي هذا التأثير؟ بكل بساطة من المعلم "دين" الذي "اخترته بنفسي، كما يقول دي روزني، ففتح لي عيني وهو الطبيب المحلي (الشافي) العامل في أحد الأحياء الشعبية في دوالا". ويخبرنا دي روزني أن هذا المعلم لا يحسن لا القراءة ولا الكتابة، ولا يتكلم الفرنسية، لغة المستعمر في ذلك البلد. ومع ذلك، فإن الكتاب كله إنما هو هنا ليشهد ما عايشه الكاتب/ الراهب بين أولئك الأطباء الشعبيين، أطباء الروح من أمثال "دين" ويسمّون هنا "نغانغا". وينبّهنا الكاتب إلى الخطأ الشائع في اعتبار الأوروبيين لـ"نغانغا" سحرة، مع أن السحرة هم في الحقيقة أشرس أعداء هؤلاء الأطباء. ودي روزني بعد أن يوضح لنا الفارق بين السحر والطب الشعبي، مؤكداً على تناقضهما التام، يحكي لنا كيف أن "سادة الليل"، "نغانغا"، قد تبنّوه تماماً، إلى درجة أنه منذ اللحظات الأولى التي ارتبط فيها معهم، قدموا له عنزة خاصة به، ستتحمّل عنه كل ما سوف يشعر به من إرهاق أو مرض، من ضعف أو حزن أو إحباط، بل إنها هي التي ستموت مكانه إن أصيب يوماً بما قد يؤدي إلى موته. (ومن الواضح أن هذا الجانب من الحكاية الحقيقية التي يرويها لنا الكاتب، هي التي دفعتنا أول هذا الكلام، إلى الإشارة إلى صورة دوريان غراي، أي إلى تلك اللوحة التي رسمها فنان صديق لغراي من خصائصها أنها تشيخ وتتدمر بدلاً منه حتى اللحظات الأخيرة. ومع ذلك، ليس ثمة تطابق حقيقي بين الحالين، بخاصة أن دي روزني يحدثنا عن تجربة حقيقية عاشها، كما يعيشها ملايين من الأفارقة المؤمنين بـ"سادة الليل"، من الذين، وفي عودة إلى عنوان الكتاب "عينا عنزتي" يؤمنون في طريقهم أيضاً بأن عنزة كل واحد منهم قبل أن تموت لتفديه، حائلة بذلك دون موته، تعطيه عينيها لكي يرى بهما، بل يرى بهما ما لا يمكن أن يُرى بغيرهما.

النظر بطريقة مختلفة

ولعل المهم في هذا الكتاب هو أن دي روزني، على الرغم من انغماره العميق في السلك الكهنوتي، يتبنى في صفحات الكتاب وفصوله كل تلك التجربة التي عاشها بنفسه، فيخبرنا كيف أنه، طوال أعوام عيشه هناك ومنذ لحظة انخراطه في تلك التقاليد الشعبية انخراطاً لا لبس فيه، يجد نفسه يعيش عدداً من التجارب والأحوال التي بدا له من الواضح أنه لن يتمكّن من تجاوزها بمفرده، ولا حتى بفضل إيمانه الكنسي، ويرصدها لدى المحيطين به، متمثلة في أوضاع تتراكم بما فيها من توترات وأحقاد عائلية وبطالة وحالات مرضية، وصولاً إلى حالات جنون وموت تطاول كثراً من الذين يعرفهم، فوجد نفسه عاجزاً عما سوف يجد حلولاً له لدى "أسياد الليل"، بمن فيهم "دين" طبيبه الشافي نفسه. وإذ يمعن دي روزني في تفصيل كثير من تلك الحالات التي عايشها بنفسه وفي توصيف الأساليب التي رصد الكيفية التي بها يعمل "نغانغا" على التصدي لتلك المعضلات التي تفوق طاقة البشر، "تعلمت في نهاية الأمر كيف أنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة تماماً عن الطرق التي كنت قد اعتدت أن أنظر إليها بها".

تضافر بين نقيضين

ولعل من المهم أن نتابع الراهب دي روزني هنا وهو يحدثنا عن "دين"، مؤكداً لنا أن هذا الأخير لم يكُن ليسهى عن باله لحظة وضع الكاتب هو نفسه كراهب يسوعي، عليه واجب احترام تكوينه الكنسي وعدم المبالغة في الافتراق عنه. ومن هنا، فقد كان "من الأهمية بمكان أن يتيح تضافر التزامي الديني مع رؤية نغانغا دين الروحية، لكلينا بأن نفهم ونتفهّم كل منا الآخر"، يقول دي روزني في كتابه، مشيراً إلى أن البعد المقدس المشترك "كان هو ما يجمع بيننا. كنا نسير معاً إلى الهدف نفسه وإن عبر دربين مختلفين"، كما يؤكد. غير أن ما لا يركز عليه الراهب دي روزني تحليله هنا، إنما هو رد فعل التراتبية الكنسية تجاه ما يرويه وحتى تجاه "الحماسة المفرطة" التي يروي بها ما يروي. لكننا في المقابل يمكننا أن نتصور صعوبة ذلك الحوار بين أوروبا العقلانية، وهذا الواقع الأفريقي الذي يبدو متناقضاً معها تماماً، كما يمكننا أن نفهم كيف أن نص هذا الكتاب قد عرف كيف يثير اهتماماً، ولو سلبياً، لدى الأوساط العلمية الأوروبية عند ظهوره، وقد اتهم بعضها الكاتب بكونه يحاول أن يستنفر اللاعقلانية لتساند الدين في "معركته ضد العقل". لكن الأوساط الكنسية تبدّت غير راغبة على أية حال بتبنّي نظرة راهبها الكاتب إلى تلك الحكاية بأكملها. ومن هنا، بقي كتابه فريد نوعه في مجال الحوار بين العقل و"اللاعقل"، حوار يريد أن يكون إيجابياً لا تناحرياً كما جرت العادة بالنسبة إلى هذا النمط من الحوارات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة غنية ومتنقلة

ويبقى أن إريك دي روزني (1930 – 2012) المولود في فونتينبلو جنوب باريس انتمى عام 1949 وبعد انتهاء دراسته الثانوية إلى سلك الآباء اليسوعيين ومن ثم وإثر دراسات أدبية معمقة، تابع تدريبه العلمي في بعض المعاهد والأديرة اللبنانية لسنوات، وحين اندلعت الحرب الجزائرية، جُنّد كقناص في البحرية في وهران، وكان ذلك منطلقاً له لتكرار تجارب أفريقية قادته أولاً إلى الكاميرون، حيث ما لبث في عام 1962 أن اكتشف وجود ونشاطات "سادة الليل" وانضم إلى مدرستهم، ليس كمراقب أو دارس بل كمساهم فاعل في نشاطاتهم. وهو بذلك خاض تلك التجارب التي مكّنته من أي يضع عدداً من الكتب التي لم تكُن لتنال رضا رؤسائه الكنسيين حتى كان كتابه هذا الذي نتناوله هنا والذي بدا كنوع من تلخيص لتجربته الأفريقية في خصوصيتها من جهة وفي شموليتها من جهة ثانية... وهو الكتاب الذي أطلق شهرته في أوروبا كما في أفريقيا وأثار، كما لا يزال يفعل بعد سنوات من رحيل الراهب – الكاتب، سجالات عميقة تجددت حين حُوّل الكتاب إلى فيلم سينمائي شيق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة