Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكن مقارنة عقائد القرن العشرين بالإنترنت؟

الشبكة تبدع كل يوم مؤثراً جديداً حتى لو كان يعرض ملابسه فقط

المؤثر على شبكة الإنترنت يمكنه أن يحشد مشاهدين أضعاف عدد جماهير أكبر تجمع سياسي في القرن السابق (رويترز)

تربت عدة أجيال من الشباب العربي على أفكار وعقائد كانت تصلهم عبر الكتب والصحف والمجلات أولاً، ثم في الراديو والسينما والتلفزيون واليوم عبر شبكة الإنترنت، والعقائد أو الأيديولوجيات منذ بدايات القرن العشرين حتى ما قبل عصر الإنترنت كانت تظهر على شكل تلقين جماعي، أي إنها مجموعة من الأخبار التي يتم بثها على مدى الساعة أو خطابات سياسيين ينتظرهم المستمعون في أوقات معينة كما خطابات جمال عبد الناصر وجواهر آل نهرو وفيديل كاسترو وحافظ الأسد، أو عبارة عن قراءات لكتب أيديولوجية كما لدى الماركسيين أو القوميين أو الاشتراكيين والليبراليين منهم. 

وقد كان أصحاب النظريات الأيديولوجية سواء كانت تدعو إلى الوحدة العربية أو إلى القومية الوطنية أو إلى الدفاع عن القضية الأصلية وكانت حتى زمن غير بعيد القضية الفلسطينية، هم الأبطال في الصورة المشهدية لدى الأجيال الشابة في كل مرحلة من المراحل، فمن لينين إلى ستالين إلى ماوتسي تونغ إلى جمال عبد الناصر والوحدة العربية ودول عدم الانحياز ثم تشي غيفارا إلى ياسر عرفات، إلى القياديين المنظرين والمفكرين كما جورج حبش ومحسن إبراهيم وكمال جنبلاط، ومنهم إلى الشعراء الذين أثروا في الأجيال العربية المختلفة المشارب والمآرب من سعيد عقل إلى محمود درويش ومظفر النواب ونزار قباني وغيرهم. فقد كانت الأيديولوجيا والعقائد تنتقل عبر أشخاص هم إما قادة وإما مفكرون يتوجهون إلى جمهور عام ويعملون على تأطيره وجذبه بأفكارهم على جميع الصعد الثقافية والاجتماعية، ولكن على رأسها السياسية. وهذا يشبه الدور الذي يلعبه مؤثرو شبكة الإنترنت ولكن بطرق مختلفة. 

مؤثرو الإنترنت ومؤثرو القرن الماضي

القضايا العربية القديمة نفسها تفتَّتَتْ إلى مئات القضايا على شبكة الإنترنت، وبات مؤثرو الأمس مجرد أرشيف على الشبكة يستخدمهم مؤثرون جدد بطريقة مختلفة لعرض القضايا وطرحها وإيصالها إلى عدد أكبر من الجمهور. فالمؤثر على شبكة الإنترنت اليوم يمكنه أن يحشد مشاهدين لصورة واحدة له أضعاف عدد جماهير أكبر تجمع سياسي في القرن السابق. فقد تغيرت نوعية المؤثرين خارج شبكة الإنترنت عمن هم داخلها. 

باتت الأجيال العربية منذ بدء ثورات الاستقلال عن الانتدابات الأوروبية في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، أجيالاً سياسية، أي إن الفرد العربي يولد ويتربى ويترعرع على النقاش والتحليل السياسي، وقد كان لهذا الغنى في النقاش السياسي تأثيره في ظهور طبقات من المثقفين والناشطين السياسيين والاجتماعيين والجمعيات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وقد شهدت المرأة العاملة في السياسة أزهى مراحلها في تلك الفترة الممتدة من هزيمة الـ67 التي سمحت بانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني الذي لقي تأييداً له لدى الأجيال الشابة العربية، التي رأت أن الأنظمة العربية الرسمية لا يمكنها استرجاع فلسطين كما ستفعل المقاومة الشعبية المسلحة. 

جمعت هذه القضية حولها مجموعات كبيرة من الأحزاب العربية في مختلف الدول العربية وما زال بعضها حياً حتى اليوم. وكان أن أبرزت الأيديولوجيا السياسية المعادية لإسرائيل مجموعة من الفرق الفنية الموسيقية وعدداً كبيراً من الشعراء والمفكرين وكتاب الصحف والمسرحيين والمغنين. لكن توقف العمل الفدائي بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 لمدينة بيروت جعل تلك الأيديولوجيا تخفت بسرعة، خصوصاً مع بدء مفاوضات السلام بعد سنوات. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كل هذه العقائد والأفكار التي يصطلح على تسميتها بالبروباغندا كانت تصل إلى الشباب العربي عبر وسائط محددة، وبدفق معين لو قورن اليوم بدفق المعلومات الذي تتيحه شبكة الإنترنت لمستخدميها لبدا كنقطة في بحر من المعلومات. ولبدا أن الأجيال السابقة على الأجيال الحالية كانوا يتلقون كمية ضئيلة من المعلومات. وهذا ما يؤدي إلى تغير نوعية المؤثرين والمنظرين والمفكرين وأصحاب الرأي. فشبكة الإنترنت تبدع كل يوم مؤثراً جديداً حتى لو كان يعرض ملابسه فقط، وسيجد ملايين من الناس يشاهدون يومياته، بينما لا يفعل شيئاً مهماً. ويمكنهم في الوقت عينه الاطلاع على آخر النظريات العلمية حول أي شيء في الكون، وبإمكانهم الوصول إلى مصادر معلومات مختلفة في السياسة والاقتصاد في النهار ذاته وعلى مدى الساعة. بينما كانت بروباغندا الأجيال السابقة تصل إليهم عبر قنوات محددة بدءاً من المدرسة ثم المجتمع الصغير ثم الاجتماعات الحزبية والعائلية، ومن الصحف والكتب ومن نشرات الأخبار الإذاعية أو التلفزيونية. شبكة قنوات واضحة تماماً، ويمكنها أن تبث في المستمعين والقراء ما تشاء حتى تكاد تشكل أفكارهم كما يقول عالم الاجتماع الأميركي هربرت ماركيوز عن التلفزيون أو برامج الدعاية الأميركية على أنواعها، في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، بأنها يمكنها صناعة رأي عام محدد وموجه كما يجب. 

أما في الزمن الحالي وعلى شبكة الإنترنت فإنها تضم إلى جانب كل قنوات الإعلام والإعلان والدعاية القديمة، مكتبات هائلة لمحبي الكتب، وبرامج لا تنتهي حول أي قضية من القضايا، وملايين الآراء المتبادلة حول موضوع واحد، فيصبح إنسان شبكة الإنترنت متلقياً للمعلومات التي يختارها من بين كم هائل من المعلومات. وهذا ما جعل المؤثرين في عالم الإنترنت أشخاصاً مختصين في ما يقومون به، ويعرفون ما يفعلونه، ويعرفون مصادر المعلومات التي يستقونها، فهم ليسوا فلاسفة وليسوا بالضرورة علماء اجتماع أو نفس واقتصاد وأدب كما كان عليه المؤثرون في الأزمنة السابقة. فشبكة الإنترنت بتفرعاتها الكثيرة سواء بتطبيقاتها أو بمصادر المعلومات التي تقدمها، تجعل التنافس بين المؤثرين على شبكة الإنترنت كبيراً جداً من أجل خلق أو فعل شيء جديد تماماً يثير ردة فعل قوية لدى الجمهور، وكلما زاد عدد المتابعين زاد المؤثر تأثيراً في الشبكة. وهذا التنافس الحاد في مواضيع واختصاصات وفنون مختلفة يطور شبكة الإنترنت تلقائياً، فحال الشبكة اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عشر سنوات، إنها عالم يتسع كلما اتسع عدد المشاركين فيه وعلى رأسهم المؤثرون الذين يجذبون المتابعين. 

المؤثرون الجدد والخوف من المعلومات المضللة

والتأثير الذي قد يحققه أي صاحب فكرة جديدة على شبكة الإنترنت قد لا يكون إيجابياً دوماً، فقد أقامت الحكومات هيئات وإدارات لمتابعة الأخبار الكاذبة والملفقة التي تجذب أعداداً كبيرة من المصدقين، الذين قد يتحولون إلى عقائديين تجاه هذه الفكرة المضللة، كما حصل مع المنتسبين إلى "داعش" عبر شبكة الإنترنت أو حركة "آي كانون" الأميركية التي سيطرت على مبنى الكابيتول، والتي يعتقد أعضاؤها أن البيت الأبيض مكان يمارس فيه السياسيون الجنس مع الأطفال، وهم صدقوا هذه القصة التي انتشرت حول العالم عبر شبكة الإنترنت، إلى درجة أنهم حاولوا منع تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة بعدما صدقوا كذبة أن ترمب نجح في الانتخابات لكن الدولة العميقة أسقطته. و"آي كانون" هي عقيدة تعمل على الكشف عن الدولة العميقة التي تدير أميركا. 

في القرن العشرين كانت العقائد معدودة على الأصابع، بل كانوا يسمون أموراً باتت تفصيلية أو مثيرة للتندر اليوم بأنها عقيدة، مثل التاتشرية أو الريغانية أو البريجينيفية. كان المتخاصمون حول العالم يختلفون حول مجموعة معينة من القضايا ذات التعريف المحدد، أي الحرية والديمقراطية والبيئة النظيفة والليبرالية وحرية التجارة وحرية التعبير وغيرها من الأفكار التي تجد مقابلاً لها في المعسكر الآخر. ولكن في التأثير العقائدي باتت شبكة الإنترنت متفوقة بأشواط، فكل قضية من قضايا القرن العشرين باتت تتفرع إلى آلاف القضايا، وفيها مئات النظريات ولديها مجموعة كثيرة تحارب من أجلها حول العالم وفي تشارك كبير أمنته ثورة الاتصالات. فلو أخذنا البيئة مثلاً، فقد بات لها أحزاب في أكثر الدول ووزارات وجمعيات ومؤسسات، وباتت تتناول أقساماً تفصيلية في البيئة من النفايات إلى احترار الكوكب إلى الغابات والمياه والهواء وكل ما يحيط بنا. باتت البيئة في عالم الإنترنت عالماً بحد ذاته فيه آلاف المؤثرين الذين يشبهون مؤسس منظمة غربنبيس في الثمانينيات مثلاً، الذي كان فريداً من نوعه حينها في عالم المؤثرين الواقعيين. صارت طبقة الأوزون التي أطلقت العمل البيئي حول العالم تفصيلاً بسيطاً في عالم البيئة على شبكة الإنترنت. وهذا ينطبق على كل قضية من قضايا العالم. 

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير