الطبيبة يائسة. فهي تحاول منذ أشهر إقناع جيرانها في هذه البلدة الواقعة في شمال غربي بلغاريا بتلقي اللقاح للحد من انتشار وباء كورونا السريع، ولكن من دون جدوى. وفي يوم الأربعاء الملبّد بالغيوم هذا، لم يأتِ سوى عدد قليل من الأشخاص لأخذ اللقاح في فترة بعد الظهر.
اللقاح متوافر بكميات جيّدة، ويمكن الاختيار بين "فايزر" و"موديرنا" و"جانسن". غير أن 12 في المئة فقط ممن يعيشون في فيدين، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها 63000 نسمة، وتقع بالقرب من الحدود مع رومانيا، قد أخذوا اللقاح بجرعتيه.
وذكرت بيبا تسفيتانوفا، وهي طبيبة ومسؤولة الصحة العامة التي تعطي اللقاحات للسكان في هذه البلدة المتهالكة ذات الميناء على نهر الدانوب، التي يستقبل مستشفاها عشرات المصابين الجدد كل يوم.
وقد سجلت البلاد رقماً قياسياً خلال الجائحة تخطى 6000 إصابة بـ"كوفيد –19" يومياً في الشهر الماضي، في حين وصل معدل الوفيات هذا الشهر إلى مستوى قياسي.
وشرحت تسفيتانوفا، "نحن نحاول أن نقنع الناس بأن الخطوة الوحيدة للحدّ من تفشي المرض هي أخذ اللقاح، ومن واجبنا أن نفعل كل ما في وسعنا لإيقافه".
وتابعت الطبيبة، "نعمل على إيصال الرسالة. لكننا غالباً ما نسمع من السكان أنهم قرأوا معلومةً ما، من مصدر ما، وهم بالتالي لا يريدون تعريض أنفسهم للقاح".
وتجدر الإشارة إلى أن بلغاريا تسجّل المعدّل الأدنى من التلقيح ضد فيروس "كوفيد-19" بين دول الاتحاد الأوروبي، كما تسجّل النسبة الأعلى من الوفيات بسببه. وقد أودت الجائحة حتى الآن بأرواح ما يزيد على 27 ألف شخص في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكّانه 7 ملايين نسمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من المحاولات التي قامت بها السلطات للتشجيع على تلقي اللقاح، من خلال حملات إعلامية وزيارات للمدارس والشركات ومرافق الرعاية الصحية من قبل مناصرين اللقاح، إلا أن عدد الأشخاص الذين تلقّوا كامل الجرعات حتى الآن لا يتخطى الشخص الواحد من أصل كل 4 بلغاريين.
يذكر أن بلغاريا تملك مخزوناً وافراً من اللقاحات، إلى درجة أنها تبرعت بما يزيد على 170 ألف جرعة لبوتان في يوليو (تموز) الماضي قبل أن تنتهي صلاحيتها.
ولا تعتبر بلغاريا استثناء، إذ يعمّ الشك بجدوى اللقاح في دول أوروبا الشرقية. ففي رومانيا المجاورة، لم يتلقّ اللقاح سوى 37 في المئة فقط من السكان. كما أن حوالى شخص واحد من أصل كل 5 سكان البوسنة قد تلقوا اللقاح.
أما في أوكرانيا، فقد تم تطعيم 21 في المئة فقط من الناس، فيما تفيض المستشفيات بمرضى "كوفيد -19"، الأمر الذي يُضطر المرافق الطبية على إقامة خيام مؤقتة لتقديم الرعاية للمرضى وأولئك الذين يحتضرون.
وقد تكون معدلات التلقيح في دول أوروبا الشرقية ودول البلقان أقل مما تورده الإحصاءات الرسمية. ويجري إصدار العديد من شهادات تلقيح "كوفيد- 19" الرقمية المزيفة من قبل العاملين في الصحة، حتى أن السلطات تفكر بتركيب كاميرات في مراكز التطعيم. وقد يسعى الأطباء الذين يتقاضون رواتب ضئيلة إلى الكسب المادي من المشككين باللقاح المستعدين لدفع ما يصل إلى 300 دولار (223 جنيهاً استرلينياً) لقاء شهادة مزيفة تسمح لهم بالعمل والسفر.
وأشار خريستوف ايفانوف، وهو زعيم "حزب نعم" المعارض ومدافع متحمس عن اللقاح، إلى أنه "يجب أن يسجل الطبيب شهادة التلقيح لكي تظهر في قاعدة البيانات". وأضاف، "تذهب إلى الطبيب، وهناك يقومون بكل الإجراءات الإدارية، ومن ثم يرمون اللقاح في سلة المهملات بدلاً من حقنك به".
وأثارت معدلات التلقيح المنخفضة قلق المسؤولين في الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية، الذين كانوا يحثون بلغاريا ومنطقة البلقان، بما في ذلك البوسنة ومولدوفا، على تسريع وتيرة التطعيم، ليس فقط حرصاً على سلامتهم هم بل أيضاً من أجل بقية دول العالم.
وأوضح تيري بريتون، مسؤول الاتحاد الأوروبي المكلف الإشراف على توزيع اللقاح، للصحافيين في صوفيا الأسبوع الماضي أن "الخطر الأول هو بالطبع على السكان البلغاريين، ولكن [ثمة خطر آخر] أيضاً يكمن في توليد متحور جديد، سيكون أشد مقاومة من الأنواع الأخرى". وحذّر من أنه إذا "لم نفعل شيئاً، فإننا قد نرى متحوراً بلغارياً لأن هناك عدداً كبيراً جداً من الأشخاص الذين لم يأخذوا اللقاح".
واستعملت السلطات في دول أوروبا الشرقية مزيجاً من أساليب الجزرة والعصا، للتشجيع على تناول اللقاح. فأوكرانيا مثلاً قررت دفع ما يعادل 40 دولاراً (30 جنيهاً استرلينياً) نقداً لمن يأخذ اللقاح. وسعت السلطات البلغارية إلى إجبار أرباب العمل على جعل التطعيم إجبارياً، لكنها ألغت شرطاً يقضي بتوقيع من يتم تطعيمهم على تنازل عن المسؤولية، علماً أن هذا الشرط كان قد أذكى نظريات المؤامرة التي تزعم بأن التلقيح غير آمن.
وأسفرت الإجراءات عن نجاحات صغيرة، خصوصاً بين المهنيين المتعلمين في مدن مثل صوفيا، عاصمة بلغاريا، حيث تم تطعيم حوالى ربع السكان.
وفي مركز للتلقيح في محطة مترو بمنطقة مزدحمة وسط جزء من المدينة يسكنه الميسورون، قال إداريون إن الأعداد قفزت من حوالى 30 إلى 150 في اليوم الواحد منذ تطبيق القواعد الجديدة التي أجبرت الشركات على جعل تلقي اللقاح إلزامياً.
غير أن مسؤولي الصحة العامة يحذرون من أن الأرقام الإجمالية لا ترتفع بالسرعة الكافية لمواجهة الزيادة المحتملة في الإصابات خلال الشتاء. وخلافاً لفرنسا، حيث حفز خطاب واحد شديد اللهجة القاه الرئيس إيمانويل ماكرون في يوليو (تموز) إلى ارتفاع كبير في عدد حالات التطعيم، فإن الشكوك حول التطعيم في أوروبا الشرقية راسخة بشكل عميق.
وهذه الشكوك ضاربة الجذور في تربة من عدم الثقة القديمة العهد بالسلطات تعود إلى أيام الحكم الشيوعي. هكذا، يرى إليان فاسيليف، المحلل والدبلوماسي السابق، في صوفيا "لأننا عشنا في ظل أنظمة شمولية، فنحن نعتقد أن الحقيقة لا تكون مع من هم في السلطة".
إلا أن التردد في تلقي اللقاح ناجم أيضاً عن موجة جديدة من حملات التضليل الفعالة التي يقوم بها ناشطون متحمسون ضد التلقيح ويجري نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يحصل في معظم أنحاء العالم.
ولفت تيهومير بيزلوف، الباحث في مركز دراسات الديمقراطية، وهو مؤسسة بحثية، إلى أن "المشكلة في هذه اللقاحات من الجيل الأول هي أنها ليست ناضجة بدرجة كافية". وجاء ذلك في معرض إشارته إلى الحداثة النسبية للقاحات كوفيد مقارنة بطعوم أخرى تم اختبارها لسنوات عدة قبل أن يجري استعمالها بشكل جماعي.
وأضاف "وهذا يعطي معارضي التلقيح فرصة وثغرة". وقد أشار محللون أيضاً إلى التأثير الثابت للدين كعامل.
وقال كاهن مسيحي أرثوذكسي خلال زيارة قام بها أخيراً إلى الريف الروماني إنه يعارض أي نقاش عام حول التلقيح أو حالات التلقيح، معتبراً أنه قرار خاص [بصاحب العلاقة]. وفي رومانيا، يخضع اثنان من الكهنة للتحقيق بمزاعم تتعلق بإبعاد أعضاء في رعيتهم لكونهم قد أخذوا اللقاح.
حثت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المؤمنين علناً على تناول اللقاح الصيف الماضي، إلا أن النقاد اتهموا الكنيسة الأرثوذكسية البلغارية بالترويج بطريقة بارعة رسالة مناهضة للتلقيح من خلال امتناعها عن تأييد التطعيم الجماعي، والتحدث بدلاً من ذلك عن قدسية جسد السيد المسيح.
كانت أنظمة الرعاية الصحية مستنزفة في هذه البلدان كافة، بسبب الهجرة كما سحقها نقص الاستثمارات، الأمر الذي فاقم انعدام الثقة بالسلطات الرسمية. وقد نشبت في الأسابيع القليلة الماضية حرائق فتاكة في أجنحة كوفيد في مستشفيات ببلغاريا ورومانيا، اسفرت عن مقتل 12 شخصاً.
وكما هي الحال في الكثير من دول أوروبا الشرقية والبلقان، فإن هناك مساحات شاسعة من الريف البلغاري والروماني قد تضررت نتيجة لتناقص عدد السكان. وتبدو المناطق الريفية الواقعة شمال غربي بلغاريا وكأنها صحاري قاحلة. فهناك مئات البيوت المهجورة كما يظهر، بنوافذ مكسورة وأبواب تمت تغطيتها بألواح خشبية وانتشرت فيها الأعشاب الكثيفة. وثمة مستودعات هائلة ومجمعات مصانع تم إفراغها من محتوياتها يغطيها الصدأ وكتابات الغرافيتي. غير أن عدداً محدوداً من الشركات لا تزال تعمل.
ولا يشعر هؤلاء السكان الذين يتسكعون في البلدات والقرى إلا بقدر ضئيل من الثقة في مستقبل بلادهم، ولعل ثقتهم باللقاح أقل من ذلك بكثير.
هكذا قال أحد المراهقين في الساحة الرئيسة في فيدين "أشك في أن اللقاح الذي يعطونه للأثرياء هو نفسه الذي يتلقاه الفقراء".
وتؤذي سياسات الاستقطاب التي تبعث على الفرقة ثقة العامة. لا تزال رومانيا من دون حكومة منذ أشهر. أما أوكرانيا، فهي عالقة في أزمة مستمرة، فيما تحتل القوى الموالية لروسيا شرق البلاد. ويقال إن البوسنة على وشك الانهيار من الداخل، مع تحدي القوميين الصرب اتفاقية السلام السارية منذ 25 عاماً.
وإذ أجرت بلغاريا ثلاثة انتخابات غير حاسمة هذا العام، ما زال يتعين عليها تشكيل ائتلاف حاكم.
يلقي النقاد باللوم على مكائد النخبة السياسية في البلاد، بمن فيهم بويكو بوريسوف رئيس الوزراء السابق الذي بقي طويلاً في السلطة، وخصومه. لقد تصرف بوريسوف بادئ الأمر بسرعة في ما يتصل بالجائحة، ففرض إجراءات إغلاق معقولة. إلا أنه سعى في ما بعد إلى حماية نفسه من أي تداعيات سياسية، وذلك من خلال إنشاء هيئتين للإشراف على الرعاية الصحية، توجه كل منهما رسائل متناقضة.
واعتبر إيفانوف زعيم الحزب المعارض أنه "سيستيقظ في الصباح ويقول، اليوم سألتقي بهذه المجموعة وأعرب عن تأييدي لرسالتهم وفي يوم آخر المجموعة الثانية".
وعندما بدا أن شعبية بوريسوف آخذة بالتزايد العام الماضي فيما التفّت البلاد من حول إجراءاته الخاصة بـ"كوفيد-19"، انقضت المعارضة، وأخذت تشكّك في جدوى الإغلاق، وصلاحيات فرض [ارتداء] الكمامة، ومن ثم بعمليات التطعيم في نهاية المطاف وذلك كوسيلة لإسقاطه.
هكذا وصل حزب يمني متطرف إلى البرلمان للمرة الأولى هذا الشهر بفضل رسالته القوية ضد التلقيح والتي لم يكد يملك غيرها من مبررات الفوز. وتفيد دراسات استقصائية إلى أن نسبة من البلغاريين تصل إلى 70في المئة يعارضون اللقاح. وتُظهر المقابلات أن الأسباب التي تدعوهم إلى ذلك مختلفة. وفيما تساءل البعض عن فعالية اللقاح، أشار آخرون إلى مخاوف لا أساس لها من الآثار الجانبية، وهناك من أعرب عن القلق من أجندات تآمرية.
مثلاً، قال كارامفيل كامينوف، 52 سنة، وهو سائق شاحنة، "أنا شخص موفور الصحة ولا حاجة بي للتلقيح". وأضاف "أثق بالأطباء بوجه عام، أما اللقاح فلا أثق به".
إن انتشار المشاعر المناهضة للتلقيح يجعل أولئك الذين يختارون أخذ اللقاح مجموعة محدودة.
في هذا السياق، كان فالنتين تسينوف، 47 سنة، البلغاري الذي يعمل في الزراعة في المملكة المتحدة، يأخذ جرعته الأولى من اللقاح خلال وجوده في الوطن لزيارة عائلته في فيدين.
وأوضح أن مراقبة الحياة تعود إلى طبيعتها بالقرب من كانتربري حيث يعيش، قد أقنعته أن اللقاح كان آمناً وفعالاً.
ومع ذلك، فهو يرفض أن يدافع عن اللقاح أمام أصدقائه وعائلته في فيدين.
وقال "أفضل عدم التشاجر معهم، لأنني أخشى أنهم سيحاولون إقناعي".
ساهمت ميلينا خريستوفا في إعداد هذا التقرير.
© The Independent