في قرية لوكا بالقرب من مدينة سومي التي أسسها القوزاق منتصف القرن الـ 17، أمضى الكاتب العالمي أنطون تشيخوف مع عائلته صيفين متتاليين في عامي 1888 و1889، في منزل ريفي من طابق واحد يحتوي على ست غرف. كانوا قد استأجرو البيت وسط مساحة خضراء واسعة من عائلة لينتفاريف، وهناك استمتعوا بالسباحة والصيد والتجذيف في نهر بسيول، واستضافوا فيه كثيراً من أصدقائهم وأقاموا العديد من جلسات القراءة والحفلات الموسيقية وموائد الطعام، وكتب تشيخوف هناك قصصاً قصيرة ومسرحية "شيطان الغابة".
في العام 1960 تم تحويل البيت الصيفي إلى متحف تكريماً للكاتب في الذكرى المئوية لميلاده. إنه متحف صغير مقارنة بمتاحف تشيخوف الأخرى الموجودة في موسكو وميليخوفو ويالطا، لكن الذكريات التي حظي بها هناك لا تزال تتردد حتى يومنا هذا في قصصه ومسرحياته، كما تتردد بين جنبات المعرض التذكاري عن حياته في لوكا وعن مساعدته الطبية لسكان القرية الفقراء وعن أعماله الفريدة وأسفاره في جميع أنحاء أوكرانيا.
كان تشيخوف شخصاً بسيطاً للغاية يكره التكلف في كل شيء، بخاصة في الكتابة، وحين يتحدث إليه أحدهم على نحو يجعله يبدو ذكياً يرد تشيخوف بكلمات بسيطة واضحة تجبر محدثه على الانطلاق بعفوية، فيبدو أكثر ذكاء وجمالاً.
في مقدمة المجلد الأول من أعمال تشيخوف يروي مترجمه أبوبكر يوسف قصة عن مدرس كان في زيارته، وحين قام ليودعه أمسك بكلتا يديه يد تشيخوف الصغيرة ذات الأنامل الدقيقة وهزها وهو يقول، "عندما جئت إليك كنت كأني قادم إلى رؤسائي، أشعر بالوجل والرعشة، فانتفخت كالديك الرومي، أردت أن أريك أنني أيضاً لي شأن، وهآنذا أمضي فكأني أفارق شخصاً طيباً قريباً يفهم كل شيء، ياله من شيء عظيم أن تفهم كل شيء. شكرا لك. إنني ذاهب وأحمل معي فكرة طيبة، أن العظماء هم أبسط وأكثر قرباً بأرواحهم إلينا من كل هؤلاء الحقراء الذين نعيش بينهم. وداعاً لن أنساك أبداً".
حالياً لا يوصى بزيارة تشيخوف
في فترة ليست ببعيدة عندما كان زوار المتحف يصلون إلى بوابته كان عليهم التحلي بالصبر، يدقون الجرس عدة مرات وينتظرون إلى أن تسمح لهم السيدة المسؤولة عن المكان بالدخول، أما الآن فهي لا تستطيع الرد على أي أحد، ولا حتى عبر صفحة المتحف الرسمية التي كتب عليها بالخط العريض "يوصى حالياً بتجنب السفر إلى أوكرانيا بسبب النزاع المسلح ومخاطر السلامة الجسيمة"، فالمتحف مغلق الآن.
بعد أسبوع من الغزو الروسي لأوكرانيا تلقت الكاتبة والمترجمة أليسون أندرسون رسالة من أحد معارفها يخبرها فيها أن المعارك والهجمات الجوية على أشدها كل يوم في منطقة سومي، المدينة المحاطة بالقوات الروسية، لكن ما يجعل كثيراً من الناس قلقين بالفعل هو التراث الثقافي للمدينة، بخاصة مصير متحف تشيخوف، لأن صوت القتال يأتيهم من منطقة قريبة منه.
بعد وقت قصير من الرسالة الأولى تلقت أندرسون رسالة أخرى من أستاذ جامعي في روسيا يشعر بالقلق الشديد لأنه فشل في الاتصال بالمسؤولين عن المتحف، وهو ما اضطره إلى التواصل مع زميل باحث في أعمال تشيخوف في موسكو طالباً منه تقديم مناشدة عاجلة إلى وزارة الدفاع بشأن المتحف، فالكثير من الجنود على حدود سومي درسوا بالتأكيد أعمال تشيخوف في مدارسهم.
إنه منزل صغير يقع وراء الطريق المؤدي إلى النهر فى قسم هادئ نوعاً ما من المدينة. تدلف إلى غرفه بمحتوياتها من القطع الأثرية الثمينة التي تبرعت بها أخت الكاتب وأرملته، أدواته الطبية، نظارته، الصورة التي رسمها له شقيقه نيكولاي، قبعة البستنة التي كانت ترتديها أخته ماشا، ثم تقابلك حديقته المزروعة بأزهار السوسن والشرفة الجميلة المطلة عليها.
يتألف معرض المتحف من غرفة للرسم وأخرى لتناول الطعام مع تصاميم داخلية أعيد بناؤها ومكتب تشيخوف وزاوية لتركيب الأدوية، وتتضمن مجموعة المتحف مقتنيات شخصية، والطبعات الأولى لكتب تشيخوف ووثائق أصلية وصوراً فوتوغرافية. جزء من المعرض مخصص لنيكولاي ويحتوي من بين وثائق أخرى على رسوماته الأصلية.
هنا عاش تشيخوف
كان الكاتب والمسرحي الكبير أنطون تشيخوف يحلم بالاستقرار في لوكا إلى الأبد، لكن حلمه لم يتحقق. في رسائله كتب بحرارة عن الفترة التي قضاها في أوكرانيا، وكانت آنذاك إحدى مقاطعات الإمبراطورية الروسية قائلاً "إن الدير والبحر الأدرياتيكي رائعان، لكن لوكا ونهر بسيل هما الأكثر روعة".
لقد وظف تشيخوف انطباعاته عن سومي في قصص كثيرة منها "عيد الاسم" و"قصة مملة" ومسرحيات مثل "ليشي" و "النورس"، لكن هناك صلة قاتمة بالمكان أيضاً، فقد توفي شقيق تشيخوف نيكولاي عام 1889 ودفن في مقبرة لوكا، وبعد الجنازة أمضت الأسرة بعض الوقت في دير بالقرب من مدينة أوختيركا، وأصبح مضيفوهم في لوكا أصدقاء مدى الحياة.
بعد عودته إلى موسكو في سبتمبر (أيلول) 1889، لم يزر تشيخوف لوكا مرة أخرى. كتب إلى إحدى بنات لينتفاريوف، "لقد تركت روحي ورائي في لوكا". نبرة بقية الرسالة ساخرة كما عادته دائماً، يتحدث بحرارة وجدية ثم يسخر من نفسه ومن حديثه، لكن في هذه السخرية تستشعر شيئاً من الحزن الشفيف والتواضع والحساسية المفرطة. وكما كانت المنطقة وسكانها مصدر إلهام ثري لتشيخوف فإن سومي بدورها تفخر بأنها لعبت دوراً مهماً في حياته، وهكذا استمرت في تكريم إرثه منذ العام 1960، وحولت منزله إلى متحف وكرمته كواحد من أبنائها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برزت أزمة ملكية التاريخ الأدبي لأنطون تشيخوف عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، فعلى الرغم من أنه معروف ككاتب روسي، أمضى وقتاً طويلاً في أوكرانيا وكانت جدته من جهة الأب إفروسينيا شيمكو فتاة أوكرانية، وخلال طفولته استمع إلى الأغاني الأوكرانية في بيته. وفي الوقت الذي تعده روسيا كاتباً روسياً بامتياز، تحتفي به أوكرانيا ككاتب أوكراني، لكن روسيا تحتج بأنه كتب أعماله باللغة الروسية، كما أن تولستوي أطلق على تشيخوف الذي سالت دماء أوكرانيا في عروقه "أكثر كاتب روسي". وعلى الرغم من أن أعمال تشيخوف اعتبرها الجانبان ملكية وطنية، فلم يتمكن كلاهما من الحفاظ على هذا الإرث، كما حدث لمتحفه في يالطا الذي باتت مسؤولية صيانته محل نزاع بعد أن أصبحت القرم جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي داخل أوكرانيا، لكن موازنة وزارة الثقافة كانت ضئيلة للغاية، وودت لو تدفع الحكومة الروسية كلف الصيانة طالما أن تشيخوف روسي والروس لا يوافقون.
يمكن قياس خطورة المشكلة من حقيقة أنه في العام 1999 لم يعد هناك ببساطة أي أموال لدفع كلف خدمات الأمن، واضطر مدير المتحف غينادي شاليوغين في وقت من الأوقات إلى دعوة كاميرات التلفزيون لتصويره وهو يقوم بجولات في المتحف بنفسه مع كلبه، ودفع هذا مراسل أخبار موسكو بذكاء إلى اقتراح عنوان لقصة جديدة على غرار عنواين تشيخوف "الرجل النبيل مع الكلب الصغير". وعندما زار الرئيس بوتين مع ليونيد كوتشما الرئيس الأوكراني في الرابع من مايو (أيار) 2003، بدت المساعدة قريبة، لكن الرئيسين اكتفيا بتدوين شكرهما الجزيل في كتاب الزوار، حتى إن بوتين قدم للمتحف كتاباً عن الحرف اليدوية الوطنية تاركاً بطاقة زيارته من دون التبرع بروبل واحد.